هل العنصرية تجاه الزنوج لا تخرج من دوائر النعرات الجاهلة و/أو المصالح المادية؟
كلا.. لا يقف الأمر على هذا، بل هناك بعض علماء البيولوجيا، بمختلف فروعها، لهم دلوهم في هذا المجال.. هناك مثلا ما قاله مؤخرا عالم الجينات الأمريكي جيمس واتسون (James Watson)، الحاصل على جائزة نوبل عام 1962، في لقاء صحفي مع صحيفة “سنداي تايمز”: “كنت طبيعيا أشعر بالكآبة بخصوص مستقبل افريقيا” لأن “جميع سياساتنا الاجتماعية تستند على حقيقة أن ذكاءهم هو نفس مستوى ذكائنا – في حين تقول كل الاختبارات أن ذلك ليس حقا.”
أضاف بعد ذلك، “الذين يضطرون للتعامل مع الموظفين السود يعلمون أن هذا ليس صحيحا” (أي ليس صحيحا أن السود في نفس مستوى ذكاء الآخرين).. في نفس الاتجاه ذكر أنه يبحث عن باحثين سود لينضموا لمعمل بحوث جينية في هارلم، نيويورك، تحت اشرافه، “لكن ليس هناك من يمكن توظيفه”.
هناك عموما أصوات قليلة اليوم، لكن تتحدث بثقل “علمي”، تزعم أن هنالك أدلة علمية، من البيولوجيا الداروينية، ومن دراسات الذكاء وغيرها، تفيد بأن الزنوج في مؤخرة البشرية من حيث القدرات والمواهب العقلية.. واتسون مثلا يدعم كلامه هذا بأن انفصال الشعوب البشرية عن بعضها لفترة طويلة، في تاريخ التطور وتاريخ الهجرات البشرية القديمة، يجعل من غير المنطقي أن نظن أن قدراتنا العقلية تطورت بصورة مماثلة عبر كل هذه الأزمان السحيقة لنكون اليوم في نفس مستوى الذكاء، ويرى أن مجرد افتراضنا هذا الشيء، أو تمنينا له، ليس كافيا ليجعله حقيقة.
هذه وصلة الخبر الصحفي: DNA Discoverer: Blacks Less Intelligent than Whites
ما هو “المعيار العلمي” للذكاء؟
يعتمد معظم – إن لم نقل “كل” – المتحدثين عن قضية التمايز العنصري في الذكاء على معيار الـ IQ، كمقياس للذكاء.. يدرسون علاقة مستوى الـIQ بالجينات العرقية والعوامل الثقافية/النفسية والبيئية المربوطة باعراق دون غيرها.. لكن هناك انتقادات كثيرة، ومتعددة الجبهات، لاختبار الـIQ ونتائجه.. تاريخ نشوء وتطور هذا الاختبار نفسه يشي بخلفيته المنحازة للثقافة المركزية الأوروبية، إضافة إلى أنه تم استعماله منذ بداياته الأولى كأداة طيّعة في يد النعرات العنصرية.
لكن، حتى مع ذلك، فإن التقارير تشير إلى أن نتائج امتحان الـ IQ ليست ثابتة عبر الأجيال، فهي في تصاعد دائم، كما أن الفئات الإثنية التي تتحرر اليوم من ربقة الاضطهاد التاريخي المزمن، تشير الإحصائيات إلى أن نتائج امتحانات الـIQ لمنتميها متصاعدة بوتيرة أعلى من المتوسط العام، وكأنها في طريقها للحاق المتوسط العام للفئات الإثنية ذات الامتيازات التاريخية والاقتصادية العامة.. هذا التصاعد ينطبق على الزنوج بالذات (أي أن المساحة بين متوسط إحراز الزنوج، ومتوسط غيرهم من البيض والآسيويين، تتقلص بصورة أسرع، عبر السنوات، من عموم متوسط الإحراز العالمي، أي أن الإحصائيات تشير لأن الزنوج، حسب معيار الـ IQ، يتسارع “ذكاؤهم” تصاعديا بصورة أكبر من غيرهم، عبر العقود المؤخرة، بحيث يجوز احتمال أن “يلحقوا بالركب” إذا استمروا في نفس الوتيرة).. عليه يمكن إعادة تعريف ما يقيسه هذا الامتحان فعلا، وهو ليس بالضرورة معدل الذكاء، بصورة مجردة، وإنما هو معدل “التأقلم مع متطلبات الحداثة” (adaptation to modernity) (كما ورد على لسان الصحفي راجح عمر، في الفِلم الوثائقي أدناه).. هنا يرجع امتحان الـIQ لأصوله الثفاقية وظروفه التاريخية التي أنجبته وجعلته ذا معنى.
إضافة لذلك فإن علماء الجينات الذين يرون أن للجينات فعلا علاقة بالذكاء، يقولون – أو الموضوعيون منهم – إن من غير الممكن إنكار العوامل البيئية أيضا وأثرها على تحصيل الإنسان واستثماره لذكائه الكامن، وعليه فإن السبيل الوحيد الذي يمكن معه – نظريا – قياس أثر الجينات وحدها بدون أثر البيئة على الذكاء، هو أن تحيّد عامل البيئة، بحيث تكون هناك بيئة يكون فيها الجميع سواسية تماما في تجربتهم الاجتماعية وانعكاساتها النفسية، بغض النظر عن أعراقهم أو أجناسهم، رجالا ونساء.. يقول العلماء إن تحقيق هذا الأمر – هذا التحييد لعوامل البيئة – هو أمر مستحيل في الواقع الحالي والمستقبل المنظور، لكن العمل عليه أولا هو السبيل الوحيد.. إضافة لذلك فإن مسعى إيجاد علاقة بين الجينات العرقية والذكاء مسعى غير مجدي من الناحية العملية لأنه لا يحمل أي ترتيبات “علمية” ليقف عليها الباحثون (إلا لو كانت ترتيبات “سياسية”، وهذه تعود بنا لتلك المنطقة الكريهة من تبرير الأنظمة الاجتماعية العنصرية بعد أن أثبتت أنها أنظمة غير ناجحة إلا في خلق عدم استقرار وكوارث اجتماعية مستمرة).. التيار الاجتماعي الوحيد الذي لديه استثمار معاصر في هذا الاتجاه (“العلمي” زعما) إنما هو التيار العنصري، بأجندته المسبقة، والتي تُفقده شروط الحياد العلمي والمصداقية منذ البداية.. هذا إضافة إلى أننا إذا اكتشفنا علاقة يمكن قياسها بين الجينات الموروثة والذكاء، ليس هناك أي ضمان علمي اليوم أن تكون هذه العلاقة هي علاقة “عرقية” (بمعنى أن يكون هناك تمايز “عرقي” عام بين الناس في مستوى الذكاء، وليس فقط تمايزا بين العوائل الصغيرة وذرياتها الناتجة عن تزاوج شخصيات معيّنة، وليس العرق بكامله).. هذا الاتجاه يدعمه أن الزنوج، مثلا، لا يوجد أي دليل على أن معدّل ذكائهم يرتفع إذا تم خلط جيناتهم بجينات “بيضاء” (عن طريق التزاوج)، كما أن العكس أيضا ليس صحيحا (أي تدني ذكاء البيض إذا اختلطوا جينيا بالزنوج).. الإحصائيات، مثلا، تشير لأن الطلبة الزنوج الذين يحرزون نتائج عالية في امتحان الـIQ ليسوا بالضرورة أولئك المولودين من “هجين” عرقي، بل تقول الأرقام خلاف ذلك تماما، وأن “الجين الأبيض” ليس له أي أثر محسوس في هذا المعيار.
عليه، وكما ورد على لسان عالم الجينات المعروف ديفيد سوزوكي (David Suzuki)، في مناظرة عامة له عام 1989 (في جامعة غرب أونتاريو، 8 فبراير)، فإن عموم علماء البيولوجيا يتفقون، بناء على ما ورد أعلاه (وما أتى بعد ذلك الزمن من اكتشافات تؤيده)، أن دراسة وتحديد معدلات الذكاء كخاصية عرقية إنما هو عمل غير ممكن موضوعيا (علميا) وغير مبرر عمليا وأخلاقيا، في واقعنا العالمي المعاصر، وبالتالي ليس هناك سبب منطقي لأن يتلقى مثل هذا التوجه دعما ماليا عاما (public funding) للأبحاث فيه، خصوصا وأن العلوم الطبيعية لديها مشاكل أخرى كثيرة، حقيقية، تستحق أن تستمثر فيها المزيد من الوقت والجهد.
طبعا هنالك جهات خاصة ما زالت تصر على تمويل أبحاث كهذه، ونشر نتائجها البحثية، وهذا الاتجاه يحض اتجاها معاكسا لتبيان كل المغالطات الموروثة في هذه النتائج البحثية المزعومة.. وهكذا دواليك.
الفيلم الوثائقي المثير أدناه بعنوان “العرق والذكاء: آخر محظورات العلم”