عن القيادة وعن التنظيم

ما زال بعضنا يعرّفون القيادة، ويفهمونها، بتصدّر المشهد، في الحركة أو المشروع أو الجموع، إلخ. وتصدّر المشهد يعني ان يكون البعض هم ‘وجه’ الجموع، وصوتها، ومحرّكي القرارات فيها؛ فكأن هنالك تداخلا عاليا بين هويّتهم كأفراد وبين الهوية العامة لتلك الجموع. وربما في التاريخ كان هذا الشكل من القيادة مبررا، في سياقات مفهومة، وربما يكون مبررا أحيانا حتى في بعض الحالات المعاصرة—كحالات المدارس الفكرية الجديدة، وربما بعض المشاريع ذات الطابع المتشكل بمبادرة فردية متميزة، إلخ.

لكن، جملة ما تعنيه القيادة الحقيقية، في عصرنا هذا، في شتى الجبهات، العمل على التقليل من تصدر المشهد، وعلى تقوية هياكل عمل الجموع، واستمراريتها، بحيث لا تكون هناك ‘وجوه’ وأصوات معيّنة – فردية – لها؛ ناهيك عن محركات القرار. القيادة تظهر في تفاوتات المشاركة في استثمار الطاقة والزمن والموارد في نهوض المشاريع الجماعية، الدائمة والمؤقتة، لتعبّر عن نفسها عبر آليات وهوية وذاكرة متجاوزة للوجوه الفردية.

وفي هذا الأمر، نستلهم إرث إيلا بيكر (Ella Bakerخبيرة العمل التنظيمي في حركة الحقوق المدنية، الافريقية-امريكية – منذ الاربعينات وحتى الستينات من القرن العشرين – والتي عملت بإزاء الكثير من الأسماء الكبيرة في الحركة ثم لم تشتهر مثلما اشتهروا (بل وأرشدت بعضهم إذ سبقتهم في الحراك وفي الخبرة). لم يقل أثر بيكر في تلك الحركة عن أثر أولئك الأسماء الكبيرة، لكنها اختارت أدوات عمل بعيدة عن الأضواء والالتفاف حول الشخصيات الرمزية.

في مثل هذه الأيام، ومثل هذه الظروف، نحتاج للمزيد من نماذج إيلا بيكر، فهي ليست الوحيدة، لكن نموذجها ليس متوفرا كثيرا، وينبغي أن يكون. قالت ذات مرة، “لم تروني في التلفاز، ولم تروا قصصا عنّي في الجرائد؛ الدور الذي لعبته عُنِي بالتقاط وجمع خيوط وعُرَى متناثرة يمكن أن ينبع التنظيم منها. نظريتي هي: الجموع القوية (تنظيميا) لا تحتاج لقادة أقوياء.” وقالت كذلك، “كنت دائما أرى أن ما نحتاجه هو الاستثمار في الأشخاص غير المهمومين بأن يكونوا قادة بالضرورة وإنما يريدون بناء القدارت القيادية عند الآخرين.”

وعندما ننظر للأمور بمنظور بيكر، تبدو لنا بعض الأشياء بزوايا وموازين مختلفة. في التنظيمات الفعّالة، مثلا، هنالك عموما فرق بين القيادات وبين الكادر الخطابي، بل وعموم الكادر الإعلامي. ذلك لأن الأكثر ظهورا ليس بالضرورة الأكثر حضورا في مفاصل الأحداث الأساسية، ولا نجد أن الأكثر مراسا في مخاطبة الجماهير هم بالضرورة الأكثر مراسا في تنسيق الجهود المتباينة ضمن نفس الترسانة. ورغم أن بعض الكوادر الخطابية في التنظيمات قد تكون مؤهلة قياديّا كذلك، إلا أن هذا التداخل بين المهارتين ليس ضربة لازب. هو فقط حالات خاصة وفق سياقات خاصة، غير مستدامة. أكثر من ذلك، فإن الكادر الاستراتيجي (واعني به أولئك الذين يرسمون هيكل و استراتيجيات التنظيم، ويضعون لبناته الفكرية) ليسوا كذلك بالضرورة مؤهلين للقيادة التنظيمية، بل ربما يكونون غير مناسبين لها بصورة واضحة، ولعدة أسباب.

وعموما فقوة أي تنظيم – أي عمل منظم وله هياكل مستدامة – في المجال العام إنما تكمن في الكادر الميداني؛ فكلما كان مؤهّلا ونشطا كلما كان للتنظيم أثرٌ ملموس في الواقع. وأرض الكادر الميداني عموما أكثر الأراضي كرما، لأنها تسع الجميع، إذ جميع العضوية يمكنها أن تنتسب لها بالمساهمة المعقولة، مع سماح الظروف، سواء أكانت تلك العضوية كادرا إعلاميا أو استراتيجيا أو قياديا، إلخ. والشرف الأصيل إنما هو شرف الكادر الميداني، إذ يأتي شرف البقية بالحوالة. وقد يحصل كثيرا أن يتسلّق الهرم القيادي، في أي تنظيم، أشخاصٌ ليس لهم رصيد معقول في العمل الميداني، لكن في معظم تلك الحالات فإنها دليل خلل في التنظيم–إما في بنية التنظيم نفسه أو في تسلسل أحداث معيّنة فيه.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن أسلوب “القيادة” الأكثر فاعلية للعمل التنظيمي المستدام هو أسلوب القيادة التنسيقية، المكمّلة للجهود. الأسلوب غير المركزي وغير الأبوي. أو أسلوب بيكر. القيادة الأفضل، الملهمة حقا، في عصرنا هذا، هي التي تشارك مشاركة مقدرة في تحقيق ظهور “الجموع القوية التي لا تحتاج إلى قادة أقوياء.”

من أجل أدب ودروس أفضل في كيفية تنظيم الحركات والمؤسسات المدنية، الداعية والساعية للتغيير، ومن أجل أدب ودروس العمل في سبيل صنع قيادات متعددة والتخلص من محدوديات القيادة الكارزمية والقيادة المركزية، علينا بمثل ذلك الإرث.

فاللهم ارزقنا من موارد حكمة ومضاء إيلا بيكر، وأغدق على عملنا العام من حيث أغدقت على عملها من بركة؛ آمين.

“لكي تقود الناس، امش معهم…. وبالنسبة لأفضل القيادات، فالناس لا يلحظون وجودهم…. عندما ينتهي عمل القيادة الممتازة، يقول الناس “لقد فعلناها بأنفسنا.”
–لاو تْزو (طريق التاو)

“إن العبرة البالغة التي انفرجت عنها أذيال الحرب العالمية الثانية تجد تعبيرها في الحقيقة الكبرى، وهي أن القافلة البشرية، في كل صقع من أصقاع هذا الكوكب، قد اقتلعت خيامها، وأخذت في السير، وهي، في كل خطوة من خطوات هذا السير، تصنع التاريخ وتصنعه على هدى جديد، فبعد أن كان التاريخ يمليه في أغلب الأحيان، على تلاميذه ومسجليه، الملوك، والسلاطين، وقواد الجيوش، ودهاقن السياسة، وأرباب الثروة، وهم يتصرفون في مصير الانسان، أصبح يمليه عليهم الآن رجل الشارع العادى، المغمور، وهو يبحث عن كرامة الانسان حيث وُجِد الانسان.”
–محمود محمد طه،1967

أضف تعليق