بين كل فترة والأخرى، أتذكّر أننا في شهور عنفوان الحراك الثوري، في بدايات 2019 وإصرار الجموع الثائرة، ومن ساندها، على المواصلة، مهما كان الأمر، من أجل مستقبل أفضل أصبح الناس أكثر جرأة على التفكير فيه وفي إمكانياته، بعد سنوات صار فيها سقف التفكير والطموح العام متدنيا…. أتذكر أننا في تلك الأيام انتبهنا انتباها جيدا لكون الشعب اليمني يعيش حالات بؤس وكوارث وأن ذلك من أثر عدوان غير مبرر وغير مشروع يشارك فيه جنود سودانيون (وأولئك الجنود كانوا من القوات المسلحة ومن الدعم السريع معا). كنّا وقتها نتحدث عن أن إسقاط نظام الكيزان لا بد وأن يتبعه سحب لأولئك الجنود ورفض صفة الارتزاق التي ذهبوا وفقها هناك، ثم الاعتذار للشعب اليمني، الذي هو شعب حليف من شعوب المنطقة المتضررة من نفس الأوضاع القاهرة والطامحة نفس طموحات التحرر والتنمية.
ثم عندما تم إسقاط النظام البائد، وبدأت عمليات التناوش و”التفاوض” مع المجلس العسكري، بدأ حديثنا عن اليمن يخفت، ويخفت، ثم تصاعد مرة أخرى لفترة وجيزة، بعد جريمة القيادة العامة و”رفع التفاوض” مع “المجلس الانقلابي”؛ ثم بدأ يخفت مرة أخرى بعد العودة لطاولة المفاوضات. ومع توقيع “الوثيقة الدستورية” لم نعد نسمع من “المكوّن المدني” للسلطة أي شيء بخصوص اليمن. ثم لم يمض الكثير من الوقت وصار جميع أهل الثورة – تقريبا – لا يكادون يذكرون ما يجري في اليمن. بل إن كثيرا منا سمح لنفسه أن يحتفي بالشراكة العجيبة للفترة الانتقالية (الخلطة العسكدنية) باعتبارها انتصارا نسبيا معتبرا للثورة وضربة موفقة نحو تحقيق الانتصار الكامل. بل إن الذين تجرأوا وقالوا إن الأمور قد سارت عمليا نحو مسار اختطاف الثورة وانحرافها، الأمر الذي سيكلّفنا الكثير لاحقا، كانوا يُتَّهمون بالتشاؤم وتهويل المسائل وفقدان الثقة بالثورة.
وهذا الأمر ينبغي أن يمسّنا جميعا في وتر حساس، وبالأخص منّا ذوي النبض الثوري، الذين تتحرك عواطفهم وحواسهم النقدية بصورة تلقائية عندما يتعلّق الأمر بشعوب يتابعون أخبارهم ويهمهم شأنهم بصورة أكبر، وبصدق، كالشعب المصري والشعب الفلسطيني، بينما لا تتحرك لديهم نفس البواعث بخصوص شعوب أخرى مجاورة و”شقيقة” برضو، كالشعب اليمني وكالشعبين الإرتري والإثيوبي. [وبالتأكيد ليس ذلك من باب التقليل من شأن أهمية التضامن القوي مع جميع الشعوب الكادحة من أجل قضاياها التحررية والتنموية، خاصة الشعوب القريبة لنا في المنطقة وفي الذاكرة التاريخية، إنما من باب أهمية تعميم ذلك التضامن القوي والصادق على جميع المستحقين له]. أما ممتهنو السياسة من السودانيين، فلا أنتظر أن يمسّ منهم هذا الأمر أي وتر، فهذا الأمر هو مما يُظهِر مستوى نفاقهم في القضايا الإنسانية، ومما يظهِر أنهم عندما يبالغون حاليا في افتعال التألّم والتأمل في ما جرى للشعب من بؤس الحرب الكبيرة، إنما يفعلون ذلك ضمن أدوات عمل سياسي، لا يعرفون غيرها، فلو كان ذلك التألم والتأمّل حقيقيا وناضجا، وحقا ضد مشاركة الجيوش الوطنية في أي حروب تتضرر منها الشعوب ومكتسباتهم، لما كان ذلك الصمت المخجل تجاه مأساة الشعب اليمني–تحديدا تجاه مساهمة أيادي سودانية في تلك المأساة.
في 16 سبتمبر 2019، كتبنا (في صفحة الكاتب بالوسائط):
“سؤال اليمن لن يستطيع أحرف وزراء ممكنين، وأحرف رئيس وزراء ممكن، وأحرف أعضاء مجلس سيادة يمكن تخيّلهم، في الخلطة العسكدنية، أن يرّدوا عليه بصورة معقولة. ذلك لأنه لا يمكن الرد عليه ردّا معقولا بأي سبيل. اختيار قبول الخلطة العسكدنية كان تلقائيا اختيارا للتعايش مع خزينا في اليمن. الناس كمان تتحمّل مسؤولية خياراتها. بدون مواربة، نحن الآن متورّطون في دماء شعب كامل، لم نتبادل معهم على مدى التاريخ الطويل سوى العلاقات الطيبة على شتى المستويات، ولا يوجد أي مبرّر موضوعي أو ذاتي يمكن به لأي سوداني صادق أن يتعايش مع واقع أن مجموعة منّا قبلت أن تصبح مرتزقة لدول أخرى للتنكيل بشعب آخر، وأننا الآن نزعم أن لدينا حكومة انتقالية تمثّل ثورتنا الشعبية ثم هي قابلة لاستمرار خزي الاسترزاق هذا.”
كما تكلمنا عن ضرورة أن يأتي يوم “ويكون فيه اعتذار رسمي من الشعب السوداني إلى اليمني، عبر سلطات السودان الشرعية، مع استعداد لقبول محاسبة تاريخية تخلّصنا من عبء تلك الخطيئة التي لم نشارك فيها مباشرة ولم نقبل بها ولكن كان ينبغي أن نقف مواقف أقوى بخصوصها.”
وهذه الأيام، وبينما عاطفتي بطبيعتها أقرب لما يجري للشعب الذي أنتمي له من مآسي وكوارث، وبينما يسيطر الحراك الثوري السوداني على نصيب الأسد من حواسي ومن اهتمامي بتحرر الشعوب وتنميتها…. لم أملك ألّا أتذكر خزينا في اليمن. خزي صمتنا (النسبي) إذ لم نعترض بما يكفي ولم نواصل الاعتراض بما يكفي لتبرئة الحراك الثوري الشعبي السوداني من المسؤولية تجاه الشعب اليمني. أتذكر ذلك فيقضّ مضجعي، وأقول لنفسي إن الحراك الثوري للشعب السوداني، على جلاله وعلى استمراره حتى الآن، أصابته لعنة اليمن، وهي لعنة لن يكون أمامنا طريق مستقبلي مفتوح إلى بالتطهر منها.
في 16 سبتمبر 2023 [أي بعد 4 سنوات من نفس تاريخ المكتوب المذكور آنفا، وبعد اندلاع الحرب في السودان]، كتبنا الآتي:
“ورد مؤخرا في التلفزيون اليمني، أن الرأي العام اليمني يقارن بين قبول السلطات السودانية أن يكون المسلحون السودانيون (من الدعم السريع ومن القوات المسلحة) مرتزقة في اليمن، مأجورين من آخرين ومساهمين في إلحاق أذى ودماء لليمنيين، وبين استنكارات البرهان الإعلامية الأخيرة حول وجود مرتزقة من شتى الجنسيات في قوات الدعم السريع، التي عاثت فسادا وقتلا ونهبا ليس في دارفور فحسب وإنما استحلت الخرطوم نفسها مؤخرا. يقول الإعلام اليمني – وبأدب لا يصيب المواطنين السودانيين المدنيين المتضررين – إن الأمر كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله، فالبرهان الذي وفّر القيادة العسكرية للمرتزقة في اليمن يفقد الأهلية الأخلاقية للحديث عن المرتزقة في الخرطوم. وتعليقنا، أن لو كنـّـا مواطنين يمنيين، لكان هذا أقل ما نقوله بخصوص الأوضاع الحالية في السودان، وبعد التزام كبير بروابط الإنسانية وبالابتعاد عن لوم الضحايا.”
وبعد، فربما يرى البعض أن ليست هناك مناسبة مفهومة لهذا المكتوب، في هذه الأيام. بالنسبة لي، وفي هذه الصفحة التي تحمل اسمي وأتحمل مسؤولية محتواها، فالمناسبة هي أني اليوم كذلك تذكرت خزينا في اليمن، وتذكرت تلك اللعنة، وقضّت مضجعي، خاصة وأن لا أحد منّا هذه الأيام يكاد يذكر الشعب اليمني وما مرّ به في السنوات الماضية، وهو أمر غريب، فحتى لو لم يكن لنا أي سهم في ما جرى للشعب اليمني، لا يوجد ما يجعلنا لا نتعاطف مع ما جرى لليمنيين بمثل تعاطفنا مع شعوب أخرى مجاورة؛ فكيف الأمر ونحن لدينا جزء من المسؤولية تجاه ما جرى؟