العمّال الزراعيون ومجتمعاتهم بين السودان وأمريكا: مقارنة ودروس

إعداد: محمد علي مَهَلة وقصي همرور 
مايو 2018

قصة أحفاد الأفارقة المستجلبين قهرا من قارّتهم إلى الأمريكيتين (ما سمّي وقتها بالعالم الجديد) من أكثر قصص التاريخ حكاية لمستويات الظلم والاستغلال التي يقدر عليها البشر تجاه بعضهم بعضا، كما هي أيضا من أكثر قصص التاريخ حكاية لإمكانيات المقاومة المتراكمة، مع التحمّل ذي المدى الطويل، التي يقدر عليها البشر أيضا.

وتلك القصة عموما ذات أصداء، سابقة ولاحقة، في عموما التاريخ البشري. كل جزئية من جزئياتها لها ما يقابلها نسبيا في قصص أخرى يمتلئ بها تاريخنا القديم والحديث. بيد أن بعض القصص تحمل تشابهات أكثر من غيرها؛ تشابهات تلفت النظر أكثر وتذكّر أكثر من غيرها. ذلك هو الحال بخصوص قصة المزارعين الأجيرين، الأفارقة الأمريكان، في جنوب الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية الأمريكية، وقصة مجتمعات العمّال الزراعيين (سكان الكنابي) في شمال السودان.

هذه الورقة تسلط ضوءًا على قضية مجتمعات الكنابي من منظور مقارنة بين قصتهم وقصة العمّال الزراعيين الأفارقة الأمريكان في الولايات المتحدة ابان حقبة الفصل العنصري، لاستخلاص عِبَر ودروس. المشترَكات العامة بين القصتين مثيرة للانتباه، وهنالك ثلاثة أكثر بروزا. المشترَك الأول نمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج، بين العمّال الزراعيين وملّاك الأراضي، وفق نظام “المزارَعة” (sharecropping) وهو نظام قديم ومعروف في مجتمعات كثيرة بنُسخات متنوّعة، بحيث تتعدد تفرّعاته وفق شروط العقد ووفق المؤسسات التي تنظمه في المجتمع كما وفق علاقات السلطة فيه. المشترَك الثاني الوضع الاجتماعي للعمّال الزراعيين في القصّتين، ففي الأولى كانوا يعيشون في حقبة الفصل العنصري في الجنوب الأمريكي والتي تلت حقبة إعادة الإعمار التي تلت حقبة الحرب الأهلية والتخلص من نظام الرق، وفي القصة الثانية يعيشون ضمن شروط مليئة بالتنكّر لحقوق المواطنة وبالاستعلاء الإثني الذي يُتّخذ مطية لاستمرار احتكارات السلطة والثروة والحرمان التنموي. المشترك الثالث كَوْن العمّال الزراعيين فئة ثقيلة الوزن جدا في عملية الإنتاج كلها وفي رفد الاقتصاد العام للمناطق المعنية، في القصتين، بحيث أن تلك القوة الإنتاجية الواضحة، التي لا غنى عنها، لم تُتَرجّم بعد لاحترام مستحق في العملية كلها بسبب سياسات وتعصّبات معيّنة لا تفسير معقول لها سوى آليات الاستغلال.

المزارعون الأجيرون في الجنوب الامريكي (sharecroppers)
الحرب الأهلية الأمريكية انتهت عموما في 1865 بانتصار “الاتحاد” (أي الولايات الشمالية والولايات المتاخمة) على “الكونفدرالية” (أو الولايات الجنوبية) التي طالبت باستقلال أكبر في السلطة الولائية، خصوصا فيما يتعلّق بتقنين الرق وتمديده في تلك الولايات، إذ أن الرق كان مؤسسة مهمة لاقتصاد الولايات الجنوبية حيث كان الإنتاج الزراعي – وبخاصة المحاصيل النقدية – عموده الفقري. دامت الحرب الاهلية حوالي 5 سنوات وألحقت دمارا كبيرا في اقتصاد وبنية الجنوب الأمريكي. تلتها فترة سمّيت بحقبة إعادة الإعمار، لم تدم طويلا، وكان غرضها إعادة تأهيل البلاد من الحرب الأهلية (وخصوصا الجنوب) مع استيعاب الأوضاع الجديدة التي استعاد معها أكثر من ثلاثة ملايين من البشر حرّيتهم من الرق في تلك البلاد. حاولت حقبة إعادة الإعمار حلّ الإشكاليات العملية لظهور هذا العدد الكبير من “المحرّرين” الذين لا يملكون أي أراضي أو شبكات عمل أو موارد اقتصادية بعد تحررهم من مؤسسة جعلتهم هم أنفسهم “أملاك” لأجيال، ومع تحرّرهم من قيد الرق لم يعد لديهم سوى عمالتهم والقليل من القدرات المستقلة التي لم يسمح لهم نظام الرق بأكثر منها (مثل بعض التعليم البسيط والمهارات التقانية والإجرائية بخلاف العمالة المباشرة في الزراعة والصناعة). حاولت حقبة إعادة الإعمار، بقيادة بعض ذوي المقاصد الإيجابية في ذلك الزمن، إعادة تمكين المحرّرين كمواطنين جُدُد بحيث يستطيعوا الاندماج بإنتاجية وضمانات حقوقية في المجتمع، من أجل إعادة استقرار المجتمع نفسه ومن أجلهم كذلك. لكن نهاية الحرب الأهلية لم تكن تعني نهاية العنصرية المؤسسية (institutional racism) في الولايات المتحدة. تلك العنصرية المتشرّبة فيها عبر أجيال ليس في الثقافة العامة فحسب وإنما في أنماط الاقتصاد وعلاقات العمل ومكامن الخبرة التقانية والإدارية كذلك، وليس في الجنوب فحسب بل في الشمال أيضا. انتهت حقبة إعادة الإعمار في أواخر السبعينات من القرن التاسع عشر (أي بعد قرابة عشر سنوات من نهاية الحرب الأهلية) قبل أن تبلغ من مقاصدها الكثير لظروف كثيرة، وبدأت بعدها حقبة الفصل العنصري (segregation) التي كانت مقنّنة في الجنوب بصورة رسمية ومعاشة في الشمال عبر الممارسة المؤسسية بدون صراحة قانونية. استمرت حقبة الفصل العنصري تلك قرابة قرن كامل في عموم الولايات المتحدة مع نتائج أكثر سفورا في الجنوب، حتى حقبة تبلور النضال من أجل الحقوق المدنية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. منذ ذلك الوقت وحتى الآن حصلت نقلة كبيرة في علاقات العنصرية ومؤسساتها في الولايات المتحدة، لكن تلك النقلة لم تنجح في إنهاء العنصرية بصورة كاملة في تلك البلاد، كما الحال اليوم في عموم العالم.

وفق شروط حقبة الفصل العنصري، في الجنوب الأمريكي، وجد المواطنون السُود – أو الأفارقة الأمريكان، أو المواطنون الزنوج – أنفسهم يدفعون ثمن استعادة حرّيتهم باهظا، لأن الجنوب الأبيض كان يرى حريّتهم تلك تذكرة دائمة له بخسارة الحرب الأهلية، وكان غير مستعد لاستيعابهم في مجتمعه كأنداد متساوين إذ تعوّد تماما على كونهم فئة دنيا في عموم المجتمع برغم مساهمتها الأصيلة فيه (فقد كان الاقتصاد الجنوبي يقوم على أكتاف السُود، في الزراعة وحتى في الصناعات وتشييد البنية التحتية، لدرجة أن مساهمتهم تلك هي التي أتاحت الفرصة، للمفارقة، لكثير من البِيض الجنوبيين كيما يتفرغوا ليلتحقوا بالعسكرية في الحرب الأهلية ليدافعوا عن الإبقاء على مؤسسة الرق في الجنوب). وفي وسط بيئة عدوانية تجاههم، وفرص كسب عيش ضيّقة عمليا، زحف الكثير منهم إلى مدن الشمال (وبعض مدن الجنوب والولايات المتاخمة) حيث لم تكن أوضاعهم هنالك حسنة ولكن على الأقل أقل غلظة وامتهانا مقارنة بعموم الجنوب. لكن لم يكن بالإمكان عمليا لهم جميعا أن يرحلوا من الجنوب. أولا الارتحال كان مكلّفا وعواقبه غير مضمونة، فالمدن غير مرحابة وحين تكتظ أحياء السود هناك تصبح مرتعا للجريمة والفقر والمرض، بسبب غياب فرص العمل الكافية ومرافق البنية التحتية المناسبة؛ علاوة على ما اشتهرت به أحياء “الملوّنين” في المدن من مواجهة دائمة لبوليس فظ وعنيف وعنصري يعمل لاحتوائهم وليس لحمايتهم. الاقتصاد الجنوبي رغم كل شيء كان ما زال قادرا على استيعاب الكثير منهم، عبر مصادر كسب عيش أوضح من المصائر المجهولة في المدن، خصوصا بالنسبة للأسر والعوائل التي فضّلت الإبقاء على شبكاتها الاجتماعية في مكان واحد كأسلوب بقاء وحماية أفضل من التشتت في المدن؛ إضافة إلى كون الجنوب هو أكثر مكان يعرفون كيف يكسبون منه عيشهم: عبر الزراعة. في تلك الأجواء الصعبة ظهرت نسخة نظام المزارَعة (sharecropping) الخاصة بالجنوب الأمريكي.

ونظام المزارَعة عموما نظام قديم ومعروف في مجتمعات كثيرة، وفق نُسخات متنوّعة. هي نوع من العقود الزراعية بموجبها يؤجّر الطرف الذي يملك الأرض الزراعية أرضه لطرف آخر يفلحها ويتعهّدها كيما تخرج محاصيلا على أن يقتسم الطرفان تلك المحاصيل وفق حصة متفق عليها (كالنصف أو الثلث مثلا). بذلك فإن مالك الأرض غير القادر (أو غير الراغب) في زراعتها يكسب بأن يجعلها عهدة عند من يقدر ويرغب في زراعتها، والصورة العامة أن العقد فيه كسب للطرفين معا، إذ أن صاحب العمالة يُعطَى الأرض لفترة معلومة كي يستخرج منها كسبه، ومالك الأرض يكسب من ذلك عبر الاستفادة من حصته من المحصول في آخر الموسم الزراعي (إما ببيع حصّته تلك أو إدخالها في عملية صناعة زراعية أو استهلاكها). صاحب العمالة يستأجر الأرض ولكن بدون أن يدفع ثمن ذلك من ماله مقدّما (والذي في الغالب ليس عنده) إنما عبر دفع حصة معلومة من المحصول لمالك الأرض حين الحصاد، وفي المقابل يستقر في أرض زراعية يعمل عليها ويتحفّز لإعلاء الإنتاجية منها لحصّته فيها. هذه هي الصورة العامة لنظام المزارعة، بحيث تتعدد تفرّعاته بعد ذلك وفق شروط العقد ووفق المؤسسات التي تنظمه في المجتمع، وكذلك وفق علاقات السلطة والثروة في ذلك المجتمع بين مُلّاك الأراضي وأصحاب العمالة.

تلك الجزئية الأخيرة من ظروف عقد المزارَعة (علاقات السلطة والثروة بين مُلّاك الأراضي وأصحاب العمالة) كانت الجزئية المحورية في خلق نسخة المزارعة التي اشتهرت في الجنوب الأمريكي في حقبة الفصل العنصري. المواطنون السود وجدوا أنفسهم بين مطرقة الضغوط الاقتصادية، التي تدفعهم لقبول شروط عمل مجحفة بغية كسب العيش، وسندان بيئة تتسم بالعنصرية المؤسسية، المترجَمة إلى الواقع في تمايز فلكي في ميزان السلطة والثروة بين البِيض والأقليات. أما الاستعلاء الاجتماعي والثقافي، فوق ذلك، فكان ثمرة طبيعية لتلك الأوضاع، وكان يساعد في إعادة إنتاجها مع الأجيال المتعاقبة.

في تلك الحقبة ظهرت عقود المزارعة بشكل كبير في الجنوب الأمريكي، خصوصا في مزارع المحاصيل النقدية (وبخاصة القطن). الأوضاع الاقتصادية حينها عموما جعلت حتى بعض المزارعين البيض يلجأون لترك مزارعهم الصغيرة (بيعها) والعمل في المزارَعة، أو أحيانا استئجار الأراضي الزراعية (وهو نظام مختلف قليلا عن المزارعة وكانت فيه ندّية أكثر مع مالك الأرض واستقلال عنه). بالنسبة للمزارعين الأفارقة الأمريكان كان نصيبهم من عقود المزارَعة أسوأ العقود. في كثير من الأحيان كان يُفرَض عليهم قبول عقود مزارعة تشترط قرار ومراقبة مُلّاك الأراضي وتحديدهم للمحاصيل المطلوبة، ولكون الكثير من هؤلاء المزارعين كانوا يبدأون من لا شيء (إذ أن معظمهم لم يكونوا يملكون حتى أدوات الزراعة أو متطلبات السكن الخاصة بهم)، كان عليهم أيضا تغطية تكاليف معيشتهم طيلة الموسم حتى وقت الحصاد، ولذلك كانوا يلجأون للاقتراض المالي المشروط من بعض تجار المحاصيل بحيث يتم تسديد قروضهم عبر حصتهم من المحصول وقت الحصاد. مرة أخرى، بين تسديد القرض لتاجر المحاصيل، وتسديد حصة مالك الأرض، كان الكثير من المزارعين الأجيرين يغطسون في الديون أكثر مع مرور المواسم، ما يدفعهم لقبول المزيد من الضغوط والشروط المجحفة (من ملّاك الأراضي وتجّار المحاصيل معا) مع تجديد كل عقد مزارعة، مع استمرار الاستعلاء الاجتماعي والثقافي ووقوف الجهات العدلية مواقف غير عادلة تجاههم (لدرجة استعمال العنف)، حتى مضى وقتٌ كان الكثير منهم تقريبا في نفس أوضاع الرقّ السابقة وإن كانوا قانونيا غير مسترقّين. بل ربّما يمكن المحاججة بأن العنصرية عموما شهدت عصرها الذهبي في الولايات المتحدة في حقبة الفصل العنصري أكثر من حقبة الرق، باعتبار أن حقبة الفصل العنصري كانت أصلا تدّعي أن جميع المواطنين سواسية أمام الدولة والمجتمع في حين كان كلا الدولة والمجتمع يعمل وفق آلية لا تعترف بالاستعلاء العنصري ضمنيا فحسب إنما تمدّد له وتقوّيه كذلك ليعيد إنتاج نفسه بصورة مستقرة لا يمكن استهدافها وتغييرها بسهولة (بخلاف حقبة الرق حيث كان من الممكن استهداف مؤسسة الرق بصورة مباشرة وإنهائها).

أحد التجلّيات الطبيعية لتلك الحقبة كانت انعزال فئات المجتمع حسب تصنيفها “العرقي” (أو المُعرقّن بالأصح، إذ أن ظاهرة العرق وسط البشر صناعة اجتماعية (سلطوية ثقافية) لا حقيقة علمية طبيعية، فالبشر لا توجد بينهم اختلافات عرقية بالمعنى “البيولوجي” كما عند بعض الحيوانات أخرى). كانت هنالك أحياء منعزلة للسود والملوّنين عموما، ومرافق عامة منعزلة، وإجراءات خدمة عامة ومظاهر بنية تحتية عامة متباينة، وكان الاختلاط الاجتماعي العام بين تلك التصنيفات قليل عموما وتسوده سمات الاستعلاء، مع الترهيب والتعيير لمن يحاول تجاوز تلك العوازل الاجتماعية، لدرجة صارت بها حتى الميزات المادية الخاصة لبعض الناس لا تعفيهم من أحكام المجتمع ومؤسساته العامة، إذ مثلا لم يكن الشخص الأسود صاحب التعليم العالي (نسبيا) أو صاحب الدخل المادي الممتاز (نسبيّا) أو صاحب الوظيفة المحترمة اجتماعيا (نسبيا) بأفضل مقام اجتماعي من شخص أبيض أدنى منه في تلك المكتسبات، لأن الأخير ما زال ينتمي عموما للفئة صاحبة اليد العليا تماما في السلطة والثروة وفق التصنيف العنصري، الرسمي أحيانا (كما كان في الجنوب) وغير الرسمي أحيانا أخرى (كما كان في بقية الولايات المتحدة).[1]

رغم تلك الظروف القاتمة، لم تتوقف عجلة التاريخ في تلك الدورة، فطموحات المقهورين في التحرر والتنمية، والحياة الأفضل عموما، كانت أقوى من كل تلك الضغوطات، وتوارثهم لتلك الطموحات كان يسابق سرعة إعادة إنتاج نظام الفصل العنصري لنفسه. جرت تفاصيل كثيرة من الصعود والهبوط، والمقاومة والمهادنة، والنجاح والفشل، والتحالفات والاشتباكات بين أطراف النزاع، لا يستوفي الحيّز والسياق سردها هنا. كانت مثلا إحدى الجوانب المشرقة في صراع العدالة ذلك أن ظهرت صيغ تعاونيّات زراعية للأفارقة الأمريكان، عن طريق تجمّعات منهم تتكافل اقتصاديا لتشتري أراضي خاصة بها وتغيّر معادلة القوة بين الملّاك والمزارعين. أيضا ظهرت اتجاهات قوية في بناء وتعزيز القوة الاقتصادية والسياسية العامة للأفارقة الامريكان عن طريق تنظيم أنفسهم وتنويع أنشطتهم الاقتصادية والخدمية العامة ليخلقوا نوعا من الاستقلال والتكافل المدني يجعلهم أقل هشاشة في وجه العناصر المعادية لهم في المجتمع والدولة.

بيد أن الخلاصة العامة هي أنه اليوم، في التاريخ الأمريكي، يُنظّر لتلك الحقبة التي سادت فيها عقود المزراعة في الجنوب على أنها كانت حقبة مليئة بالظلم السافر لفئات من المجتمع الأمريكي لدواعي لا يمكن وصفها بأي أوصاف أخلاقية أو قانونية. يمكن أن نقول إن تلك الحقبة على الأقل تعرّضت لمحاكمة تاريخية وأخلاقية وقانونية صارمة، صارت بعدها درسا عاما، في أمريكا وعموم العالم، لما يجب أن تتجاوزه البشرية، ولا تنتكس إليه مرة اخرى، من أشكال الظلم والعدوان على حقوق ومكتسبات الناس.

لكن بما أن لكل مجتمع قصته ووتيرته التاريخية الخاصة به، ذلك لا يعني أن جميع ظواهر الظلم والعدوان في إطار المجتمعات ذات الاقتصاد الزراعي انتهت اليوم وصارت كلها قصصا من الماضي. بعض القصص الشبيهة جدا لمستويات الظلم والاستعلاء التي حصلت في الجنوب الأمريكي، في حقبة الفصل العنصري ومن خلال نظام المزارعة، ما زالت حيّة اليوم. أحد تلك القصص، التي ما زالت مستمرة ويسطّرها التاريخ اليوم ليقرأها من في المستقبل، قصة مجتمعات العمّال الزراعيين (مجتمعات الكنابي) في السودان.

مجتمعات الكنابي في السودان[2]
عند إنشاء أول المشاريع الزراعية المروية بواسطة الادارة الاستعمارية البريطانية في السودان، بغرض توفير القطن لمصانع النسيج في بربطانيا، ظهر مشروع الجزيرة عام 1925م وامتداد المناقل عام 1958م والذي تقدر مساحته بـ 2 مليون و 200 ألف فدان. واجه المشروع نقصا حادا في العمالة نتيجة للزيادة المطردة للرقعة الزراعية وتنوع المحاصيل من قطن وذرة ثم اللوبيا والفلسبارا والقمح والفول السوداني، ونفور مجتمعات المنطقة من عمليات الزراعة المجهدة وهي مجتمعات رعوية بالأساس. تم سد نقص العمالة ذلك بتشجيع واستقدام عمالة من أقاليم غرب السودان من كردفان ودارفور ومجموعات امتداد الحزام السوداني القديم، من ممالك وداي وكانم وسكتو، حيث كانت هذه المجموعات منتشرة بالبلاد. هذه المجموعات أغلبيات من مجموعات التاما والبرقو والهوسا والمراريت والارنقا والفور والزغاوة وغيرهم. بعد ذلك استمرت هجرات هذه المجموعات لمشروع الجزيرة، وكذلك لبقية المشاريع الزراعية الأخرى كمشاريع حلفا الجديدة (1963م) والرهد الزراعي (1977م ) والسوكي الزراعي (1970م) بسبب توفر فرص العمل هنالك وغياب مشاريع التنمية في أقاليمهم بالإضافة لموجات الجفاف التي ضربت تلك الأقاليم.

مجتمعات الكنابي في تلك المناطق هي مجتمعات العمال الزراعيين الدائمين المستقرين بتلك المشاريع، مع أُسَرِهم وتتابع الأجيال التي وُلدَت هناك. حين قدموا عند تأسيس مشروع الجزيرة سكنوا في أطراف القرى وحول قنوات الري من الكنارات والترع وفي البراقين وحول مصارف المياه باللُقّد،[3] وسمّيت مناطق سكنهم تلك “الكنابي” (جمع “كَنْبُو” أو “كَمْبُو”). أصبحوا يقومون بأساس العملية الإنتاجية من بداية الزراعة ونظافة الحشائش وعمليات الحصاد. النتيجة هي أن العمال الزراعيين فئة لا تملك أرضا زراعية وتعمل في الأراضي الزراعية المملّكة ملك منفعة من الدولة لفئة المزارعين، حيث يعمل هؤلاء العمال بنظامي “الشراكة أو الإيجار” (وهما نظاما مزارعة) في علاقة مع ملّاك الأراضي. المزارَعة هي علاقة العمل الأرسخ مع وجود علاقات بالعمل بأجر مثل اليومية والقوال[4] في سوق العمل الزراعي. في نظام الشراكة يقوم العمال الزراعيون بكل العمليات الفلاحية للأرض من زراعة ونظافة حشائش وحصاد ومن ثم يقومون بقسمة المحصود الإنتاجي بالنصف أو الثلث مع المزراع (مالك الأرض) مع العلم بتقاسم العمال الزراعيين والمزارعين تكلفة تحضير الأرض والضرائب المفروضة من الدولة. أما نظام الإيجار ففيه يقوم العمال الزراعيون باستئجار الأرض من المزارع (مالك الأرض) بموسم زراعي واحد وللعامل الزراعي حق الانتفاع بكامل محصول الموسم.

بين حيف الدولة وتعصّب المجتمعيغيب العمال الزراعيون عن العلاقات الإدارية والقانونية الموجودة بين الأطراف التي تدير المشروع (وهي الحكومة، وإدارة المشروع، والمزارعين). أما الكنابي فتكون على مساحات ضيقة جداً وأماكنها لا تصلح لأن يكون بها سكن لائق مستقر. تعاني الكنابي كذلك من غياب مصادر مياه الشرب الصحية إذ لا توجد صهاريج للمياه ولا توجد مراكز صحية للعلاج ولا مدارس للتعليم. أما على الصعيد الاجتماعي فتعاني مجتمعات العمال الزراعيين في الكنابي من العزلة الاجتماعية وتدني نسب التعليم وغياب الوعي الصحي مثل كيفية التعامل السليم مع الأسمدة والمبيدات المنتشرة في المشروع. تقدر عدد الكنابي حاليا بـ 1400 كمبو يقطنها ما يزيد عن مليوني نسمة.

فوق ذلك، تدهور الوضع الاقتصادي لمجتمعات الكنابي مع تدهور المشاريع الزراعية، فغلاء عملية الإيجار (الدقندة)[5] للأرض الزراعية  وعدم جدوى عملية الشراكة، وتدني أجرة القوال واليوميات، جعلت العائد من هذه العمليات لا يلبي طموح الأجيال الجديدة من أبناء العمال الزراعيين التي تسعي لواقع افضل، فاختار عددُ من شباب مجتمعات الكنابي الهجرة خارج  البلاد (مثل غيرهم من بقية شباب البلد)، والبعض توجه إلى مناطق التعدين الأهلي للذهب، وآخرون أصبحوا رصيدا للعمالة الهامشية في المدن. هذا التحول ترتّب عليه واقع جديد جعل أعباء العملية الزراعية  تقع على عاتق كبار السن والنساء والأطفال الطلاب، وقد قلّل هذا الواقع من فرص مواصلة الطلاب لتعليمهم في مجتمعات تعاني أصلا من تدني نسب التعليم وخاصة تعليم البنات.

وفق هذه الظروف تتضاعف معاناة سكّان الكنابي وهم بين مطرقة مجتمع متعصّب بالاستعلاء الإثني والطبقي من جهة، وسندان دولة ترفض الاعتراف بهم أو بمساكنهم وأعمالهم اعترافا رسمي، تكون لديهم وفقه حقوق مواطنة قانونية وتنموية، من جهة أخرى.

لاشك ان عصر الدولة الحديث هو عصر دولة المواطنة والتي تكون هي اساس للحقوق والواجبات. لكن في السودان وضع مختلّ فيه تكون الدولة، ممثَّلة في سياساتها وقوانينها، متحيزة ضد كثير من المجموعات الإثنية ومنها مجموعات العمّال الزراعيين. عبر الخطاب الرسمي للدولة تتم عملية تغريب لبعض مجموعات سكان الكنابي ويتم دمغهم بأنهم أجانب، في خطاب أقل مايوصف بأنه خطاب دولة القوميات لا دولة المواطنة، فمثلا يتم إقصاء كثير من مجموعات التاما والبرقو والهوسا والفولاني والزغاوة بمنطق أن جذورهم من مناطق بلاد السودان القديمة (الأوسط في وداي وكانم، والغربي في بلاد الغانا وسنغاي)، بينما نفس منطق الإقصاء يتحاشى الحديث عن تواريخ ممالك وسلطنات بلاد السودان الكبير وعلاقات هجراتها وحركاتها الداخلية قبل قدوم شكل الدولة الحديثة مع الاستعمار، وكذلك يتحاشى الحديث عن كون الكثير من المجموعات التي لا تشكك الدولة في مواطنتها هم كذلك أحفاد مهاجرين من الشرق الأوسط بنفس المنطق. بل إن الكثير من متبني منطق الإقصاء والإسقاط لأصالة هذه المجموعات التي تشكّل مزيج مجتمعات الكنابي لا يدرون مثلا أن دولة مالي الحالية حتى العام ١٩٥٩ كانت تسمى الجمهورية السودانية وهي إحدى بلاد السودان الغربي. ناهيك عن أن أساس المضمون والشكل للدولة الحديثة هو المواطنة. بطبيعة الحال فمفهوم الإقصاء هذا متجذر في الخطاب الرسمي للدولة السودانية ويتم إسقاطه على مجموعات أخرى كذلك، كبعض المجموعات من شرق السودان أيضا. والملاحظ كذلك أن هناك مجموعات ضمن سكان الكنابي من النوبة والفور وهي بلا امتداد خارج الحدود الحالية للدولة السودانية وهي مكوّن أساسي لبعض الكنابي في حلفا الجديدة لكنها أيضا محرومة من الحقوق، الأمر الذي يؤكد أن التحيزات بلا منطق غير منطق العنصرية والإقصاء.

ولغياب الربط القانوني والإداري بين عمال الكنابي والعلاقات الإدارية والقانونية مع الحكومة وإدارة المشروع والمزارعين، لا يأتيهم أي عائد ثابت من عملية إنتاجية هم أساسها، ولا يمكنهم ان يتلقوا تمويلات من بنك المزارع أو البنك الزراعي، وليس لهم جسم فئوي يدافع عن حقوقهم ولا تمثيل لهم في ادارات المشاريع فهم على وجه الدقة بلا سقف حماية مؤسسي.

فوق ذلك تقوم الدولة، بين فينة وفينة – وضمن عدم اعترافها بمناطق الكنابي كمناطق سكن رسمي – بتدمير بعض قرى الكنابي وتهجير سكّانها قسرا (مثلما حدث في 1999 لأهل قرية كمبو وادي شعير)؛ ذلك بدل اعتبار واقع أن هؤلاء السكان يحتاجون لتمديد خدمات عامة وبنية تحتية مثل الماء والكهرباء والصرف الصحي. يضاف إلى ذلك ممارسات من شاكلة طرد أبناء الكنابي من المدارس وحرمانهم من الامتحانات (مثلما حدث لأهل قرية كمبو محمد زين في 2011).

“وما حادثة كمبو افطس التي وقعت [في يوم الأربعاء 25 أبريل 2018] إلا مثالا ساطعا… قامت الأجهزة الأمنية والشرطية بمداهمة كمبو بقرية افطس بوحدة الربع الإدارية التابعة لمحلية الحصاحيصا ونفذت إزالة جبرية دون أن تمهلهم غير نصف ساعة لإخراج أغراضهم ومتعلقاتهم، ولم تعط الشرطة اي فرصة لتفاوض او تسوية فلم يجد مواطني الكمبو مناصا إلا الوقوف في مواجهة السلطة الغاشمة فاخضعتهم بالقوة واعتقلت شبابهم وشيوخهم، وفعلت ذلك تحت وابل من الغاز المسيل للدموع الأمر الذي أدى إلى إشعال الحرائق في عملية تعسفية من قبل السلطات.”[6]

كلّ ذلك يضاف إليه تعامل استعلائي اجتماعي عام من عموم المجتمع المحيط تجاه أبناء وبنات الكنابي، الأمر الذي يحدّ من إمكانيات انتقالهم للمناطق السكنية المعتبرة والتعايش مع السكّان الآخرين وفق عقد اجتماعي عام من الاحترام المتبادل والسلام الاجتماعي، ومساحات الاختلاط والتزاوج الطبيعية التي تنشأ في تلك الظروف (حين تكون ظروفا طبيعية).

لذلك فقضية العمال الزراعيين قضية حقوق سياسية اقتصادية واجتماعية وخدمية تتطلب معالجة جذرية مع عملية بناء الدولة السودانية بأسس جديدة وسليمة، وأن يتم التعامل مع هذه القضية بنهج جديد متجاوز لنهج النادي السياسي القديم الذي في أفضل حالاته تاجرَ بها أو تغاضى عنها.

اتجّاهات العمل الآنبالرغم من  هذا الواقع القاهر، أثبتت مجتمعات العمال الزراعيين أنها مجتمعات قوية الارادة، واجهت واقع الاقصاء بقوة واختطّت لنفسها مسار تطور وتنمية خارج سياق دعم الدولة. في السنوات الاخيرة خاضت كفاح نيل حقوقها، وبدأت في معالجة قضايا السكن والخدمات عبر الجهد الذاتي، حيث استطاع البعض شراء أراضي سكنية بحُرّ مالهم وحوّلوها إلى قرى، وآخرون حوّلوا كنابيهم التي على أطراف القرى إلى أحياء تتبع لتلك القرى، أو لقرى منفصلة، والأكثرية مازالت في البحث عن حلول لوضعية كنابيهم.

في 2005 كان هنالك برنامج لحكومة ولاية الجزيرة  لمعالجة قضية سكن الكنابي،  يعرف بمشروع السكن الاضطراري، كانت خطته أن يبدأ بمحلية الحصاحيصا فتم فتح مكاتب بوحداتها الإدارية وتم تحصيل رسوم استمارات من مواطني الكنابي فدفعوا ملايين الجنيهات، لكن المشروع توقف وأغلِقت مكاتبه وضاعت أموال مواطني الكنابي التي دفعوها.

أول مبادرات الأجسام المنظمة هي لتنظيم مؤتمر الكنابي الذي تم تأسيسه بالقاهرة في مارس 2013، وصاغ أعضاؤه داخل السودان مذكرة احتجاج تطالب بإنصاف مواطني الكنابي، ذُيّلت بنسخة إلى رئاسة الجمهورية ووالي الجزيرة ومعتمدي المحليات بالجزيرة. ثاني المبادرات هي مبادرة مجتمعات العمال الزراعيين للحقوق والتنمية (CIALRD) التي بدأت في فبراير 6102 بهدف طرح القضية لتضمن كإحدى القضايا الوطنية وإجراء دراسات لقضايا العمال الزراعيين وبناء قدرات الشباب للمساهمة في تنمية مجتمعاتهم.

عموما، آفاق الحلول لقضايا العمال الزراعيين تبدأ بالمعرفة الحقيقية للواقع وتعقيداته، والتغيرات الديمغرافية التي تمت بمناطق المشاريع الزراعية المروية والتركيبة السكانية الجديدة، الماثلة الآن، وكيفية إنصاف العمّال الزراعيين، وتحقيق التعايش المستدام بين المكونات المتواجدة في هذه المشاريع، وإدراك أهمية البحوث والدراسات في التخطيط للمستقبل، ودعم مبادرات مجتمعات العمال الزراعيين. ضمن كل ذلك هنالك ضرورة واضحة لأفق سياسي يتجذر فيه مفهوم المواطنة، ويكون التخطيط التنموي أولى اهتماماته، خصوصا واقع الفئات الريفية غير المنتظمة، كفئات العمال الزراعيين.

لأن واقع قضايا العمال الزراعيين معقد ومتراكم ومُهمَل تاريخيا فالحلول والمعالجات ليست بالأمر السهل، إذ تحتاج لنهج جديد من تكثيف الضغط على سلطات الدولة والمجتمع، وأن تدير مجتمعات الكنابي ومجتمعات المزارعين حوارات جادة لرفع سقف مشتركاتها والعمل لتغيير واقع الانقسام هذا.

هناك مقترحات لمعالجة القضايا الأساسية. بالنسبة لقضية السكن للكنابي فهنالك مقترحات تتمثل في (1) استمرار جهود المعالجات التي انتظمت في بعض الكنابي، والتي تتم عبر شراء أراضي عبر الجهد الذاتي ويتم تحويلها إلى قرى. توجد نماذج غير قليلة تمّت بهذه الطريقة على الرغم من أن بعضها واجه عقبات كبيرة تتعلق بتعنت بعض الجهات الرسمية والأهلية. (2) هنالك أيضا مقترح أن يتم اقتطاع جزء من أراضي المشروع الزراعي وتحويلها إلى قرى لمواطني الكنابي لمعالجة وضعية السكن غير الإنسانية هذه، وأن يتم ذلك بعد دراسات دقيقة تعالج كل الآثار المترتبة لهذا الخيار وبصورة عادلة. أما قي قضية علاقات العمل (3) فيمكن اجتراح شكل من أشكال الصناديق التعاونية يساعد الأُسَر في عملية تمويل عقود المزارَعة، أو أي تجمع منظم يتيح التعامل بشكل رسمي لكيفيات التمويل. (4) أيضا هنالك مقترح ان يكون للعمال الزراعيين علاقة ربط إداري وقانوني مع إدارات المشروع الزراعي، لتنظيم عملية الحقوق؛ لكنها مسألة صعبة لأن العمال الزراعيين فعليا فئة غير منتظمة وغائبة عن العلاقات الإدارية بين فئات المشروع (وهي الحكومة وإدارة المشروع والمزارعين)؛ لكن (5) هنالك مقترح أن يكون للعمال الزراعيين نصيب من سياسات ما بعد تغيير الوضع القائم الآن، فبالإمكان أن يتم تحويل جزء من العمال الزراعيين إلى مزارعين (ملّاك أراضي، ملكية منفعة) بإنشاء مشاريع جديدة أو امتدادات للمشاريع الحالية، وجزء آخر يتم استيعابة في المشاريع المرتبطة بعملية تحديث القطاع الزراعي بالسودان، وذلك يكون ضمن مساعي تحقيق أفق سياسي وتنموي جديد.

وفي مجابهة خطاب التغريب، المستخدم للانتقاص من حق المواطنة لبعض المجتمعات، فهذا يستوجب التصدي له بخطاب جديد، لخلق وعي متجذر بمفهوم المواطنة، وتقوية هذه المجتمعات عبر شبابها ومبادراتهم (مثل مؤتمر الكنابي ومبادرة مجتمعات العمال الزراعيين للحقوق والتنمية). يجب أيضا تشجيع دخول الفاعلين من مجتمعات العمال الزراعيين لتعزيز مسألة المشاركة السياسية، وبحث الطرق والكيفية التي تضمن وجودهم البنيوي داخل قوى بناء الدولة السودانية بأسس عادلة.

مقارنات وخلاصات
أحيانا ينفعنا نداء الحالات التاريخية القديمة التي تشبه حالات معاصرة، من عدة وجوه، كيما نأخذ الدروس والعِبَر من مآلات الحالة التاريخية لتعكس لنا السيناريوهات المحتملة للحالة المعاصرة.

المستفاد من القصة الأمريكية القديمة، للمواطنين الأمريكان السود، تسليط المزيد من الضوء على مدى الظلم والتهميش، السياسي والاجتماعي والتنموي، الذي يتعرّض له سكان الكنابي اليوم في عصرنا هذا. التاريخ يعلّمنا من تلك القصة القديمة، ومثيلاتها، أن قضايا أصحاب الحقوق لا تتوقف، فأهل مجتمعات الكنابي سيستمرون في المطالبة بحقوقهم العادلة وسيستمرون في قطع تلك الأرض الوعرة نحو مساحة أكبر من التنمية والتحرر، وأن على المنافحين عن قضايا العدالة في السودان، والراغبين في الوقوف في الجانب الصحيح من التاريخ، أن يقفوا مع سكان الكنابي في قضيّتهم اليوم، حتى لا يسطّر التاريخ غدا أنهم تخاذلوا عن نصرة أهل الحقوق أو تجاهلوهم. كل ذلك من أجل بناء واقع جديد للوطن السوداني، بدولته ومجتمعه، ينتقع منه الجميع ويكون أكثر استقرارا ورخاء.

هنالك زاوية مهمة في دروس العمل نحو التغيير، وهي الخلاصة التاريخية أن الفئات المظلومة والمحرومة في المجتمع، حين تنهض لقضاياها من أجل العدالة والتحرر، فهي غالبا ما تجد حلفاء لها من داخل الفئات الممتازة (أي ذوات الامتياز في السلطة والثروة). ذلك لأن الضمير ظاهرة متجاوزة للطبقات والفئات الاجتماعية والإثنية، وصوت الحق يلهم الكثيرين. بنفس القدر، للأسف، فإن وسط الفئات المحرومة نفسها يكون هنالك بعض ضعاف النفوس الذين يمكن استدراجهم للعمل ضد مصالح أهلهم ولمصالح الفئات الممتازة. بينما القضية في أصلها صراع اجتماعي حول السلطة والثروة، وعدالة توزيعهما، بين فئات اجتماعية متباينة، تبقى المواقف التاريخية مواقف أيدولوجية وأخلاقية بالمعنى العام. المواطنون الأمريكان المظلومون، على سبيل المثال، وجدوا أصواتا وسواعد مؤازرة لقضيّتهم العادلة من بين الأمريكان البيض وهم الفئة الممتازة هناك (المسيطرة ومستفيدة عموما من الأوضاع الظالمة)؛ وقد ساهم أولئك الحلفاء البيض كثيرا في حراك التحرر من الرق، وحراك فترة إعادة الإعمار، وحركة الحقوق المدنية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين.

بالنسبة لمجتمعات الكنابي، وغيرهم من الفئات السودانية المظلومة، فقضيّتهم حريّ بأي مواطنين سودانيين، من الفئات السودانية الممتازة، يتحلّون بيقظة الضمير وبُعدِ النظر من أجل مجتمع سوداني حديث، متحضّر ومتمدّن، حريّ بهم أن يناصروا قضية مجتمعات الكنابي، مناصرة قدر الاستطاعة، وضمن إطار عمل مشترك بين أنداد في سبيل آفاق مستقبلية أفضل للجميع. حين يكون الهدف من ورقة كهذه المساهمة في تنوير قطاعات الشعب السوداني المعنيّة بقضية سكان الكنابي، فهدف ذلك التنوير هو حث وتحريض تلك القطاعات على فعل شيء إيجابي بخصوص تلك القضية وليس العلم بها فحسب. هنالك رصد وافي للقضية، كما نرى، وهنالك بعض الحلفاء المعقولين حاليا كذلك (مثل تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل)، وهنالك مقترحات للعمل على تغيير الأوضاع، وهناك قوى فاعلة في ذلك الاتجاه. ما بقي هو المزيد من الحشد والتنظيم والعمل لجعل الاحتمالات الأفضل واقعا قريبا، وذلك ممكن.

(نشر بمجلة الحداثة السودانية، العدد العاشر، يونيو 2018، الصفحات 66- -71، مع بعض التعديلات التحريرية. يمكن الاطلاع على المقال في المجلة بالضغط هنا)

هوامش

[1] يمكن أن نقول إن الأوضاع عموما، في حقبة الفصل العنصري في الجنوب الامريكي، كانت مثل فترة “الأبارتيد” بجنوب افريقيا (والتي كانت أصلا محاكاة لنظام الجنوب الامريكي).
[2]هذه الفقرة من الورقة تمّ تجميعها من كتابات سابقة للمؤلف الأول في هذه الورقة، محمد علي مهلة. المؤلف الأول أحد أبناء مجتمعات العمّال الزراعيين ذوي التعليم العالي والمنخرطين في حراكهم الحالي من أجل الحقوق والتنمية. لذلك فالمادة المعلوماتية، والسردية، الموجودة في هذه الفقرة من الورقة مبنيّة على مصداقية فاعل ميداني هو أحد المكلّفين بالتعبير عن القضية من أهلها.
[3] اللُقّد مكان منخفض تتجمع فية المياه التي تخرج من قنوات الري الرئيسة وهي الكنارات والفرعية وهي الترع، فيسكن بعض سكان الكنابي في هذه الأماكن. والبرقان أيضا مثل اللقد.
[4] القوال هو عملية الاتفاق على أجر معلوم نتيجة لقيام العمال الزراعيين ببعض العمليات، كنظافة الحشائش وغيرها.
[5] الدقندة هي عملية ايجار الارض لموسم زراعي واحد.
[6] بيان سكرتارية تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل، الجمعة 27 أبريل 2018.

مراجع

محمد يوسف أحمد المصطفى. 1979. دراسة أكاديمية عن الوافدين وعلاقات الإنتاج بمشروع الجزيرة، في كتاب محمدالعوض جلال الدين ومحمد يوسف احمد المصطفى. الهجرة الوافدة إلى الهجرة الداخلية في السودان. الخرطوم: مطبعة جامعة الخرطوم.

عبدالهادي الصديق. 2005. الحزام السوداني: جغرافيته وتاريخه الحضاري. الخرطوم: مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي.

محمد علي مهلة. 2017. “العمال الزراعيون سكان الكنابي بالمشاريع الزراعية المروية بالسودان: الإشكالات وأفاق الحلول”. ورقة قدّمت ضمن ورشة عمل: نحو أفق سياسي وتنموي جديد في السودان. نيروبي 11-14 أكتوبر.

محمد علي مهلة. 2016. “قضايا الظلم الاجتماعي بالسودان: قضية العمال الزراعيين سكان الكنابي في المشاريع المروية والمطرية.” مقالة الكترونية، 22 فبراير. https://www.facebook.com/mohammed.a.ahmed.71619/posts/1394170227355688

W. E. B. Du Bois. 1907. The Souls of Black Folk: Essays and Sketches

Howard Zinn. 1980. A People’s History of the United States: 1492 – Present. HarperCollins Publishers

Federation of Southern Cooperatives/Land Assistance Fund. 2007. Four Decades (1967-2007): Historical Review of the Federation of Southern Cooperatives/Land Assistance Fund. Atlanta. http://www.federationsoutherncoop.com/fschistory/fsc40hist.pdf

Jess Gilbert. 2009. “Democratizing States and the Use of History.” Rural Sociology, vol. 74(1), pp. 3-24