مدخل أول:
بين الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، قامت تجربة “لجان الأحياء” في هايتي. لم يسمع بها معظم السودانيين والافارقة، لأسباب مفهومة، لكن تشابهات تلك التجربة مع “لجان المقاومة” السودانية (والتي سمّيت أحيانا بلجان الأحياء كذلك) تشابهات تبعث على التأمل المندهش، فهي مؤشر إلى أن عبقريات الشعوب ليست فلتات زمان أو طفرات لا تفسير لها، إذ يبدو، على أقل تقدير، أن تلك العبقريات تتفتح عن مساحات مبتكرة للمواطنة ولأنشطة أخرى وفق ظروفها ومعطياتها ومحدودياتها، وليس غريبا أن تتشابه بعض تلك المساحات المبتكرة، ولو عبر الزمان والمكان.
ألهمتنا تلك التجربة الهايتية، بعد أن وصلتنا عبر مجهودات بحثية مقدّرة من سودانيين مثلنا، مع تجارب أخرى (مثل تجربة حكومة القرية، بتنزانيا، كنموذج مطبق للحكم المحلي، ومثل تجارب حملة مناهضة الإجلاء في جنوب افريقيا والكميونات المحلية في فنزويلا)، فكانت من نتائج ذلك الإلهام إعداد ورقة مشتركة التأليف عن “لجان المقاومة كمساحات مبتكرة للمواطنة”، نشرتها إحدى منصات النشر التي أنجبتها لجان المقاومة السودانية، في أغسطس 2022. بمثل هذه المحاولات دخلت تجارب الحراك الشعبي في السودان مراحل أعمق من دراسة الواقع وتقوية الممارسة والنظرية بالتبادل بينهما (البراكسس)، كما نضجت بعض التصورات الحماسية الأولى (وهي تصورات مبررة ومشروعة) التي رسمت تجربة لجان المقاومة السودانية على أنها فريدة فرادة تامة في التاريخ الحديث ولا شبيه لها (فهي فريدة بالتأكيد، بيد أنها حلقة من عقد فريد). ساعدت هذه المحاولات البحثية كذلك على تصوّر سيناريوهات تتعلق بمستقبل لجان المقاومة، ليس على الصعيد السياسي فحسب وإنما على صعيد رصيدها الاجتماعي-سياسي الذي أورثته للشعب بخصوص التنظيم المحلي، اللامركزي، لتقوية قرار المجتمعات المحلية، ولتقوية مواقفها التفاوضية والدايلكتيكية مع الدولة (لدرجة أن أكثر من أنفقوا زمنا لفحص ظاهرة الدولة وهياكلها في الفترة الانتقالية كانوا أهل صلة بلجان المقاومة ومبادرات الحكم المحلي)، ولا غرو أن تلاقت بعض جهود الأجسام المطلبية اللامركزية وجهود لجان المقاومة إلى أن تبلورت في تحالفات معلنة.
مدخل ثاني:
يمضي الزمن، ويقوم في كينيا حراك شعبي مناهض لسياسات مالية دفعت بها الحكومة الكينية (المنتخبة، للمفارقة) عقب تورطها في قرض من صندوق النقد الدولي (القصة المكررة والتي لا يبدو أن النخب تتعلم منها شيئا)، ثم في أثناء تبلور ذلك الحراك، ونموّه واستيعابه لأهمية “ملء فراغ الفكر” بعد أن حصل الكثير من “ملء فراغ الحماس” لأجل التغيير، كان من بعض الناشطين في الحراك الكيني أن تذكروا ما جرى في الجارة الافريقية – السودان – مؤخرا، إثر الحراك الشعبي الذي أسقط نظام حكم شمولي/فاشي كبير، فحصل مستوى جديد من الاهتمام بما حصل السودان من جانب الكينيين، ومن أهم ما حصل الاهتمام به تجربة لجان المقاومة السودانية، ومساعي الاستفادة من التجارب المتراكمة للبلدان الافريقية مع صندوق النقد والبنك الدولي، وتقوية السيادة المحلية للاقتصاد عبر حملات التوعية بالتعاونيات (رغم أن تجربة التعاونيات في كينيا متقدمة إجمالا على نظيرتها في السودان، وذلك إثر تقهقر التجربة التعاونية السودانية لحوالي 30 عاما عن رصيفاتها في المنطقة، بسبب حكم نظام “الإنقاذ” الفاسد والمفسد)، بل وعودة الاهتمام بإرث حركات التحرر الوطني الافريقية.
تم التواصل بين بعض الفاعلين والباحثين في الحراك الشعبي، في البلدين، وتم تبادل بعض الخبرات والدروس عبر منصات تواصل اسفيري وإعلام غير رسمي…. وما زالت قصة الحراك الشعبي في البلدين مستمرة، لم تُكتَب نهاية لأيهما بعد. وعبر ذلك التواصل لم تصل لكينيا المزيد من المعلومات عن تجربة السودانيين فحسب، بل وصلت لهم كذلك -عبر ذلك التواصل – معلومات جديدة عليهم (نسبيا) حول تجربة هايتي وتجربة جنوب افريقيا.
——–
من الصعب جدا، في عمق الكوارث (والحروب أكبر الكوارث)، الحديث عن تبعات مستقبلية تحمل مواساة عن التكلفة الباهظة الحاضرة. من الصعب جدا وكذلك من غير اليقيني، لأنه إن كان بيننا من يرون المستقبل وكأنه حاضر أمامهم – لنفترض وجودهم لبرهة – إلا أن أغلبيتنا الشاسعة والفاعلة لا ترى ذلك ولا تملك أي يقين بخصوصه. يضاف لذلك أننا كبشر يغلبنا أن نستعيض عن بؤس الحاضر وآلامه المحسوسة بوعود قادمة؛ حتى لو صدقناها يصعب علينا أن نفهم لماذا عليها أن تكلّفنا كل هذه التكلفة الباهظة الآن.
لذلك، لا عزاء كبير ولا أمل يرجى من خطاب كهذا عندما نكون في عين العاصفة. قد يتطرق له بعض الناس بين المرة والأخرى، لكنه يبقى محدودا، وينبغي أن يكون.
بيد أن هناك التاريخ، وهو منبع آخر لخطابات مختلفة. التاريخ يقدم دروسا عامة، غير مضمونة تماما لكن لديها قيمتها من التواتر الذي يؤكد بعض الخلاصات بقدر كافي.
مثلا: يخبرنا التاريخ أن الحروب إجمالا تقوّي ذاكرة الشعوب، كشعوب. ذلك لأن ذاكرتنا تحفر فيها المآسي والأحداث الصعبة، المصيرية، والمنعطفات الحرجة جدا في سيرورة مجتمعاتنا، حفرا، وليس طلاءً أو نقشا سطحيا. وهي ذاكرة جماعية/جامعة؛ لذلك فإن مثل تلك الذاكرة لا تنمحي إلا عن طريق إبادة الشعوب نفسها أو بالكاد (كما قد جرى لبعض الشعوب في التاريخ فعلا).
ولقوة تلك الذاكرة فإنها كثيرا ما تستحصد حراكا لاحقا، لتلك الشعوب، مليء بدروس تلك الذاكرة، ولعدة أجيال.
والسودان لم يمر بحرب واحدة، بل حروب متعددة ومتتالية، وغير متجانسة في طبيعاتها. وكل هذه الحروب اختزنت ذاكراتها، على تفاوت بين شعوب السودان بتفاوت أثرها عليهم. ثم إننا حتى الآن لا نعرف متى نهاية حقبة الحروب–فقط نرجو أن لا تكون بعيدة.
مثلا: لا يظنن مرء أن تجربة لجان المقاومة، والحراك الشعبي اللامركزي (لصالح الحكم المحلي ولصالح تنظيم “أماكن السكن والعمل” كما تفتقت قريحة بعض مفكراتنا ومفكرينا الشابات والشباب) والحراك اللامركزي المرتبط بسبل كسب العيش (بناء الوعي التعاوني والتنظيم المطلبي وترفيع العمل النقابي) – باختصار كل ما جرى من عمليات الانتقال “من الحشد إلى التنظيم” — لا يظنن أنها قد غابت عن الذاكرة؛ بل إنها قويت. قويت في فترة هذه الحرب الحالية، عن طريق العمل المستمر الذي لم يتوقف على الأرض – ولم تتوقف مجموعات شعبية متفاوتة في دعمه، بالعمل وبالتمويل وبغيرهما – في مواجهة شروط استثنائية هي شروط العنف والنزوح والامتهان، وعوامل الموت الفتّاك بسرعة وببطء. ولكونها حصلت في شروط استثنائية فهي ليست ذات طبيعة مستدامة أو يمكن تثبيتها، كما تفيدنا دروس الشعوب الاخرى التي مرت بفترات متشابهة وقامت فيها أعمال محلية مشابهة (مثل فيتنام الستينات والسبعينات، كمثال قريب تاريخيا) لكن ذاكرتها تختزن خبرة وتجربة تظهر في طرق العمل والتنظيم عندما تصبح الشروط أكثر استمرارية وأكثر ارتباطا بأوضاع الاستقرار السياسي المعاصر (مثلما حصل في فيتنام الثمانينات والتسعينات، وما بعدها، أيضا، ومثلما حصل في إقليم الباسك الإسباني، الذي صار الآن نموذجا عالميا لنجاح الاقتصاد التعاوني والحكم المحلي في نطاق الدولة وقوانينها الداعمة – كعلاقة متداخلة ومتناقضة معا – بعد التأثر بنزاع الإقليم مع الحكومة المركزية الاسبانية).
التجارب ذات الأسس القوية لا تتبدد، لأن ذاكرتها لا تتبدد – وإن بدت وكأنها كذلك، أحيانا، لبعض الوقت – لكنها قد تنتقل وتتطور من شكل إلى شكل، كصفة من صفات الكمال (والكمال في هذه الأرض للمتطور باستمرار وليس للثابت الذي لا يتحرك والكون كله متحرك). وقديما قيل “يوم الزرع ليس نفسه يوم الحصاد”، فبين اليومين ما بينهما…. وللحديث شجون.
[الصورة: العرض الأول لفيلم ‘آمال وأحلام’، سينما أمدرمان الوطنية، 1970. من مجموعة ستديو الرشيد للتصوير الفوتغرافي. موقع ذاكرة السودان]