خلال عام، انتشرت في السودان مصطلحات جديدة في المجال العام، بدون أن تصطحب معها تجديدا ملحوظا في الفهم والدراسة والممارسة للسياسة في السودان: الحوكمة، الاقتصاد المؤسسي، صنع السياسات، بناء الدولة، إلخ.
حتى الآن يمكن أن نقول إنه لم يحصل نقاش حقيقي وتداول واسع – كما ينبغي لفترة انتقالية – لرؤية الدولة التي نريدها، أي شكل هيكلها ومؤسساتها وروابطها القانونية وسير نظامها العام، ولم يحصل نقاش وافي وتداول لبنية الاقتصاد (أولوياته العامة وقواعده وسياساته الأساسية فيما يخص القطاعات المتباينة)، ولم يحصل لعملية صنع السياسات نفسها ومن يصنعها على المستويات المتنوعة (المركزية والإقليمية والمحلية والقطاعية) ومن يراجعها وينفذها ويراقبها، وبأي آليات.
أعني بالنقاش الحقيقي أن تطرح كل المنظومات المتنافسة على أحقية إدارة الدولة أو المشاركة في إدارتها (وده اسم دلع للتنافس على السلطة) فلسفتها الأساسية للدولة وللحوكمة، ومعها مباشرة القواعد والأسس والسياسات العامة التي تريد أن تمضي الدولة وفقها، في إطار حكم دستوري يستوفي شروط الدستورية (constitutionalism) من ديمقراطية وحقوق أساسية واستقلالية سلطات و”توزيع السيادة داخل السيادة”. عدد بسيط من المنظومات المتنافسة قامت بما يشبه هذا الأمر أو اتخذت خطوات واضحة في سبيله.
صحيح أن هنالك مسائل أساسية ما زالت قيد النزاع، ولا يمكن التحرك قُدُما بثقة قبل حسمها لأنها حجارة أساس لإعادة بناء الدولة، لكن المنطق الأساسي للفترة الانتقالية ليس حسم هذه المسائل فحسب إنما كذلك توفير الفرصة للفاعلين السياسيين حتى يبنوا قواعد مفهومة وواضحة ومُخبَرة (informed) وليس قواعد مضمونة تاريخيا (ميكانيكيا) وفق ولاءات مسبقة لا علاقة لها بمحتوى فلسفة الحكم ومذهبية الحوكمة وباقة السياسات الأساسية نفسها، وكيف توفّر مخرجا حقيقيا وجديدا من أزماتنا المعاصرة. ذلك لأن معظم خلافاتنا ونزاعاتنا هذه – العميقة والشكلية – لن تحلّها الفترة الانتقالية إنما على هذه الفترة تشكيل الإطار الذي سنتفاعل فيه على مدى المرحلة التاريخية القادمة حتى نصل لتوفيقة أو توفيقات تاريخية (synthesis/syntheses) من كل الأضداد الحالية، كما يحصل عادة في التاريخ.
من دلائل ضعف الصيغة التي أعطتنا هذه الفترة الانتقالية، وهشاشة بنائها، أنها شغلت المنظومات السياسية المتباينة عن أداء العمل الأساسي المطلوب للفترة الانتقالية، إذ بقية المشاغل تتبع لهذا العمل وليس العكس.
وهذه المسألة ينبغي أن تقلقنا أيّما قلق، لأن قوانين التاريخ واضحة في هذه المسألة: ما ينبني على بنيان هش لا يمكن أن يكون مستداما، بل هو عرضة للانهيار الكامل في أي لحظة، وهذه اللحظة ستأتي لا محالة، مهما كان شكل البنيان نفسه جميل أم قبيح أم مريح أم متهتّك. السيناريوهات المرعبة أمامنا، ونحن نقف الآن على نفس الجسر الذي نبني فيه، ولا مجال للعودة للوراء فتلك الأرض احترقت تماما. الحكمة المطلوبة في مثل هذه المحكات التاريخية تختلف عن الحكمة المطلوبة في حالات الاستقرار السياسي النسبي–فهذه حكمة تحتاج لشكيمة عالية ولتجريب غير المجرّب–تحتاج لثوريّة.
في ذلك قيل:* “يجب الأخذ بالاعتبار أنه ليس هنالك شيء أصعب، وأكثر حفزا للشكوك والتثبيط، أو أكثر خطرا في خوضه، من ابتدار تغيير نحو نظامٍ جديدٍ للأشياء؛ لأن رائد التغيير لديه أعداء شرسين قاطنين في كل من هو مستفيد من الأوضاع القديمة، بينما لديه فقط مدافعين مترددين بين من يتطلعون للاستفادة من النظام الجديد. ذلك التردد ينبع جزئيا من الريب الذي يسيطر على البشرية، وهي التي لا تؤمن حقا بأي شيء إلا بعد اختباره فعليا.”
——–
*سفر “الأمير”، لنيكولا ميكافيللي، أثبت مع الزمن أنه من أهم ما كُتِب في شؤون الحوكمة، وإن اختلفنا مع كثير من سياقه وتوصياته التابعة للسياق. نفس الأمر ينطبق على كتاب “فن الحرب” لمؤلفه الصيني صَن تْزو.