منصور خالد: بانثاو (هجليج) تابعة للجنوب؟

(النص أدناه مقتبس من كتاب الدكتور منصور خالد: “السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام.. قصة بلدين”، صدر في 2003 عن دار تراث، لندن.. الصفحات من 340 إلى 343.)

أما حول البترول، فقد نشرت الجمعية الفابية البريطانية عام 1947م ورقة حول السودان، وكأنها كانت تقرأ المستقبل في كرة بلورية. تقول الورقة ان فقدان الشمال للإقليم الجنوبي سيكون مسألة قلق إلى حد ما، ولكن ثمة خوفا من أن تظهر في الجنوب ثروة تضمن استقلال السودان بأكمله. ذلك التخوف أصبح نبوءة تحققت عندما أعلنت شركة شيفرون (السودان) التابعة لشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا أكتشافها المفاجئ للبترول في بانتيو، وهي منطقة من مناطق النوير تقع في الطرف الشمالي الغربي لمديرية أعالي النيل. ومنذ البداية، اتسم أكتشاف البترول بأخطاء فادحة كان من الممكن تفاديها، كما صحبته ضروب من الفساد الرهيب، كان السودان في غنى عنها. 

أولا: تبنت الحكومة خطة مثيرة للجدل تتعلق بأنشاء مصفاة البترول في كوستي الواقعة في منطقة النيل الأبيض في شمال السودان والمحاذية للجنوب، بدلا من إنشائها في منطقة الإنتاج، ومما لا جدال فيه أن إنشاء المصفاة في منطقة الإنتاج كان سيحدث تغيرا كبيرا في المناطق المحيطة بها، ويوفر فرص عمل واسعة لأهالي المنطقة، كما سيعين على تحسين البنية التحتية وتطوير الخدمات الأجتماعية في الجنوب كله. ولكن نميري ومستشاريه لم يكونوا على أستعداد حتى لقبول الاقتراحات التي قدمت لإنشاء وحدة تقطير (cracking unit) في بانتيو لسد احتياجات الجنوب العاجلة من البترول. وكان حامد الأنصاري، ولم يكن من أهل الحكم، من أكثر الناس حماسا للمشروع وظل يلهث دون جدوى وراء المسئولين ليبصرهم بالعائد السياسي ـ قبل الأقتصادي ـ للمشروع.

ثانيا: شاعت أتهامات خطيرة حول الطريقة التي تم بها قبول العطاءات الخاصة بإنشاء المصفاة وبناء خط الأنابيب الذي يصلها ببورت سودان.جميع تلك العمليات أجريت بدون أدنى حد من الشفافية، وأقتصرت على عدد محدود من الوزراء المركزيين، كان واسطة العقد بينهم وزير شئون الرئاسة، بهاء الدين محمد إدريس، بعيدآ عن أنظار أغلب وزراء الحكومة المركزية وكل وزراء الإقليم.

ثالثا:أُقصى المجلس التنفيذي في الجنوب، بل أُقصى رئيسه عن هذه العمليات،رغم أنه كان أيضا نائبآ لرئيس الجمهورية. وفيما يبدو، لم يكن الرئيس، أو وزير شئون الرئاسة على أدنى درجة من الوعي بمشاعر القلق التي انتابت الجنوبين، بل كان وزير الطاقة، شريف التهامي ينتمي لمدرسة في الشمال لا تعارض الاتفاق فحسب، بل تزدري كل ما هو جنوبي.

صعّد نميري الموقف، من بعد، عندما قرر ضم منطقة إنتاج البترول إلى الشمال بصورة فيها من المكر بقدر ما فيها من الغباء. أطلق على تلك المنطقة أسم عربي عامي، هجليح (إهجليج في العربيية الفصيحة) بدلا من أسمها الجنوبي بان ثاو (قرية السنط)، والكلمتان تحملان نفس المعنى. وقد تم بالفعل ضم المنطقة إلى محافظة جديدة تحتوي على أجزاء من الجنوب والشمال أطلق عليها اسم الوحدة وأصبح نميري رئيس الجمهورية، محافظا لها. تعيين رئيس الجمهورية نفسه محافظا لإقليم بدعة من البدع النابعة من تراثنا، إذ لا يعرف مثلها بلد واحد من بلاد الله. وراء قرار نميري، فيما نعتقد، سببان: الأول هو استبعاد الساسة والإداريين الجنوبيين من التدخل في صناعة البترول، والثاني توفير الحماية لمافيا البترول داخل الحكومة المركزية والتي بدأ فسادها يزكم الأنوف. ومع أن الفساد لم يكن غريبا على السودان، ولم يخل منه أي نظام سابق، إلا أن الفساد في تلك الفترة قد اتخذ طابعا مختلفا ليس فقط بسبب حجمه، وإنما أيضا للجسارة التي مورس بها. فأن كان الفساد في العهود الماضية، وحتى فترات حكم مايو الأولى، هو حقيقة من حقائق الحياة (fact of life)، إلا أنه تحول في تلك الفترة إلى نهج تسير عليه الحياة. (way of life).

إعادة ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب وداخل الشمال نفسه، ليست أمرا جديدا في السودان. فمنطقة الكرمك، مثلا والتي أصبحت جزءا من مديرية النيل الأزرق، كانت خاضعة إداريا للجنوب حتى عام 1953م كجزء من أعالي النيل. ولكن في عام 1956م تم ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب بشكل قاطع، وهكذا بقيت حتى مجيء حكومة عبود التي قررت نقل منطقة حفرة النحاس في السودان الغربي إلى مقاطعة دارفور بعد اكتشاف خام النحاس في تلك المنطقة. وكان من المفترض أن يعود الوضع إلى ما كان عليه في 1956م عند إبرام اتفاق أديس أبابا الذي أقر حدود الجنوب كما تم ترسيمها في الأول من يناير 1956، إلا أن ذلك الموضوع لم يثر في السنوات الأولى بأعتبار أن السودان كله قد أصبح كيانا واحدا. وبتدهور الوضع في الجنوب، وتفاقم الشكوك في النظام، بدأت هذه المشاكل الساكنة تنفجر، خاصة في نهاية عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات. ففي العام 1980 أعلن وزير الداخلية الجديد، أحمد عبد الرحمن محمد (من الأخوان المسلمين) أن حفرة النحاس جزء من أقليم جنوب دارفور، كما أن بانتيو (منطقة البترول) هي جزء من جنوب كردفان. أثار ذلك التصريح سخطا كبيرا بين الجنوبيين مما دفع النميري للاحتكام الى لجنة قضائية ترأسها رئيس القضاء، خلف الله الرشيد. وبناء على ما أمامه من بيانات حكم رئيس لقضاء بأن بانتيو وحفرة النحاس يتبعان الإقليم الجنوبي. ومن الواضح أن القاضي الرشيد، لم يكن كالرئيس القائد، يلقي الكلام على عواهنه، وإنما يصدر الأحكام بناء على حجة وبيان. أستمر الوضع من بعد على ذلك النحو حتى جاء نظام الجبهة الإسلامية وقرر ضم المطقتين للشمال بشكل نهائي. لا عجب فنظام الجبهة نظام بطل، لا تعنيه السوابق القانونية، ولا تعرقل سيره الأتفاقات. وهكذا أثبتت الأيام صحة مخاوف الفابيين بعد مرور ثلاثين عاما على توقعها.

كل مناورات نميري الإدارية لم تمنع الجنوبيين من المطالبة بنصيب في الثروة التي اكتُشفت في أرضهم. هذا الموضوع لم تكن الحكومة المركزية، وعلى الأخص مافيا البترول، راغبة في الاستماع إليه. نتيجة لذلك اندلعت التظاهرات وتواصلت في الجنوب، مما خلق جوا من التوجس في الخرطوم. ذلك التوجس قاد الى استبدال كل الجنود الجنوبين في الحامية في بانتيو بفرقة عسكرية من غرب السودان. وكان على رأس القوة الجنوبية المرحّلة النقيب سالفا كير، الذي أصبح فيما بعد القائد الثاني للحركة الشعبية لتحرير السودان. أو لا يرى ذوو النُهى مدى الترابط بين الأحداث التي أخذت تتضخم ككرة الثلج. 

أضف تعليق