توسيع الخيال واجب وطني

شعوب المركز – في السودان – لديهم مشكلة حقيقية في تفهم معاناة مواطني الهامش، وهم من قلة فهمهم لا يدركون حتى ضعف خيالهم، ولا يتذمرون حقا، في عمومهم، إلا حين تصيبهم جرعات خفيفة من واقع الهامش اليومي. معذرة لأهل المركز العظماء الأكارم، أهل الحسب والنسب، فقد اتسعت النيران على “فضلة خيركم”، أهل الهامش، حتى استعصى احتواؤها عليهم، فأفلتت بعض الشظايا التي أصابتكم. معذرة على الإزعاج، ولولا الظروف فأنتم طبعا تعلمون أن أهل الهامش فداء لكم!

كثير منهم – أهل المركز – يرددون، بثقة، أن ما ينتظر السودان هو خطوات أخرى نحو الجحيم إذا تزعزعت السلطة المركزية الحالية، برغم سوئها. وذهلت أخيلتهم عن أن الواقع في مناطق الهامش اليوم، ومنذ زمن مضى، إنما هو الجحيم بعينه.

يا أكارم، هذا الوطن يعيش حالة حرب شرسة، منذ سنوات، أتلفت الأحياء والأشياء، وانتهكت الأعراض والممتلكات والأرواح. وخيار المقهور سلاحه، يدفع به عن نفسه وأهله، كما جرت سنة البشرية. ليست هناك حرب نموذجية في التاريخ المعلوم، يموت فيها الأشرار فقط وتحيط الهالة بأخيارها، فخسائر الحرب خسائر حقيقية، ومؤلمة، لكن لن يكون هناك أمل في مستقبل أجمل إذا لم يتشارك أهل السودان الآلام أيضا؛ آلام المخاض، من أجل ميلاد جديد.

ثم يقولون لك، في تجليات “نبيلة”، أنه من الصحيح أن أهل الهامش يعانون، ولكن التوجه نحو التشفي والانتقام من أهل المركز، وتجريعهم مثل ما تجرعوا، لا يفيد إلا المزيد من الألم، ولا يصلح حال أحد. هل يمكن إذن أن نسأل، لماذا “ينتقم” أهل الهامش؟ فالمعروف أن الانتقام إنما يكون ممن تسبب لك في أذى مباشر، فأنت تريد أن تؤذيه كما أذاك. هل هذا اعتراف ضمني من أهل المركز، ذوي التجليات النبيلة، بأنهم آثمون، مثل سلطتهم المركزية، في حقوق اخوانهم أهل الهامش؟ فإن كان كذلك، فأيهم أولى، أن ننظر ونراجع ما سببناه من أذى – ضمني أو مباشر – لأهل الهامش، أم نتذمر من مقابلة المثل بالمثل؟

يقول المهاتما غاندي، في صيغة مشابهة، عن أن مشكلة الفقر والبؤس هي مسؤولية اجتماعية، “لا ينبغي أن ننخدع بالثراء الذي نراه في المدن الهندية، فهو آت من دماء الفقراء. أنا أعرف اقتصاد القرية، وأقول لكم إن الضغط من الأعلى يسحق أولئك الذين في الأسفل. كل ما علينا فعله هو أن ننزل عن ظهورهم”. وبين المدينة والقرية يمكن أن نقول “بين المركز والهامش” أيضا. برغم وضوح ما يجب فعله، إلا أن المماطلة والتسويف هو ديدن المستفيدين من الوضع الراهن؛ حتى ولو كانت استفادة نسبية.


قد يقول قائل – بحق وبغير حق – أن شعب المركز لا يمكن أن يوصف بأنه “مستفيد من الوضع الراهن”، بأي حال من الأحوال، ولا حتى نسبيا.. هذا في عمومه صحيح، إذا استثنينا القلة من رموز السلطة المركزية الحالية والمجتمعين حولهم، لكن المسألة أعمق من هذا.. المسألة تاريخية، ومتعمقة، بحيث أن السلطة المركزية الحالية كثيرا ما تشكل في وجدان بعض أهل المركز شرا مبررا، لأن البديل المتوفر الآن هو استيلاء حركات المقاومة، ذات الأغلبية من الهامش، على مقاليد السلطة المركزية في السودان.. وهذا في العقل الجمعي لأهل المركز – شعوريا ولا شعوريا – يمثل شرا أكبر من الواقع المعاصر، لأنه يهدد جميع الامتيازات التاريخية التي راكمها أهل المركز على حساب أهل الهامش.

وما بال المقاومة المسلحة؟ هل العنف المضاد هو الحل؟ وهل ما زلنا في زمن تأييد التغيير العنيف؟ ألم نشهد ونتعلم من تجارب الإنسانية المريرة أن العنف لا يأتي بسلام مستدام، وإنما هي الدوامة الشرسة التي لا تنتهي؟ أسئلة كثيرة من هذا النوع تقفز لخواطر وألسنة القراء. وهي عندنا مبررة، في عمومها، لكنها في غير محلها، وتحتاج للامتحان الواقعي، لأن ثقافة السلام ليست عاطفة فجة، وإثارات مطلقة بلا موازين، إنما هي استراتيجيات نحو أوضاع اجتماعية مستدامة، تتطلب حنكة  وحكمة سياسية واقتصادية، وكل ذلك إنما يقاس بالمعطى في أرض الواقع، لا بالمُثل المجردة.

من المعروف أن الأستاذ محمود محمد طه كان من أكبر دعاة التغيير السلمي في السودان، وقد قدم دفوعات أخلاقية وموضوعية قوية في صالح المقاومة السلمية، وعليه فهو نموذج بارز لدراسة ماهية المقاومة السلمية وآلياتها، نظريا وتطبيقيا.. في كتاب “أسس دستور السودان”، تحدث الاستاذ عن الجيش السوداني، وقال إن على الحكومة المركزية “واجب الدفاع الوطني بالجيش السوداني، الذي يخضع لها وحدها وتنبث معسكراته في النقط الاستراتيجية في جميع البلاد، كما يستمد جنوده من سائر المواطنين، ويقع واجب الدفاع الوطني على السلطتين المركزيتين: التشريعية، والتنفيذية، اذ أن البرلمان وحده هو الذي يعلن حالة الحرب، وينفق على الجيش”.. إذا قرأنا مكتوب الاستاذ هذا، هل نستنتج بان خيار الحرب لا مكان له في الفهم السياسي عند الأستاذ؟ أم أن هنالك حالات من “الدفاع عن النفس” – وليس مجرد “المقاومة المسلحة” أو “التغيير العنيف” – يفرضها الواقع، ويفرض بها على الشعوب الحرة خيارات ليس من بينها تجنب السلاح؟

ومن الناحية العملية، فقد أيد الاستاذ محمود ما فعله عبدالله خليل حين جهّز الجيش السوداني للذود عن حلايب. أيده في اتساق مع ما قاله مسبقا بخصوص دور الجيش السوداني في حماية أرض الوطن من اعتداء المعتدي، إذ أن ذلك دفاع عن النفس وليس وقوفا في صف العنف. أيضا، قال الاستاذ، في بعض تصريحاته، إن قصارى الحرب، في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إنما هو أن تقود الاطراف المتنازعة لطاولة المفاوضات، وهذا حق. لكن هذا يعني أيضا أن الحرب أحيانا تكون هي السبيل نحو طاولة المفاوضات، لان أحد طرفي النزاع لا يعترف بالطرف الآخر وبكيانه في مستوى انه يستحق المفاوضة.

بعض مثقفي المركز، من أصحاب الضمائر، يرون أن موقفهم هم من المقاومة السلمية هو نفس الموقف الذي يجب أن تقفه شعوب السودان المهمشة والمعرضة للقصف الجوي والتهجير القسري والتعذيب وجرائم الحرب، وهذا في نظري موقف قد يدل أحيانا على قلة الشعور بمعاناة الآخرين، وضعف الخيال بحجم المصائب التي تواجههم بصورة ملحة ويومية “في لحمهم الحي”. حين يواجه المرء عدوا لا يعترف حتى بإنسانيته، بله حق حياته، وهو أيضا عدو غير مؤهل لأن يحسب نتائج عدوانه النابع من كراهية تنضح، واستعلاء مستعلن، يصبح من رفاهية الحديث أن توصي هذا المعتدى عليه بان يختط خط المقاومة السلمية. حتى غاندي تحدث عن أن المقاومة السلمية تستهدف مواجهة الخصم بضميره، وبمُثُله  الأخلاقية التي يزعم لنفسه أنه يلتزم بها، فإن لم يكن الخصم على مستوى من الحس الإنساني يجعله يلتقط هذه الرسالة فإن الرسالة لا تُفهم، وقد لا تُلتقط أصلا (والذي أخرج المستعمر البريطاني من الهند هو الرأي العام البريطاني، والعالمي، الحر، تحت أنظمة تقر بشرعية هذا الرأي والاستماع له، بعد أن التقط هذا الرأي العام الرسالة التي وجهها له الشعب الهندي بقيادة غاندي، وفهمها). حكومة الخرطوم الحالية لها رصيد واضح من التجربة التي تفيدنا بانها لا تتحدث هذه اللغة، وإنما تتحدث، في أعلى مناصبها، لغة “لحس الكوع” و”الحشرات” و”العصا”، وما يليها.

إن وضع إنسان المركز، اليوم، ليس هو وضع إنسان الهامش، حين يُجابَه هذا الأخير بانتهاك حياته وعرضه، انتهاكا صريحا وبالغا أقصاه. ثم إن حتى النهج الديني عموما، وفي الإسلام، في السنة النبوية خصوصا، هو ألا ينتصر المرء لنفسه، وأن يحتمل الأذى في نفسه، لكن هل يطالب الرجل بان يقف مكتوف الأيدي إذا تم تهديد زوجته وأطفاله بالخطر أمام ناظريه؟ وهل يطالب أشداء المجتمع بأن لا يحموا ضعافه من النساء والأطفال والعاجزين وكبار السن؟ أم أننا لا نظن أن هؤلاء تعرضوا للانتهاك السافر، المُخطط والمُنفّذ بسلطة الدولة؟

هناك جيوب من الكرة الأرضية اليوم ما زالت تعيش بقانون القرون الماضية، بل وأحط من ذلك، في ظروف حرب يعمل فيها قانون الغاب. إن من غير الواقعي نقد حركات الهامش في خيارها المقاومة المسلحة، تماما كما من غير الواقعي أن نقول لأي محتل، مثلا، تعال نحلها بالمفاوضات فقط، في حين أن جيوش هذا المحتل لم تعلن نية غزونا فقط، إنما بدأت في التنفيذ العملي في ذلك.

ونحن في السودان – وبعض بلاد العالم “الثالث” – اليوم نعيش في ورطة أن جيوشنا الوطنية، التي نصرف عليها من ضرائبنا، ونغذيها بفلذات أكبادنا، هي التي تفعل كل ما يمكن أن يفعله المعتدي المحتل. هناك بعض الكتب التاريخية والتحليلية، في المكتبة السودانية اليوم، ترصد مسيرة الجيش السوداني، منذ ما قبل الاستقلال (قوة دفاع السودان) إلى ما بعده، ودوره في الحروب الأهلية، والانقلابات، والانقلابات الفاشلة، انتهاء إلى ما جرى في عهد السلطة المركزية الحالية من زعزعة واضحة لبنية الجيش وتدجين صريح لقياداته. الخلاصة المشهودة هي أن الجيش السوداني، باختصار، به مشاكل كثيرة كمؤسسة، لأنه حتى هذا اليوم لم يستوف شروط المؤسسة الوطنية، لا في ديمغرافيته ولا في هيكله المادي ولا في تاريخه المهني. هذا الجيش، منذ أيام رئيس الوزراء محمد المحجوب، شارك بفعالية في قتل وتشريد مواطني السودان، في بقاع شتى، وانخرط في أعمال سياسية داخلية، بدون حياد، مرات أكثر بما لا يحصى حيال المرات التي نهض فيها لحماية أرض السودان من تهديد أجنبي.

من المؤكد أن خيار الاشتباك المسلح له مشاكل كثيرة، ولا يمكنه أن يتخلص منها، وتحدث في خضمه الكثير من التجاوزات، من جميع الاطراف، لكنه هنا، وبصورة واضحة جدا، خيار بين خيارات أخرى، أحلاهم بمرارة العلقم. كما لا يصح موضوعيا أن ننظر لمقاومة الهامش المسلحة على أنها “محاولة للاستيلاء على السلطة بالعنف”، إنما هي، حسب الحيثيات الموضوعية، محاولة لتحييد عنف السلطة – وهي التي بادرت بالعدوان والانتهاك السافر للحقوق –  حتى تكون هناك مرحلة قادمة من اقتسام السلطة والثروة، بين عموم شعوب السودان، بغير ميزان القهر والغلبة.

باختصار، فإن الدور الذي يلعبه أهل المقاومة السلمية، في تكميل البناء الفكري والاخلاقي من أجل سودان جديد، بمعنى الكلمة، ليس هو نفس الدور الذي تلعبه حركات الهامش المسلحة، وليس هو المتوقع منها، حسب معطيات ظروفها وإمكاناتها التي تحدد لها أولوياتها. لكن هذين الدورين متكاملان، وليسا متناقضين، في سياقنا التاريخي المعاصر. مشروع السودان الجديد ليس حوالة على فئة واحدة من فئات المعارضة، ثم نحن نتناقش حول أي هذه الفئات تكون، لأن مشروع السودان الجديد في جوهره يطالب بمشاركة الجميع في العمل نحوه، وكلٌّ من موقعه. يكون من الظلم أن نحاكم حركات الهامش المسلحة بمعطيات ظروفنا نحن، أهل المركز، ويكون من نقص البصر ألا نرى ما يستوجبه اختلاف الظروف والإمكانات من اختلاف أدوار، وإن كان الهدف العام واحدا.

ما هي سعة الخيال المطلوبة في هذه الظروف، وخصوصا من أهل المركز؟ هي المقدار الكافي من الخيال لتصور ظروف الآخر (وهو لن يكون تصورا كاملا على أي حال، فأهل الوجعة لا يعرفها مثلهم أحد). إذا لم نستطع فعل ذلك فلن نكون في الطريق السليم نحو بناء أمة سودانية، لم تدخل التاريخ حقا بعد. إن الخيال، لو استعملناه بجدية وحذر، قد يخفف كثيرا من عيار التجارب الأليمة المطلوبة كامتحانات تاريخية، وطقوس عبور، تتشكل عبرها الشعوب الناضجة، الواعية بقيم التعايش السلمي والاحترام المتبادل.

هذا من ناحية – وهي الناحية الأهم – ومن ناحية أخرى يرى البعض أن اقتدار جماعة مسلحة، في حرب العصابات، على كسر شوكة القوات المسلحة المدعومة من الدولة، أمر يصعب تصديقه، ولا طائل من رائه، ولهذا فإن ما تفعله حركات الهامش المسلحة اليوم، بعضويتها الغالبة من أهل الهامش، إنما يضر أكثر مما ينفع، ويؤدي للمزيد من غضب السلطة المركزية الذي يُترجم لمزيد من معاناة المظلومين. لكن الواقع أن تاريخنا المعاصر يخبرنا بالكثير من هذه السيناريوهات. في أمريكا اللاتينية، مثلا، تمكن فيدل كاسترو، عن طريق مجموعة لا تتجاوز المائة من المحاربين، التسلل إلى جزيرة كوبا عن طريق مركب واحد، وسرعان ما قضى عدد كبير من هؤلاء، منذ أولى خطواتهم في كوبا، وكان البقية محصورين وفاقدين للمعونة تماما، لكنهم تدريجيا، وبتكتيك حرب العصابات وحشد التأييد من داخل كوبا نفسها، استطاعوا الصمود والنمو والتغلغل، حتى هزموا قوات الدولة هزيمة نكراء. في جنوب افريقيا أيضا، وحين اختار المؤتمر الوطني الافريقي أن يقود حربا سياسية وعسكرية على نظام الابارتيد، بعد أن يئس من المقاومة السلمية البحتة ضد نظام يفتقر للحد الأدنى من الحس الإنساني، كان مانديلا – وهو أول قائد للجناح العسكري للمؤتمر – يحوم افريقيا لحشد الدعم له من داخل افريقيا نفسها، وليس من اسرائيل أو من أمريكا (وقد زار السودان حينها، ولم يعبّره أحد، سوى موظف المطار الذي رحّب به بحماسة، كما كتب مانديلا في مذكراته)، وقد استطاع المؤتمر الوطني الأفريقي تحقيق انتصارات كبيرة، على النطاق السياسي العالمي والنطاق العسكري المحلي، بواسطة حرب العصابات وزعزعة استقرار الدولة، بصورة تنامت حتى جعلته قوة لا يُستهان بها عالميا حين الحديث عن جنوب افريقيا. لقد كان المؤتمر الوطني الافريقي، في فترة كبيرة من تاريخ نضاله المسلح، محسوبا كتنظيم إرهابي، ليس بواسطة حكومة جنوب افريقيا فقط، وإنما بواسطة بعض الدول الغربية أيضا، ومن ضمنها أمريكا. هذان مثالان معروفان.

حرب العصابات من أكثر الحروب صعوبة على الجيوش النظامية، وقانونها قانون التكتيك، والاستنزاف، واختيار الاماكن والأزمان المناسبة للضربات، وليس قانون كثرة العدة والعتاد. الدكتور جون قرنق وغيره، من قيادات هذه الحروب، كانوا يقولون، ما معناه، أثناء حرب العصابات، إن استهانة الجيش النظامي والحكومة بنا هي من عوامل نجاحنا، والحكومات كثيرا ما تشعر بحجم المقاومة المسلحة الحقيقي بعد فوات الأوان.

إذن من الخير لنا ألا نستهين بقوى الهامش، المسلحة والسلمية معا، وبقدرتها على ريادة قضيتها بنفسها. من المعروف في التاريخ أن الحقوق لا تعطى، وإنما تؤخذ حين يطالب بها أهلها، مطالبة جادة ومستمرة، وقد توفرت هذه الأسباب اليوم. لكن التاريخ يخبرنا أيضا أن أهل الحقوق دائما ما يجدون من يناصرهم من الطرف الآخر، لأن وشيجة الإنسانية، والشعور بالحق وبغض الظلم، سمة مودعة فينا جميعا، بيد أنّا نحتاج لسقايتها ورعايتها، حتى لا تذبل، وحتى تنبت ثمرا محسوسا، ينفعنا وينفع من حولنا.

الجزء الثاني

فكرة هذا الجزء الثاني أتت جراء النقاش الذي أثاره المقال الأول، فلم يكن هذا الجزء في تدبير الكاتب منذ البداية، لكن النقاط التي أثيرت حوله جديرة بجزء آخر.

في هذا المقال سأتناول ثلاث نقاط أثارت النقاش.. أضعها أدناه في صورة أسئلة للإجابة عليها اليوم:

السؤال الأول: أليست القضية في جوهرها قضية ظلم في توزيع السلطة والثروة، وضحيتها جميع من لا ينتمي أو يتواطأ مع السلطة المركزية؟ فلماذا إذن الحديث عن “مركز وهامش” بصورة تتضمن الاثنية؟ فإن لم يكن بصورة اثنية فما هو المركز وما هو الهامش إذن؟ أليست العاصمة وما جاورها مليئة بأعداد كبيرة من القادمين من أقاليم السودان كلها؟ هل هؤلاء أيضا من أهل المركز الآن؟

السؤال الثاني: هل قادة حركات الهامش المسلحة، اليوم، في المستوى الأخلاقي ووضوح الرؤية الذي كان لمانديلا، او لجون قرنق؟ فإن لم يكونوا كذلك، فما أبهظ الثمن الذي سيدفعه أهل الهامش جراء مغامرات مسلحة تثير حنق السلطة المركزية أكثر، وتزيد من شراستها في قهر المقهورين؟ ألسنا نرقد على تاريخ طويل من “خيانة النـُخب” لشعبها، حيث يدفع الأخير ثمن مغامرات هؤلاء القلة، ثم
يخذلونه في المواقع الحاسمة؟

السؤال الثالث: هل نستطيع فعلا تحميل مواطن المركز البسيط وزر البشائع التي ارتكبتها السلطة المركزية الحالية في حق أبناء الهامش؟ أليس من الجور أن نشمل جميع “أهل المركز” في الملامة بهذه الصورة؟ حتى ولو كان مواطنو المركز البسطاء غير مبالين بأهوال الحرب في الهامش، فذلك يعود كثيرا لأن الأوضاع المعيشية الصعبة شغلتهم بأنفسهم، ولأنهم اعتادوا على أخبار الحرب في الاطراف منذ ما بعد الاستقلال، فصار الأمر بالنسبة لهم هو الوضع الدائم، وما غيره استثنائي. كيف يمكن لومهم؟

(1)
بالنسبة لعلاقات الهامش والمركز، فمسألة الهوية الإثنية تمثل في السودان ذروة ظلامات السلطة والثروة، ليس لأن الهوية الاثنية مهمة في ذاتها هنا، او أن الناس فعلا يمتازون بعضهم عن بعض بواقع الإثنية الموضوعي، وإنما لأن الطاغوت في السودان اختارها مطية لأجندته المتمثلة في استغلال الأرض والناس من أجل المكاسب والامتيازات الخاصة الضيقة. فصار لا يمكن فضح هذا الطاغوت بدون خوض غمار مسألة الهوية وتشعباتها. قضية المركز والهامش هي قضية ظلم في توزيع السلطة والثروة، يتقنع بقناع الدين – لا جوهره – واستدعاءات التمايز العنصري. لا بد من كشف هذا القناع، حتى نمضى قدما ونبني وطنا.

ربط قضية العنصرية بالسلطة والثروة مهم جدا، لأن حيز السلطة والثروة، وعلاقاتهما، هو الحيز الذي تُترجم فيه فرضيات العنصرية من مجال الخيال لمجال التطبيق (وهذه الترجمة هي التي تُبرز “الاضطهاد”، فالاضطهاد ليس مجرد تصورات ذهنية عن الذات والآخرين، وإنما ممارسة مادية). وموضوع “وهم النقاء العرقي”، بشتى تفاصيله، يدخل ضمن هذا الإطار أيضا. من الواضح عموما أن الاضطهاد العنصري لا يتجلى في فراغ، وإنما عبر المظالم الفادحة، والمتكررة عبر الأجيال، في إدارة الثروة والسلطة. لكن، الواقع الموضوعي للتعدد الإثني في السودان هو الذي يعطي هؤلاء العنصريين مادة خام، ينسجون منها شباكهم الغادرة بالوطن. إذن فالتعدد الإثني في السودان واقع يجب أن يُعترف به، ويُعامل بالحساسية اللازمة، لكن “سياسة الإثنية” هي اختراع المركز والمتواطئين معه.

الاتجاه الذي أراه عموما الأكثر شمولا وتسديدا في تحليل مسألة الهوية والثروة والسلطة في السودان، هو التحليل الثقافي الذي تروج له حركة كوش السودانية (مؤتمر الوطن السوداني المتحد) في بيانها الذي صدر في منتصف تسعينات القرن الماضي. أرى أنه من الضروري في هذه السانحة إيراد المقتطف الطويل أدناه، من مانفستو كوش، من أجل الوضوح التام:

12.1.4. مفهوم المركز: المركز ليس إلاّ مجموعة من الصّفوة المعاد إنتاجها ثقافيّاً ـ ومن ثمّ أيديولوجيّاً ـ داخل حقل الثّقافة العربيّة الإسلاميّة عبر عمليّة من الأدلجة والتّشكيل، الأمر الذي يُفضي في النّهاية إلى شيئ لا علاقة له بإنسانيّة هذه الثّقافة نفسها وبذلك ينسفها. بهذا لا يكون المركز مرتبطاً بعرقٍ ما، أو جهةٍ ما، وما تصويره على أنّه كذلك إلاّ مجرّد خدعة. فالمركز مركز سلطوي، صفوي يحتكر السّلطة والثّروة، وفي سبيل تأمين مصالحه يسخّر الثّقافة والعرق والدّين والجغرافيا. بهذا تُصبح هناك طريقٌ واضحة للطّامحين للسّلطة إذا ركبوها وصلوا إليها: الأسلمة والاستعراب، أي تبنّي الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة. وهكذا تكوّن المركز من صفوة متباينة الأمشاج والأعراق والثّقافات، متلاقية في الأهداف المتمثّلة في الثّروة والسّلطة. هنا لا يهمّ من أيّ مجموعة ثقافيّة أو عرقيّة ترجع أصول المرء، طالما كان مستعدّاً للتّضحية بأهله تحت شعار الإسلام أو العروبة، وكلاهما بريئ من ذلك. وفي الواقع فإنّ أغلب الرّموز القياديّة التي قام عليها المركز من أبناء المجموعات الموغلة في التّهميش إلى حدّ التّعريض بها ثقافيّاً وعرقيّاً. هذا هو المركز الذي يسيطر على مؤسّسة الدّولة في السّودان، مهمّشاً في ذلك جميع السّودانيّين. هكذا تكوّن المركز من أمشاج إثنيّة منبتّة عن أصولها، وهو مركز غير وطني بالمرّة ولا همّ له غير أن يحوز على السّلطة والثّروة. وهو مركز على استعداد لأن يبيع السّودان بالقطّاعي وبالجملة طالما كان ذلك سيُؤمّن له احتياز السّلطة والثّروة.

13.1.4. مفهوم الهامش: توالى قولنا في الكثير من البحوث بأنّ الهامش ليس في جهة جغرافيّة بعينها (شمالاً كانت أو جنوباً، شرقاً أو غرباً أو وسطاً) دون غيرها، بل هو في كلّ مكان، ومن يغالط في هذا عليه أن يخرج مما يسمّى بالمناطق الحضرية عدّة كيلومترات فقط ليرى التّهميش بأم عينه. كما لا يصبح الهامش وقفاً على مجموعات إثنيّة بعينها دون أخرى. وهذا هو مناط القول بأنّ الهامش ليس جغرافيّاً كما ليس عرقيّاً، بل هو هامش سلطوي أيضاً.

ولكن ينظر الكثير من المثقّفين إلى الهامش باعتباره المنطقة الجغرافيّة الواقعة في أقصى الغرب والشّرق والجنوب بخلاف وسط السّودان وشماله الوسيط، كما يربطون فهمهم هذا بالمجموعات المستعربة التي تعيش بهذه المنطقة ثمّ بالنوبيّين في أقصى الشّمال. ولكنّا نرى أنّ هذا الفهم يتقاصر عن الإحاطة بظاهرة التّمركز والتّهميش وارتباطها بعمليّة تداول السّلطة. أكثر من ذلك فإنّ هؤلاء النّاس يقعون في شركٍ نصبه لهم المركز الذي يريد أن يصوّر الأمور وكأنّها تجري هذا المجرى. ذلك لأنّ ابتناء رؤية كهذه من شأنه أن يجيّر أبناء هذه المناطق ـ والتي هي أيضاً مهمّشة ـ لمصلحة المركز، وهو تجيير قد حدث فعلاً واستمرّ ولا يزال يستمرّ. كما لا ينفي هذا بأيّ حال من الأحوال الامتيازات المادّيّة النّسبيّة ثم الأيديولوجيّة الوهميّة التي أضفاها المركز على أبناء هذه المناطق من حيث إيهامهم بأنّهم عرق متفوّق ذو ثقافة متميّزة، فضلاً عن إيهامهم بأنّهم هم سادة البلاد الأصليّون مقابل مجموعات ثقافيّة أخري منها ما هو وافد ومنها ما هو أقلّ شأناً لا يعبأ الله بهم ـ حسب زعم المركز. كما ينهض فهمنا على أن أصول التهميش ترجع إلى قرون وليست عدة عقود كما يرى البعض. كما يذهب فهمنا إلى أن عمليات التمركز والتهميش ليست مرتبطة بعرقٍ ما، أو جهةٍ ما، وما تصويرها على أنها كذلك إلا مجرد خدعة.

14.1.4. التّهميش تنموي وثقافي: يجري التّهميش على نوعين: بسيط ومركّب. التّهميش البسيط ذلك الذي ينحصر في الحرمان التّنموي والاقتصادي. في هذا يتساوى جميع السّودانيّين بمختلف ثقافاتهم وأقاليمهم باستثناء صفوةٍ منهم يشكّلون المركز وينتمون إليه. أمّا التّهميش المركّب، فذلك الذي يجمع بين الحرمان التّنموي والحرمان الثّقافي ممثّلاً في توجّهات الدّولة الأيديولوجيّة لإعلاء ثقافة بعينها على حساب ثقافات أخرى بما يندرج تبعاً لذلك من حرمان تنموي ومادّي.” انتهى النقل من بيان حركة كوش.

(2)
بالنسبة للقيادات الاخلاقية والفكرية من الهامش، لا بد أولا من الحديث عن تاريخ ليس بالقديم. جون قرنق ديمبيور، الذي نحتفي به اليوم كعظيم من عظماء التاريخ السوداني الحديث، كان متهما بأنه ليس قيادة أخلاقية مؤهلة، في بدايات الحركة الشعبية. الكثير من مثقفي المركز وقفوا وقفة معادية للحركة الشعبية بدون أن يحتاجوا أن يقولوا إنها سيئة لأنها آتية من الهامش، وإنما استهدفوا قيادتها، واتهموها بالضعف الاخلاقي، والسعي وراء السلطة، والعمالة للخارج، الخ.

الشاهد أن الحكم على القيادات العسكرية لحركات الهامش حكم يحتاج لمستوى طيب من الحياد أولا، كما أن نظرية “المتهم مدان حتى تثبت براءته” ليست نظرية سليمة، اضافة لأنها تتعارض مع أهم مبادئ نظم العدل المعاصرة. هذا لا يعني أن القيادة الأخلاقية غير مهمة، لكنها في واقع الأمر لا يمكن إثباتها أو نفيها إلا في معترك العملية التحررية نفسه، إضافة إلى أن قيادات الهامش تتجدد، وتستفيد من سابقاتها، كل حين، لأن هذه سنة البشرية الماثلة في تاريخ نضال الشعوب. أبطال الشعوب، لدرجة كبيرة، تصنعهم الاقدار، ولا يصنعونها هم. هم يولدون ويبرزون مع ظروف السياق التاريخي المحيط بشعوبهم، وليسوا هم من يخلقون ذلك السياق التاريخي.. إذن صبرا يا جماعة، فقيادات الهامش الاخلاقية تتخلق الآن، وسوف “تتحيرون” حين تبرز هذه القيادات بروزا أوضح، كما برز من قبل القائد الهمام جون قرنق، وكما برز من قبل علي عبداللطيف، وآخرون. (وكما نرى اليوم، فإن قيادات الهامش المتخلقة اليوم لا تستثني النساء، بل هن في قلب المعركة وصدارتها).

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فعلى العموم ليست كل حركات الهامش المسلحة على نفس المستوى من الاستعداد الفكري والتنظيمي والأخلاقي، لكن دفاعي هنا عن عموم الظاهرة، وليس عن حركات معيّنة، فهذا له مكان آخر.

في جنوب افريقيا، مثلا، لم يولد النضال ضد نظام الابارتيد مع مانديلا، كما أن المؤتمر الوطني الافريقي نفسه لم يولد مع مانديلا، علاوة على أن مانديلا نفسه تربى على أيدي عدد من القيادات السابقة له في النضال قبل أن يشب عن الطوق، ويقدم مساهمته الأصيلة والناضجة. إضافة لذلك، فإن هنالك قيادات تاريخية ضد الابارتيد في جنوب افريقيا تضاهي، أو تفوق، ما قدمه مانديلا، نظريا وعمليا. أحد هؤلاء البطل روبرت سوبوكوي، مؤسس مؤتمر عموم افريقيا (The Pan-Africanist Congress – PAC)، والذي كان من ألمع قيادات المؤتمر الوطني الافريقي (African National Congress – ANC)، وتميز بقامة أخلاقية وفكرية عالية، من قبل مانديلا، ثم انشق عن المؤتمر الوطني (ANC) لأسباب استراتيجية واضحة، لم تورثه ضغينة ضد حزبه السابق، وإنما أثبتت عمق رؤيته. سوبوكوي، في واقع الأمر، هو صاحب المبادرة التي كانت بداية هزيمة نظام الابارتيد، حسب التحليلات التاريخية الكثيرة، ولهذا فقد لقي سوبوكوي معاملة خاصة جدا، وقهرا خاصا جدا، من نظام الابارتيد، نتيجته اليوم أن سوبوكوي صار “مهمشا” عموما في النسخة التاريخية المروّجة عالميا لتاريخ “أزانيا” – جنوب افريقيا – الحديث (والذي لم ينته فيه الابارتيد تماما بعد، في الواقع.

باختصار، الشعوب المضطهدة أرحام مليئة بالثوار الشرفاء، والوقوف مع قضية هذه الشعوب، وحقها في الدفاع عن وجودها وكرامتها، لا يجب أن يشترط “قيادات أخلاقية” تـتم إجازتها من الخارج (أي من خارج تلك الشعوب المهمَّـشة نفسها). هذه القيادات نفسها، حين تظهر، فهي إنما تـُجاز من شعوبها، فهي الحكم الفصل إذن. كما قال الإمام علي، كرم الله وجهه، “لا تعرف الحق بالرجال.. اعرف الحق تعرف أهله”.

(3)
من المؤكد أن مواطن المركز البسيط، ومواطنة المركز البسيطة، لا تتحمل نفس وزر السلطة التي تقوم بتقتيل وتشريد واغتصاب شعوب الهامش. لكن إلى أي مدى يمكن أن نعفي أهل المركز من تراكم المظالم والبشاعات بحق أهل الهامش؟ أليست السلطة المركزية الحالية، والسلطات المركزية السابقة لها، توسلت للسلطة برموز ثقافة المركز؟ ألم تقم جميع هذه السلطات، من ثم، بحماية جميع الامتيازات التاريخية التي راكمها الانتماء للمركز؟

إن الصمت في بعض الحالات الحاسمة يمكن أن يُحسب تواطؤا، وإن كان غير مدفوع الأجر. كما أن هناك جانب من رفض أقبح صور الظلم والانتهاك يدخل في باب فرض العين، لا فرض الكفاية. وهو رفض مطلوب في أقل مستوياته، وأقل مستوياته هو الاعتراف بكون المنكر منكرا!

المسؤولية تقع على مستويات، فالمثقفون الوطنيون من أهل المركز موزورون إذا لم يستعملوا أدواتهم في قولة الحق، والجندي الموظف الذي تأمره السلطة المركزية بما يؤذي اخوته من بني الهامش موزور طبعا إذا لم يستمع لضميره (ولا يمكن أن يظن انسان أن لقمة العيش تبيح استباحة دماء وأعراض الأبرياء)، أما المواطن البسيط، فأضعف الإيمان أن يراجع ثقافة العنصرية التي نشأ عليها بباطل، وأورثته قلة اهتمام بمصائر من تعوّد على خدعة أنهم أقل منه مكانة. وفي النهاية، فإن السلطة المركزية إنما يعتمد بقاؤها على كل مستويات التواطؤ التي تتوفر لها بين مجموعات الشعب، ومن ذلك التواطؤ الانشغال بالدائرة الشخصية الصغيرة في أوقات فقد فيها الحق النصير، وعربد الباطل.

أيضا فإن الثقافة العنصرية في السودان أمر لا ينكره إلا مكابر. هي مشاعة في علاقات الناس وأحاديثهم، وسط الفقراء والأغنياء معا. إن النظرة الدونية للآخر، بسبب القبيلة واللسان والتاريخ، هي بذرة الظلم، فإن الإنسان يتهيأ لتهميش اخوته حين يتصالح داخليا مع فرضية أنه أفضل منهم بالميراث الطبيعي، أو المنحة الإلهية، وهذا هو حال العنصرية في جميع الأماكن والأزمان. وأول طريق القضاء عليها هو الاعتراف بوجودها، وليس احتيال الحيل لتفادي الواقع وتبرئة الساحة.

نشر بصحيفة التغيير الالكترونية، على جزءين، في 8 و16 مايو 2013

أضف تعليق