‘من الحشد إلى التنظيم’ كانت في القاطرة الأولى.
و’من الحشد إلى التنظيم’ كانت حاضرة في كل مقطورات العملية التاريخية المؤلمة، المسماة الحراك الثوري، عبر المراحل والامتحانات الشتى. و’من الحشد إلى التنظيم’ ستظل تذكرة حضور إحراز التحول الاجتماعي والسياسي، والاقتصادي-التكنولوجي، لقوى المستقبل. فالتنظيم لا يستعاض عنه إلا من جنسه، بزيادة، على مرّ التاريخ.
ومسار التنظيم في مجمله يمتاز كل مرة عن مسار الحشد. لأن الكثيرين منّا يخلطون بين الحشد وأدواته المؤقتة وبين التنظيم وشروطه الساعية للاستدامة والتراكم. وكثير من ذلك الخلط يظهر في سنام الأزمات—فترات الكوارث الاستثنائية، لأن الحشد عندما يلعب دوره بصورة جيدة ومطلوبة (وللحشد أدوار مؤقتة مجيدة) يظنه بعض الناس معادلا للتنظيم أو نتيجة له، ولأنه بينما التنظيم قد يستعمل بعض أدوات الحشد حين يحتاجها إلا أن فرق أسباب الاستدامة والتراكم يجعل من المهم التمييز بين نجاح الحشد في بعض أدواره وبين انتقاله لصيغة تنظيمية.
وعندما يقال مثل هذا يظن البعض أنه اتهام للحشد وإنكار لبعض أفضاله ولهيئاته الايجابية، أو تنكّر لدوره المقدس في حالات الكوارث. بل إن البعض قد يظن أن تمدد فترة الكوارث تعني ان الحشد المرتبط بها صار تنظيما في حد ذاته، رغم أن الواقع يشهد دائما بأنه بمجرد انفضاض أوضاع الكارثة فإن الحشد ينفضّ كذلك وبدون مغالطة للواقع، بل ربما يتنفس أهل الحشد الصعداء على وصولهم لمرحلة انفضاضه، بمعنى أنه خدم غرضه فأوفاه. ولو كان ذلك الحشد قد تم بدون تنظيم وراءه فسوف ينفضّ فحسب، مع وافر الامتنان وجزيل الذكريات، أما لو كان وراءه تنظيم فإن ذلك التنظيم سينتقل بجهوده وطاقاته إلى أعمال ومراحل أخرى وهو يحمل ذخيرة إضافية من الخبرة ومن أسباب الاستدامة والتقدم.
وتعقيد مجتمعات البشر، وتصاعدها في ذلك التعقيد، على أصعدة شتى، يشير إلى تضخم مهام التنظيم والحاجة له، لا الاستغناء عنه بصيغ مؤقتة ومفككة. (وذلك لا يعني أن التنظيم نفسه يزداد تعقيدا بالضرورة، بل يمكن بذل البراهين على أن التنظيم كلما زادت كفاءته كلما جنح إلى تبسيط التعقيد). لم تستطع حالات حشد المقاومة التلقائية والغاضبة للاستعمار من إنجاز عملية التحرر الوطني، إنما أنجزت خطواتها حركات تحرر وطني نظمت صفوفها واستعدت لعملية طويلة من استعادة الحكم المحلي تستعمل أدوات المقاومة والحشد المجيدين ضمن ترسانتها ولكن لا تكتفي بالمقاومة والحشد كهوية. كذلك لم تستطع موجات الغضب والتضامن والتآزر المدنية – للعمال وللنساء وللمضطهدين – في المجتمعات الحديثة من تحقيق تحولات حقوقية ملموسة وموروثة للأجيال اللاحقة، إنما استطاعت ذلك حركات اجتماعية-سياسية منظمة ومتوارثة عبر الأجيال ومتصاعدة في مساحات أجندتها كلما غطت مساحة سابقة لها. حتى حين استعملت تلك الحركات ادوات الحشد مع الجماهير الأعرض فإنها لم تخلط بين معالم الحشد تلك وبين موروثات التنظيم والعضوية المنتظمة.
بل إن التنظيم، لشدة خطورته، فإن من يملك قليلا منه يكون أوفر حظا في الاستمرار وتمديد أجندته مع تمرحلات التاريخ ممن لا يملكون شيئا منه. ففي سودان هذا القرن، مثلا، عندما تمكنت موجة ثورية من اقتلاع نظام سياسي متآكل ومحاصر وشرس عبر عملية معارضة حشدية شجاعة وصامدة، سرعان ما ورثت ثمار ذلك الاقتلاع أكثر العناصر تنظيما داخل معسكر المعارضة، وعندما لم تكن تلك العناصر تقدمية أو ثورية فعلا (ولم تكن حتى منظمة بما فيه الكفاية إنما كانت فقط الأكثر تنظيما داخل معسكرها) فإن ذلك كان وبالا على مسار الحراك الثوري كله، رغم كل التضحيات التي تجلت في موجة الحشد. فدخلنا في طريق مليء بالانعطافات (detours) عن خط الثورة الأصيل؛ والانعطافات لا تعني بالضرورة ضياع المسير في الطريق الأصلي للأبد لكنها تــــعني التأخر والتقهقر وخسارة زمن وموارد وطاقة أكثر مما لو لم تحصل انعطافات. وعليه نعود لأهمية بناء وصيانة التنظيم مرة أخرى، فكل زمن وجهد يُصرَف في عملية البناء والصيانة تلك تكون توفيرا للزمن والجهد والطاقة في عمليات الحراك والتحول الثوري.
وفي هذا المخاض المستمر، مخاض الانتقال من الحشد إلى التنظيم، ليس غريبا أن يفرغ صبر بعضنا ثم يتخذون من فراغ صبرهم ذلك فضيلة ويعتبرونه موقفا عمليا، وليس غريبا أن يستكثر بعضنا عمليات البحث والدرس في التجارب الإنسانية الطويلة المتراكمة، في شتى ضروب الإنتاج وإعادة الإنتاج، ليزعموا أنهم يعيدون الآن كتابة كل شيء من جديد باعتبار أن ما كان من تجارب سابقة كله محدود ومختصر. هناك نوع من شعور التحرر والجدوى عندما يقتنع المرء بأنه ينتج معرفة جديدة على واقعه المحلي (وربما الكوكبي) بينما قد يكون مصدر ذلك الاقتناع فقط قلة الخبرة بمدى ضخامة وسعة التجربة الإنسانية التي نقف على أكتافها الآن (برغم كل قصوراتها الواضحة والتي تتطلب فعلا إنتاج معرفة إضافية/جديدة). ليس غريبا، في خضم الانتقال من الحشد الى التنظيم، أن يرى بعضنا جزيرة صغيرة ومخضرّة في منتصف الرحلة ثم بدل أن يقفوا عندها للاستزادة والمواصلة في الخضم الصعب تبدأ تتشكل لديهم أسطورة أن هذه إنما هي الأرض الموعودة نفسها.
الثقة في عبقريات الشعوب وتراكم خبراتها تسوقنا الى البراكسِس—أي التبادل الديناميكي المتنامي بين التنظير والممارسة. في هذا التبادل يرشد التنظير الممارسة وتغذي الممارسة التنظير، في حلقة ارتجاعية تصاعدية. الشعوب في شتى بقاع العالم مرّت بفترات كوارث عجيبة وخطيرة، تجاوزتها عبر وسائل متعددة – منها أشكال حشد جماعي تفعل فعل السحر وتدهش الكثير من الناس في قدراتهم وصبرهم أنفسهم – ثم انتقلت لما بعدها، وما زالت تتصاعد في عملية الانتقال نحو رحاب أفضل وأوسع. عبقريات شعوبنا، في التعامل مع كوارثها المعاصرة، تضاف لتلك الخبرة الإنسانية الواسعة، وتزيد بالتعلم منها والبناء عليها. ومن التعلم منها أن نميّز أن المراكب الصغيرة الفعالة الجيدة ومحطات الجزر المخضرّة التي نكتشفها في الطريق لن تغنينا عن بناء وصيانة السفينة (بل السفن) وشحذ الهمّة لاستمرار الرحلة صوب الأرض الموعودة.
جاء في الأثر الصوفي، أن السالك المجتهد بلغ مقاما صار يمد فيه البصر فلا يجد أمامه أحد، فقال لشيخه إني صرت وحدي أتختر في الميدان، أتمدد فيه ولا يبرز حولي غيري، فقال له شيخه أولم تدرك عندها أن من سبقوك غادروا هذا الميدان منذ زمن الى ميادين أوسع وأبعد؟
كذلك فغرور المغرورين مقدور عليه، إذ ليس فيه إبداع ولا مفاجآت، أما غرور المتواضعين (غرورهم بتواضعهم، واتخاذه منصة فضيلة خفية يشيرون منها لنواقص غيرهم فتتضخم عندهم ظنون اكتمالهم) فذلك خطر مركّب وشائك، لأنك لا تريد تحجيم قيمة التواضع – بل تثمّنه بأي قدْر أتى – ولكن لا بد ان تدرك انه ليس كافيا وليس مستغنيا عن مستلزمات المعرفة وأدوات المهارة وصقل التجربة.
كذلك الحشد الجيّد، في ظروفه لا غنى عنه، لكنه ليس هو التنظيم نفسه أو بديلا عنه. فيبقى ينادي المنادي: من الحشد إلى التنظيم…. من الحشد إلى التنظيم….
From mobilization to organization
“التنظيم أحد الحقائق الكبرى في حياتنا المعاصرة، وتُنسَب له أكثر الإنجازات تميّزا في أشكال الإنتاج الحديث وفي الإدارة والحكم، في المهام التي يتجاوز مداها الإمكانات المادية والذهنية/الفنية لأي فرد. يفعل ذلك عبر التجميع والتنسيق لمؤهلات ذهنية وفنية، متخصصة، متنوعة، بما يأتي بمخرجات متفوقة كثيرا على ما هو متاح بسبل أخرى.”
تاريخ الفكر الاقتصادي، قالبريث، 1987. الفصل 21.