صفقة 2025 ومضاعفة الثمن

‘ليس هنالك مَفَر؛ إنّما ندفعُ ثمنَ عنفِ أسْلافِنا….’
[من رواية كثيب (Dune)، لفرانك هيربرت، 1965، ضمن مجموعة أقوال پول ‘المؤدِّب’ آتريديز]  
——–

هناك أناس ومجموعات، رغم خطأ موقفهم، نقدِر ببعض الجهد، على الأقل، أن نتفهم ونتتبع المنطق الذي أوصلهم للوقوف مواقف غير موفقة، مثل الذي حصل في مهرجان نيروبي (فبراير 2025) لبعض المكونات السياسية والقيادات الأهلية السودانية التي لا يجمعها في الأصل مبدأ ولا رصيد، ومثل الترويج لذلك المهرجان كاختراق إيجابي في تاريخ الصراع السوداني. تلك المجموعات التي يمكن تفهّم منطق بعض منسوبيها هي المجموعات التي تضررت ضررا كبيرا ومستمرا، لعقود، بل لأجيال، من ظلم المركز وظلاماته في تاريخ السودان الحديث. هؤلاء ربما فرغ صبرهم وبقوا غير قادرين أن يروا أي فرصة أخرى تعطى لمبادئ أو عمل فكري تحرري ثوري حقيقي، غير ملوّث، وأصبحت المسألة بالنسبة لهم تقع على كون الجنجويد ومن يدعمهم أفلحوا في أمر لم يحصل قبل اليوم مؤخرا، وهو هزّ عرش سلطة الخرطوم هزّا عنيفا وتهديد وجودها تهديدا حقيقيا؛ ثم الآن نجد أن إقطاعية الدعم السريع لديهم مصادر تمويل ضخمة ومستمرة لديها فعلا فرصة أن تؤثّر في كفة الأمور. وبالتالي، في نظر تلك المجموعات، فبغض النظر عن كون الجنجويد ليسوا هم القوى الثورية التقدمية التي كانوا يريدونها أن تقتلع السودان القديم (أو دولة 56) لكن هم القوى التي أعطاهم لها الواقع التعيس هذا، ومن ثم فلم تعد لديهم من أسباب الصبر  ما يفوّتون به هذه الفرصة باسم مبادئ أو بتاع. خلاص، طفح الكيل.

ومن الواضح أن الدعم السريع بينما صار على وشك الخسارة العامة في الميدان العسكري حاول أن يجد طوق نجاة في الميدان السياسي. ويبدو أنه وجد ذلك الطوق تحديدا عند الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال (كاودا)، بغض النظر عن المكوّنات السياسية الأخرى التي أفلح في تتبيعها له مسبقا. لكن من الواضح أيضا أن الحركة الشعبية قبلت بالمساعدة في إنقاذ الجنجويد وفق مقابل؛ وبطبيعة الحال لا يمكن بأي سبيل تصديق جدية الخطاب الجديد لزعامات الحركة الشعبية التي تحاول إعادة تلوين الجنجويد كحركة مسلحة ذات مطالب عدالة في السلطة والثروة لأهل دارفور. هذا خطاب لا يصدقه أهل الحركة الشعبية أنفسهم (وفق خطابات ممثليهم وقياداتهم حتى وقت قريب) دع عنك أن يحاولوا جعل الآخرين يصدقوه. ليس هناك مجال منطقي لمغالطة واقع أن الجنجويد حرفيا أكبر فلول الكيزان (الحركة الإسلاموية)—فكلمة “الفلول” أصلها من التفلّل، وهو انكسار باقي الشيء وتشتته، ويقال انفلّ السيف إذا انكسر من حدّه، وفلول القوم بقاياهم إذا تشتتّوا، ووفق ذلك فليس هناك من هو أكبر جدارة من إقطاعية آل دقلو بوصف “الفلول.” الجنجويد شركاء الكيزان في أكثر أرصدتهم دموية واتساخا بحق شعوب السودان المهمشة، وهذا ليس مجرد تاريخ بل هو صفة تكوين وطبيعة مستمرة للجنجويد. ومن المفهوم أن الحركة الشعبية ستقدّم تبريرات إعلامية لهذا الموقف الأخير، الغريب، عبر عدة زوايا، منها تشبيهه بخطوات سابقة مثل اتفاقية السلام الشامل والمفاوضات مع السلطة الانتقالية بعد سقوط نظام الكيزان، رغم الاختلافات الواضحة (والتي يمكن رصدها في كتابات أخرى)، لكن لا الحاضر ولا المستقبل يمكن إقناعهما بأن ما جرى مؤخرا، وظهر في نيروبي كتوافق وميثاق كبير، يشبه مواقف الحركة الشعبية في الماضي البعيد والقريب. لقد جدّ جديد، وذلك الجديد تشير المؤشرات (التوقيت والمكان والطريقة والتمويل، إلخ) إلى أنه جاء وفق صفقة، إما قام الدعم السريع بابتدارها بنفسه أو قام بابتدارها عنه رعاته الخارجيين في المنطقة (وربما لا تخلو من ضغوط)، من أجل إنقاذه سياسيا بعد أن قارب للانحسار عسكريا؛ لكن ما هي تلك الصفقة؟ هذا ما لن نتعجّل استخلاصه الآن، فالأيام القادمة ستكشفه لنا بصورة أوضح.

لكن، عموما، فالمجموعات التي ذكرناها آنفا يمكننا على الأقل أن نتفهّم شيئا من منطلقاتهم ومحرّكاتهم، وتبريراتهم. ذلك رغم أن قرارهم هذا للأسف سيكتشفون أنه أخّر عقارب الساعة زيادة، وكلّف شعوب السودان كلها دما ودموعا وعرقا وزمنا زيادة على ما دفعوه مسبقا إجمالا حتى الآن. بل من الممكن أحيانا أن نتخيّل أن بعض الذين شاركوا في مهرجان نيروبي السريالي (والسريالية عموما ليست غريبة على التاريخ السياسي السوداني) ربما يكونون مدركين أن الأوضاع هكذا إنما هي تمضي نحو الأسوأ ولا شك، لكن خلاص “عليّ وعلى أعدائي” وليتألّم الجميع ويحترقون بالتساوي بدل أن يحترق بعضنا فقط ويحتفظ آخرون بامتيازاتهم (ومنها امتياز الأمان التاريخي الطويل من أهوال الصراع، وهو الامتياز الذي انتهى مؤخرا بصورة ملموسة ومفجعة). ربما يرى هؤلاء أنه ما دام نُخَب المركز يرفضون أن يتعلموا ويرفضون أن يتحركوا نحو آفاق جديدة رغم كل الدروس المتتالية والتكلفة الباهظة، فلتحلّ اللعنات علينا جميعا إذن؛ وفي أثناء تقاطر اللعنات وتوالي الانهيار على الجميع لا بأس أن نغيظ الكيزان والمركز قليلا.

أما مثقفو المركز وساسته، المتماشون مع تيار الانهيار الشامل هذا (سواء عبر واجهاتهم التقليدية أم عبر اصطناعهم التماهي التام مع الشعوب المهمّشة)، فهؤلاء ليس لديهم أي عذر. هؤلاء في مجملهم لم يبرحوا هشاشتهم الفكرية واتكاليتهم المستمرة على الآخرين ليقوموا لهم بالشغل الصعب ليأتوا هم لاحقا ويتسلّقوه، وهم الآن إنما يتحركون وفق غبينة مباشرة مع الكيزان تحديدا، وليس مع “السودان القديم” إجمالا، ولقد وصلت بهم تلك الغبينة لحد استعدادهم أن يروا الدولة تنفجر انفجارا – بغض النظر عن الضرر الماحق الذي يصيب مجتمعات ما بعد الاستعمار عموما من تلك الانفجارات – ما دام الكيزان سينفجرون معها (في تصوّرهم). وغبينتهم مع الكيزان ليست بسبب سوء الكيزان وجرمهم الكبير في حق الإنسان والوطن (وغير ذلك مما هو معلوم بالضرورة) وإنما لأن الكيزان خطفوا منهم طموحاتهم وتطلعاتهم المبنية على الامتيازات التي تربّوا عليها لسنوات ثم أتى الكيزان فحجّموهم وحرموهم 30 سنة من التطور الطبيعي لتلك الامتيازات– أي  المزيد من الامتيازات في براحات السلطة والثروة. 

من أجل ذلك نجد أن مثقفي المركز وسياسيّيه هؤلاء يفسّرون الانهيار الحاصل كله في السودان بأن سببه فقط الكيزان، وكأن السودان القديم من قبل الكيزان كان واحة، وكأن أسلاف السلطة المركزية السابقين للكيزان كانوا كلهم طيبين ومتفاهمين، وكأن الكيزان ليسوا أنفسهم نتاجا لعمق أزمة المجتمع السوداني ما بعد الاستعماري. هؤلاء الساسة والمثقفون صنعوا لأنفسهم وللآخرين بضاعة تاريخية مفادها أنه وبمجرد أن يتم التخلص من الكيزان ستُحَلّ المشاكل جملة وتباعا.

هؤلاء، الموصوفون في الفقرتين الآنفتين، حالتهم محزنة ومستعصية، بلا أعذار تسترهم ولا أرضية تاريخية موضوعية يقفون عليها. هؤلاء،  بشتى أطيافهم وشتى دعاويهم حول القرب من الحق والاستنارة، وشتى خلفياتهم الفكرية التي لا تعني لهم الكثير في أوقات القرارات الصعبة، لم تنفعهم دراساتهم وشهاداتهم ولا اغتراب بعضهم واشتغالهم خارج السودان واختلاطهم بتجارب العالم. هؤلاء إعادة الإنتاج الحقيقية للنخب السودانية الفاشلة فشلا محيّرا. وهم أكبر طفيليين في المشهد الحالي، وأكثرهم خبرة قديمة ومتراكمة في إفشال أي مشاريع أو تحالفات يكونون طرفا فيها.

[وعندما نتكلم عن ساسة المركز ومثقفيه، كبذور فشل المشروع الوطني السوداني حتى الآن، لا ننسى بالضرورة معظم قيادات القوات المسلحة الرسمية للدولة، والذين هم في مجمل تاريخهم إما كانوا متماهين في طبيعتهم مع الساسة إياهم – بل تفوقوا عليهم عدة مرات في الدهاء غير البنّاء وفي المعايير السلبية – أو استغلوا حداثية مؤسسة القوات المسلحة وأقدميتها على التنظيمات السياسية المحلية، شر استغلال، وبدل أن يتعاملوا معها كدرع ضروري في السياق التاريخي للدولة العصرية ولجميع مواطنيها (رغم مشاكلها المؤسسية التي طالما تناولناها علنا وتفصيلا) تعاملوا معها كبرج للسلطة على حساب مصالح ودماء شعوب السودان]

ثم إن الشيء المخيف حقا، بالنسبة لأمثالنا (كاتب هذه السطور ومن يشبهه في الخلفية الاجتماعية-التاريخية) أن هؤلاء الأخيرين – مثقفي المركز وساسته – هم أهلنا ومجموعاتنا ونماذجنا التي تربّينا حولها وشُفنا السودان بعيونها…. هؤلاء هم نحن أنفسنا، في تطورنا الطبيعي…. وإذا لم نواجه أنفسنا بهذا الأمر، بوضوح ومباشرة، ولم نتأكد أنه أمر بحاجة لشغل، ومراجعات، وتواضع كبير، سنكون في طريقنا نحو أن نصبح نُسخات منهم (لا كنُسخات من الحالات الاستثنائية المحترمة وسطهم في التاريخ الحديث، إنما نسخات من أنماطهم السائدة). وفوق ذلك لن نلقى فرص الاستمتاع بالامتيازات التي استمتعوا بها هم، في بواكير حياتهم، على حساب الآخرين، حتى أفسدت عليهم رؤيتهم للواقع؛ سوف نرث منهم مشاكلهم وهزائمهم (الداخلية والخارجية) فقط.

وعموما، أيضا، فما رأيناه في السنوات الماضية، وما سنراه في السنوات القادمة، من أحداث مؤلمة متتالية، هو حصاد رصيد طويل من تضييع الفرص وتغييب الدروس، ومن غلبة النزعات الضيقة، وطرق التفكير الأضيق منها، على مواقف النُخَب السودانية في الشأن العام. وبعضنا قد يظن أن حلول فشل النخب هو المزيد من تجارب النخب، أو في صناعة نخب جديدة، بعضها تخلّقت عبر سنوات وعبر أيادي آثمة متعددة (أيادي داخلية وخارجية) وبعضها حازت على أوضاع نخب نسبية وفق التطورات والتحوّرات السياسية المستمرة. لكن ذلك إنما لأننا ننسى أحيانا أو نتناسى الموقف القديم، المتوافق عليه نظريا بين جملة التقدميين، أن أخطاء النخب المتراكمة لا تصلحها نخب جديدة، إنما بناءات جديدة وطرق تفكير جديدة على واقعنا المحلي؛ كما أن الحلول المستوردة من الخارج، والمتكلة عليه، لا تحمل لنا في طياتها سوى المزيد من المشاكل والمزيد من الفشل. 

بيد أنه أمام فشل النخب المتراكم هذا، راكمت شعوب السودان في المقابل حكمة عالية، ورغم أن المسيرة العامة حتى الآن يمكن وصفها بوصف ‘خطوة للأمام، خطوتين للخلف’ لكن هناك طاقة وضعية متزايدة، وتعبّر عن نفسها حتى الآن بحركة دؤوبة، غير قابلة للتوقف، في ميادين مادية ومعنوية متعددة—ليست في مساحة التنظيم السياسي المباشر بعد، أو في حيازات نسب السلطة والثروة مباشرة بعد، لكنها ستصل لتلك المساحات ولو بعد حين (عند الانتقال من الحشد إلى التنظيم). ومع تلك الحركة الدؤوبة هناك تعلّم متراكم بصورة مستترة أحيانا ومعلنة أحيانا. 

وكما أكّدنا سابقا، فــ’شعوب السودان لن تحكمها بعد اليوم طغمة ليست لديها رؤية وآليات حقيقية (لا مجرد أماني وتلويحات) لإدارة الدولة ومعالجة مشاكلها، وقادرة على بناء سند جماهيري شرعي وفق تلك الرؤية. لن تحكمها أي لن يستقر لها الحكم، ولن تستتب لها الأمور، مهما فعلت ومهما قالت ومهما أنفقت من طاقة وزمن ومهما حشدت من ترسانة وأعوان خارجيين’…. وللحديث شجون.

أضف تعليق