الدولة ومظالم التنمية، والحرب في السودان

لقاء على شبكة عاين الإعلامية، تم تسجيله في منتصف أبريل 2024، في سياق مرور عام على اشتعال حرب أبريل 2023 في السودان. في الحلقة الأولى تناولنا مسألة أن كيفية إيقاف الحرب لا تقل أهمية عن إيقافها، وفي الحلقة الثانية (أدناه)، تناولنا مسألة: هل نحتاج للدولة العصرية؟، وفي الحلقة الثالثة: ما هي مناطق قوة القوى السياسية المدنية في الظروف الحالية، وكيف يمكن استثمارها.


من نقاشاتنا المتراكمة، والمهمة، مؤخرا، يتضح أننا بحاجة للنقاش حول ظاهرة مؤسسات/نظم الدولة العصرية أكثر. ما يبدو لي أن جملة النقاشات الدائرة حول هذا الموضوع حاليا، رغم فائدتها وتنوّعها، ناقصة في بُعدها التاريخي وبُعدها الهيكلي-الفني. ولعل ذلك يعود لحقيقة أن ظاهرة الدولة العصرية ظاهرة معقدة جدا، ولديها طبقات وتشعبات، بينما مجمل من يتناولونها يركّزون على الزوايا أو الأبعاد التي تشغل الحيّز الأكبر من تفكيرهم–وهو أمر معروف ومألوف في التعامل مع النظم المعقدة (سمة العصر)، فكل أشخاص أو مجموعات تكون مشغولة بما يليها من النظام، بينما النظام المعقد والمتشعّب بطبيعته لا يتبدّى كله لأي رائي، إنما لا بد من تجريده في نموذج (model) كيما نستطيع رؤية جملة تفاعلاته وتأثراته بشكل أفضل، حتى لا نخلص لأحكام أو تدخلات تتناول بعض زواياه بصورة مقصودة ثم تؤثر في الزوايا الأخرى بنتائج غير مقصودة، ما يجعل محصلة تدخلنا سلبية في النظام ككل وإن كنّا نظنها إيجابية من زاوية نظرنا فحسب.   

في هذا السياق، أحب أن أشير إلى نقاط سريعة، تتبع للفديو الموجز المرفق، وباصطحاب كتابات سابقة حول الموضوع (منذ كتابي “السلطة الخامسة” و”حوكمة التنمية”، اللذين تناولا موضوع الدولة العصرية ضمنا، وحتى مقالة “كيف تبرر المؤسسات وجودها: التفكير كوكبيا والممارسة محليا” الذي نشرناه في 19 أبريل الماضي): 

(1)

اختلال علاقات السلطة والثروة موجود كظاهرة تاريخية في أي وحدة اجتماعية، صغيرة أم كبيرة، وهي تبدأ من العائلة والقبيلة وحتى القرية ثم المدينة (والامبراطورية)، ثم مؤخرا الدولة والإقليم، ثم كوكبيا. وفي كل مرحلة من مراحل الوحدات الاجتماعية هذه فإن اختلال علاقات السلطة والثروة يؤدي لاستغلال وتهميش مجموعات لصالح مجموعات. لذلك فإن النظر للوحدات الاجتماعية المحلية الأصغر من الدولة – هذه الأيام – على أنها المنبع الأرجح لتغيير علاقات السلطة والثروة في المجتمع الحديث، هو نظر جزئي، أما في الصورة الكبيرة فلا يسنده التاريخ ولا النظرية الثورية–وما نقصده أنه لا يكفي لأنه فقط جزء من معادلات كبيرة ومعقدة في سياق عصرنا هذا (نفس مشكلة الفرق بين النظر للنظام كله تجريديا وبين النظر لزوايا معيّنة فيه تحوز على أغلبية انتباهنا).

لذلك نجد أن نماذج السيادة المحلية (مثل حكومات القرية والبلدية، المطبقة في عدد من البلدان حول العالم) ونماذج التعاونيات المحلية (المطبقة كذلك) ونماذج المرافق الصحية والمرافق التعليمية اللامركزية (المطبقة كذلك) تتفاوت حول العالم في مستويات كفاءتها وشفافيتها وديمقراطيتها، لكن الدراسات تقول باختصار إن هذه النماذج تكون أكثر فعالية وشفافية واستدامة عندما تكون موجودة ضمن أطر قانونية أوسع وبنى تحتية أكبر ترتيبا وانتظاما وقابلية للمراقبة. هذه الأطر الأوسع هي الدولة أو الإقليم. فالعلاقة بين المستوى الكبير (الدولة والإقليم) وبين المستوى الأصغر (القرية أو المحلية) علاقة دايلكتيكية، فيها تداخلات كثيرة واعتمادات متبادلة، وفيها تناقضات كذلك، وتلك سمة من سمات العصر ومؤسساته (وكل عصر لديه تناقضاته في مؤسساته الغالبة).

لذلك فالحلول الثورية ينبغي أن تكون حلولا نابعة من تنظير ثوري، وجذرية تلك الحلول (الجذرية الثورية) لا تقاس بالضرورة بمدى طلاقها مع الخيارات المتاحة حاليا فحسب وإنما بمدى اتساقها مع النظرية الثورية. والنظرية الثورية نظرية تاريخية بطبيعتها، أي هي تتعامل مع معطيات التاريخ لتحرّكها وتفعّلها نحو التغيير الأسرع والأكفأ، لكن السرعة والكفاءة لا تعني غياب التمرحل الثوري. في الحقيقة، معظم المفكرين الثوريين الجادين كانوا دعاة تمرحل ثوري (من ماركس إلى كابرال، ومن بينهما ومن بعدهما من المفكرين الثوريين، نساء ورجالا)، ثم هم مخلصون في التزامهم بذلك التمرحل، أي أن دعوتهم للتمرحل لم تكن دعوة للتكاسل وتأخير التغيير وإنما لجعل التغيير فعّالا. إذن فالتمرحل الثوري من ميراث الحركات الثورية الجادة–فالثوري صبور ومتحرّك للأمام معا. 

(2)

نحن نعيش في سياق عالمي، لا نملك أن نتجاهله. في الواقع فإن مجتمعات ما بعد الاستعمار ينبغي أن تكون أكثر اهتماما بالإطار الكوكبي وعلاقات الرأسمالية والامبريالية، لأن هذه المجتمعات أكثر تأثرا على المستوى المحلي بتلك العلاقات. فالامبريالية تؤثر في مآسي مواطني القرى والريف هنا – في السودان وافريقيا – أكثر مما تؤثر في مواطني القرى والريف في أوروبا أو أمريكا أو استراليا، ليس لأنها غير موجودة هناك وإنما لأن طرفها المظلم يتجلى هنا بينما يخفت هناك. لذلك لا يمكن أن نتناسى ولو للحظة أننا جميعا لسنا نعيش في إطار الدولة العصرية فحسب، إنما – والأهم من ذلك – إطار الرأسمالية العالمية. ولأجل ذلك لا يمكن أن نتكلم عن كوننا محتاجين للتركيز فقط على حاجات الناس المحلية (وهو كلام صحيح تماما) كمقدمة لأن نقول مثلا إن شواهد الأذرع الامبريالية في حرب السودان لا تخصنا كثيرا ولا تغيّر نتائجها. لا يمكن أن نقول ذلك لأننا، لو أدركنا أهمية التفكير كوكبيا والممارسة محليا، فسندرك أن طبيعة الحرب عندنا تؤثر في تعاملنا معها، وفي طريقة إيقافها وفي التخطيط لما بعدها، وفي التأهب لأسوأ سيناريوهاتها.

والرأسمالية العالمية هي الإطار الأهم، في سياقنا المعاصر، لأنها هي التي تصبغ علاقات السلطة والثروة في الكوكب أكثر مما تصبغه الصيغة المجتمعية الهيكلية الحديثة، التي هي صيغة الدولة العصرية. فلو كانت الدولة العصرية ترعرعت تاريخيا ضمن قصة نمو وتضخم الرأسمالية العالمية (وذلك صحيح نسبيا وليس كليا) فذلك لا يعني أن الدولة نفسها لا وظيفة اجتماعية وتاريخية أخرى لها غير خدمة الرأسمالية؛ لو كان الأمر كذلك فمن باب أولى أن نقول إن نظم القرية والمجتمعات الريفية لا وظيفة اجتماعية وتاريخية أخرى غير خدمة نظم السلطة ما قبل الرأسمالية، ومن ثم نخلص إلى خلاصة غير صحيحة وهي أن القرية والمحلية أسوأ من الدولة نفسها، وأكثر رجعية، كصيغة مجتمعية، وينبغي أن يحصل لها التفكيك قبل تفكيك الدولة نفسها. لكن، بطبيعة الحل، ما هكذا تورد الإبل.  

(3)

الدولة لديها وجوه ووظائف وأجهزة سلطوية، ولديها آليات سياسية، كما لديها أوجه ووظائف وأجهزة أخرى متعددة: خدمية وتكنولوجية وتنظيمية وصناعية ولوجستية، إلخ. بحيث أنها تُعدّ أعقد المؤسسات/النظم التي صنعها المجتمع البشري في التاريخ الموثق حتى الآن.  بحيث أن التركيز على علاقات السلطة فيها وعلى الجوانب السياسية-اجتماعية لا ينبغي أن ينسينا تفاصيلها الهيكلية-الفنية، وعلاقات الإنتاج المعقدة فيها بتعقيد منتجات العصر وسلاسل قيمته، لأن هذه التفاصيل جزء لا يتجزأ من طبيعة حياتنا في هذا العصر وطبيعة توقعيات الحياة المعاصرة. وبدون فهم وتملك هذه التفاصيل الهيكلية-الفنية سنبقى غرباء عن نظام الدولة ومستوردين له، ومن ثم فسيكون تعاملنا معه متخبطا ونقدنا له متأثر بجهلنا به أكثر من معرفتنا به. التاريخ الاجتماعي يقول إن تطورات الظواهر تتأثر بعلاقات السلطة والثروة في السياق التاريخي لكن ديناميكات الحياة وتطورات المعرفة والثقافة والابتكار البشري لا تنحصر فقط في تلك العلاقات.

لا يمكننا مثلا أن نقول إن فهمنا لعلاقات السلطة والثروة في مصانع القطارات والطائرات الحديثة اليوم يكفي لكي نقرر ماذا نفعل بشأن تغيير الأوضاع في المصانع ككل وإدارتها بطريقة مختلفة تماما. لو كنا فاقدين للمعرفة التكنولوجية والإدارية، التفصيلية الكافية، المتعلقة بالمنتجات وبعملية تصنيعها وتركيبها ومراقبة جودتها، ولوجستيات الإمداد، وتدوير المهارات وتطويرها، إلخ، فنحن لا نتحرك من موقع معرفة ووعي وإنما من موقع نقص معرفي كبير. كما سيكون من فقدان الحكمة والحصافة أن نقول إن القطارات والطائرات والصناعة نفسها لا تلزمنا لأنها نتيجة تراكمات واستغلال رأسمالي، بدل أن ننظر لها كمخرجات إيجابية من تطورات المعرفة والابتكار البشري ويمكن البناء عليها وتصفيتها من أدران العلاقات الاستغلالية السلبية التي لابست ظروف نشأتها وتطورها.

(4)

نحن في عصر سمته الأنساق الكبرى والمعقدة والمتشابكة، بحيث لا تجدي معها الحلول التبسيطية والتفكيكية (إلا لو تعاملنا معها كحلول موضعية وجزئية، ليست معممة/كاملة)؛ والدولة العصرية والتكنولوجيا الحديثة أعقد منتجين، مرتبطين بعضهما ببعض على شتى الأصعدة–القطاعية والمحلية والكوكبية. شرط توفير دولة عصرية كفؤة لشعوب مجتمعات ما بعد الاستعمار شرط موضوعي تاريخي وجودي. الوعاء المعاصر الذي يجمعنا كسودانيين (الدولة والأرض والسيادة السودانية) مهم لفهم واقعنا والتعامل معه؛ فإذا كانت بعض سيناريوهات الحرب تهدد بتفجير هذا الوعاء نفسه، وبعض أطراف الحرب أقرب لتحقيق ذلك السيناريو من غيرها، فعلينا أن ندرك أن هذا السيناريو خصيم للشعوب ومصلحتها بصورة مباشرة – مهما كانت نقمتنا على تجربة الدولة السودانية حتى الآن وعلى أجهزتها الفاسدة والمهترئة (وهي حقائق ما فتئنا نذكرها منذ سنوات) – لأن غياب هذا الوعاء تماما (أي غياب فرصة استعادته بيد الشعوب وإعادة بنائه وتطويره) ليس معناه اننا خلاص سنعيش فقط بدون دولة ولا بأس إذ الدولة السودانية أصلا كانت متهالكة وتحت الصفر، إنما معناه أن الدول والتحالفات الكبرى، الأكثر عتادا وتنظيما، ستكتسحنا وستفكك كياناتنا المحلية وتستولي على مواردنا بصورة مباشرة، ونحن قليلو الحيلة، لأنه في عالم اليوم لا توجد أرض مليئة بالموارد ستتركها القوى الكبرى، السياسية والاقتصادية والعسكرية، ‘فارغة’ السلطة المركزية. لا يمكن لنماذج حكم محلي شفاف وديمقراطي ومعتمد ذاتيا (نسبيا) أن تقوم في ظروف غياب الدولة العصرية الكفؤة لأن تلك النماذج لن تجد أي فرصة كافية ومستدامة للتطبيق ولن تجد فرصة لحماية نفسها من التسلط الامبريالي-الاستعماري الجديد. 

أما من ناحية النظريات الثورية، التاريخية النقدية، فهي في جملتها تتوافق على أن تجاوز تناقضات الدولة العصرية أمر ضروري وهدف واضح، بيد أنه يكون عبر ظهور نماذج أوسع وأكثر كفاءة في استيعاب تعقيدات العصر الحديث وفض تناقضاته، بتكنولوجياه ولوجستياته وثقافاته ومصالحه وعملياته، وليس عبر اللامبالاة بتفكيك الدولة كــ”حَرَدان” (وهو حردان موضعي، إذ نكاد حاليا ننتقد الدولة كظاهرة تاريخية كوكبية وفق أداء الدولة السودانية فحسب، بينما الدولة السودانية أحد أسوأ نماذج الدولة العصرية ولا تصلح ممثلا لها). تجاوز ظاهرة الدولة يكون عبر التحرك للأمام نحو نموذج أوسع وأشمل، يصطحب إنجازاتها ويتسامى على احتقاناتها، وليس عبر الهجرة العكسية في التاريخ نحو نماذج وتناقضات ما قبل الدولة…. وللحديث شجون.


 

أضف تعليق