أدناه أقدم نبذات مختصرة عن ستيف بيكو ووالتر رودني وفرانز فانون.. ثلاثتهم من رموز حركة عموم افريقيا (pan-African movement) ومن رموز مقاومة الاضطهاد العنصري.. المختصرات تتحدث عن حياة كل واحد من هؤلاء إضافة لملخصات عن إنتاجهم الفكري.. يمكن للقارئ أن يتابع التشابهات بين إنتاجهم، ورفدهم جميعا لموضوع مقاومة الاضطهاد العنصري.. فإلى المختصرات:
في البداية أسرد سيرا مختصرة عن حياة كل واحد منهم، تعين القارئ على المقاربة الشخصية، ومن ثم أسرد مختصرات للطروحات الفكرية وميراث العمل العام لكل واحد منهم:
سير مختصرة
فرانز فانون (Frantz Fanon)
(انتقل 1961 وعمره 36 عاما)
من مواليد مارتنيك، إحدى جزر الكاريبي التي استعمرتها فرنسا، من أسرة ذات أصول افريقية زنجية.. تخرج وعمل كطبيب نفساني في فرنسا بعد أن عاش فترة من الانتماء للقوات المسلحة الفرنسية والقتال في صفوفها ابان الحرب العالمية الثانية.. في فترة تواجده في فرنسا صدر له كتاب “جلود سوداء، أقنعة بيضاء” (والذي كان في الأصل رسالته للدكتوراة التي لم تر النور لأسباب خارجية) وفيه يتحدث عن اضطهاد الاستعمار للإنسانية وللثقافات، وفيه تناول دور فرض المستعمِر للغته على الآخرين في ترسيخ ذلك الاضطهاد؛ يقول في الكتاب: “أن تتكلم… يعني عموما أن تفترض ثقافة، أن تدعم ثقل حضارتها”، وذلك في إطار حديثه عن بداية التهميش بتحويل ألسنة الناس بفرض السلطة.. قالها بالفرنسية كدليل على أنه، في إطار محاولته منازعة الاضطهاد الفرنسي، ليس متحررا تماما من أثر ذلك الاضطهاد على هويته الحالية.. كانت هذه إحدى أولى الإشارات الجادة لمواجهة أصول الاضطهاد في القرن العشرين.
انتقل فانون للعمل في الجزائر بعد فترة وجيزة، حيث حصل على وظيفة مناسبة هنالك كطبيب في إحدى المستشفيات.. في تلك الفترة عمل على تطوير أسلوب علاج نفسي يتصل بتحليل الخلفية الثقافية للمريض.. في تلك الفترة بدأت جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، ومن مشاهداته الشخصية لواقع الاضطهاد الاستعماري اتخذ فانون قرار الانضمام لجبهة التحرير، وبقي بها، فاعلا ومنظّرا، إلى أن وافته المنية في رحلة علاج انتهت في الولايات المتحدة وهو حامل لاسم “إبراهيم فانون”.. في تلك الفترة – أي فترة عضويته في صفوف جبهة التحرير الجزائرية – أخرج كتابه المشهور، والذي صار إحدى الكتب العملاقة في أثرها على حركات التحرير حول العالم، “المعذبون في الأرض” (Wretched of the Earth).
فانون معروف عموما بأنه من رواد منظّري حركة مناهضة الاستعمار في جانبه الثقافي، وقد تأثر بآرائه الكثير من قيادات مناهضة الاستعمار، ليس في افريقيا والدياسبورا الافريقية فحسب بل في عموم الارض.. كان فانون اشتراكيا عموما، ولم يرد عنه تصريح الانتماء لمدرسة اشتراكية معيّنة من التي كانت معروفة في تلك الفترة، لكنه كان على علاقة قوية بالشاعر المارتنيكي والناشط الماركسي إيمي سيزار كما بالفيلسوف الوجودي المعروف جان بول سارتر.
ستيف بيكو (Steve Biko)
(انتقل 1977 وعمره 31 عاما)
من مواليد جنوب افريقيا، بدأ بيكو في الظهور كشخصية مهمة في النضال ضد نظام الابارتايد منذ أن كان طالبا جامعيا (كلية الطب)، حيث عمل على تكوين تنظيم مستقل للطلبة غير البيض (منظمة طلبة جنوب افريقيا) حتى يستطيعوا فيه التعبير عن قضاياهم بمعزل عن سيطرة البيض على الاتحاد الوطني لطلبة جنوب افريقيا.. اختير بيكو أول رئيس للمنظمة الجديدة التي تطورت لتصبح “حركة الوعي الأسود” (Black Consciousness Movement).. كان بيكو المنظّر الرئيسي لتلك الحركة ويُعد اليوم الأب الفكري لها في جنوب القارة.
تعرّض بيكو لمضايقات عديدة واعتقالات وفترات حجز منزلي طويلة من قبل نظام الابارتايد، إلى أن انتهى الأمر لموته تحت وطأة التعذيب في سجون النظام، وقد ساعد موته هذا في كشف قسوة النظام وتعريته عالميا من دعاوي التوازن والانضباط، خصوصا وأن بيكو كان عموما يمارس مقاومته ضمن خط اللاعنف كخيار مواجهة أول، وحضرت جنازته أعداد غفيرة من الناس من ضمنهم سفراء بلدان غربية كانت على علائق دبلوماسية طيبة مع نظام الابارتايد حتى ذلك الحين.
كتب بيكو كثيرا في منشورات الطلبة وحركة الوعي الاسود، وبعد وفاته تم تجميع عدد من مقالاته القوية، والتي بها سلافة تنظيره الاجتماعي والسياسي، في كتاب بعنوان “أكتبُ ما أشاء” (I write what I like)، وهو نفس عنوان سلسلة من مقالاته الجريئة في نقد نظام الابارتيد ومؤسساته وشبيهاته.
والتر رودني (Walter Rodney)
(انتقل 1980 وعمره 38 عاما)
من مواليد قويانا، احدى دول امريكا الجنوبية ومن مستعمرات بريطانيا، ما جعلها أقرب سياسيا واجتماعيا لدول الكاريبي التي كانت مستعمرات بريطانية أيضا (كجامايكا وترنداد).. من أسرة عاملة ذات أصول افريقية زنجية، كان رودني نابغا في سلك التعليم الرسمي وحصل على منحة للدراسة في جامعة الوست انديز (University of the West Indies) وبعدها على منحة للدراسات العليا بجامعة لندن حيث حصل على الدكتوراة في الدراسات الشرقية والافريقية وعمره حينذاك 24 عاما، وقد كانت رسالته في التاريخ الافريقي.
درّس رودني في جامايكا وتنزانيا، وكان معروفا كدارس وناشط قريب من الفقراء والعمال، فكان يعمل بصورة دورية في توعية الكادحين بحقوقهم ومسائل السياسة والهوية في بلدانهم ومناطقهم، وذلك عن طريق السعي للوصول لهؤلاء في أماكن تواجدهم والحديث معهم بلغتهم التي يفهمونها والتواصل معهم بندية، الأمر الذي كان وما يزال صعبا جدا حتى على “المثقفين” المهمومين بقضايا هؤلاء.. بسبب نشاط رودني هذا تم حظره يوما من جامايكا بصورة قانونية أبدية، وكان ذلك سببا في حصول احتجاجات شعبية زاخرة قادها الطلبة والكادحون في العاصمة الجامايكية كنقستون.. قضى رودني أيضا فترة غير قصيرة في التدريس بجامعة دار السلام بتنزانيا، في أواخر الستينات وبدايات السبعينات، وفي تلك الفترة سافر حول افريقيا بكثافة وأصدر الكثير من الدراسات ونشط في كثير من مجهودات حركات التحرير في القارة حينها، وفي خضم نشاطه ذاك التقى بالكثير من قيادات حركات التحرير الكبار والصغار؛ احد الذين التقاهم وارتبطا بعلاقة هموم مشتركة كان جون قرنق ديمبيور، الطالب ثم القيادي الشاب حينها بحركة الأنيانيا.. كثير من أهل الحركة الشعبية اليوم، كياسر عرمان، يتحدثون عن هذه العلاقة ويهتمون بالمساهمة الفكرية لوالتر رودني كثيرا.
في تلك الفترة، في تنزانيا، كتب رودني وأصدر أعظم أعماله أثرا على حركة عموم افريقيا، هو كتابه “كيف قوضت أوروبا نمو افريقيا” (How Europe Underdeveloped Africa)، وبهذا الكتاب أصبح عند الناس وثيقة سردية وتحليلية مثبتة لما دار بأخلاد الكثير منهم عموما بصور مشتتة وغير متناسقة لفترة طويلة سابقة، وهو علاقة أوروبا القوية بتخلف افريقيا ودور افريقيا في “تحضر” اوروبا بنفس القدر.. كتابات رودني الأخرى معروفة لقرائه، وأسلوبه التحليلي المستمد من المادية التاريخية الماركسية – مع اهتمام أصيل بموضوع الاضطهاد العرقي والاثني ونظرة مختلفة له عن الخط الماركسي العام – جعله من أقوى منظّري حركة عموم افريقيا (Pan-African Movement) أثرا داخل القارة وخارجها في الدياسبورا الكاريبية والامريكية.
عاد رودني إلى قويانا في منتصف السبعينات بعد قبول منصب بروفيسور في جامعة قويانا، لكن الحكومة منعت حصوله على تلك الوظيفة.. قرر رودني البقاء في البلاد رغم ذلك وعمل على تنظيم حركة سياسية قوية للعمال فيها، فأسس “تحالف الشعب العامل”، فتعرض للمضايقات والتهديدات الفعلية إثر نشاطه هذا، واعتُقل مرة، إلى أن تم اغتياله بتفجير سيارته بقنبلة تحتها.
تنظيرهم وعملهم في مواجهة الاضطهاد العرقي والاثني
فرانز فانون
في البداية أعتقد أن من المفيد أن ننظر لتنظير فانون على ضوء انضمامه لجبهة التحرير الوطنية الجزائرية، لكون هذه الجبهة معروفة بعضويتها “العربية” أكثر من الزنجية بكثير (وقد تحدث فانون عن هذا الواقع في الجزائر)، ما يقف كأكبر دليل على أنه ليس من أهل العنصرية الضيقة أو المضادة.
فانون كان مهموما بقضية التحرر من الاستعمار، وفي هذا كان أكثر اهتماما بقضية التحرر الثقافي من ربقة الاضطهاد المزمن الذي عاشته الشعوب المستعمَرة ورسخ في وعيها الجمعي والفردي، وكانت ثقافة الرجل الأوروبي هي العدو الأول (الموصوف بالرجل الأبيض، وهو وصف ليس من اختراع الزنوج بل من اختراع هؤلاء “البيض” أنفسهم ليميزوا أنفسهم عن الآخرين).. كان فانون يركز على الرفض الواعي لثقافة الرجل الأبيض ومؤسساته وهيكل مجتمعه قدر الامكان، وذلك الرفض الواعي لا يعني العودة لعهود ما قبل الاستعمار، إنما يعني استرداد الشعور بالكرامة والاستقلالية وإمكانية إيجاد حلول جديدة من نبع الثقافات المحلية.. فانون كان يرى أن الاستقلال السياسي الإجرائي إنما هو نقطة البداية للاستقلال الحقيقي من وطأة الاستعمار، وكثر نقده للفئات البيرقراطية والطبقات الوسطى التي ترث ثقافة المستعمر بعد رحيله العسكري وتبقى مولهة بتلك الثقافة، فتحاكيها وتتطاول بها على بقية فئات شعبها بصورة تجعل الاستعمار حيا يرزق في البلاد وإن كان المستعمِر قد ارتحل فعليا.
بالنسبة للاستعمار الفرنسي فالمعروف تاريخيا أنه تبنى أعنف أشكال السيطرة على الناس وتغييب ثقافاتهم، وفي الجزائر بالذات فإن قسوة الاستعمار الفرنسي موثقة وممتازة على معظم افريقيا، وقد عاش فانون ذلك الواقع كابن مستعمرة فرنسية وكطبيب نفساني في الجزائر كان يتعامل مع حالات كثيرة تجسدت فيها تلك القسوة القاهرة، نفسيا وجسديا، وعليه فإن سوء ظنه بالرجل الأوروبي كان كبيرا، وكان يرى المقاومة العنيفة له ليست حلا استراتيجيا فقط، بل فيها تحرر نفسي للمقهور الذي صار يشك حقا في إنسانيته بإزاء القاهر من طول وعرض ما عاش حال القهر ذاك.. عليه كان فانون يوصي بالمواجهة المباشرة لثقافة الرجل الأبيض (أي الرجل الأوروبي عموما)، لكنه كان أيضا مهتما بالإشارة لخطورة تقسيم جبهة المقاومين للاستعمار، فتحدث عن بعض النزاعات الاثنية بين “العرب والزنوج” في واقع شمال افريقيا عموما وقال إن مثل هذه النزاعات سطحية الأسباب ومدمرة للقضايا العليا التي يجب أن يتوحد من أجلها المستضعَفون في العالم عموما، بله في الجزائر وافريقيا تحديدا.
كما ذكرنا من قبل فإن فانون صار مرجعا لكثير من حركات المقاومة حول العالم، وليس في افريقيا أو ضمن الزنوج فقط، وبرغم ما يمكن أن نتفق أو نختلف معه اليوم فيه فإن الواضح أن نظرته كانت متجاوزة للعرقية الغليظة والعنصرية المضادة، بل كانت مهمومة برد المظالم للمقهورين وثقافاتهم أيّا كانوا، وكان يرى أن العالم لن يكون أفضل واكثر عدالة إلا لو انتصر هؤلاء المقهورون وعلموا الأوروبيين – وابنتهم امريكا – معاني جديدة في احترام التنوع وحقوق الإنسان التي يتشدقون بها ولا يمارسونها تجسيديا – كما قال – إلا في علائقهم ببعضهم البعض.
ستيف بيكو
أما بيكو فكان محصورا أكثر في الحالة الجنوب افريقية، ومن ورائها ينظر لحال افريقيا عموما، لكنه رغم ذلك لم يبن فلسفته في المقاومة على أساس عرقي.. نظام الابارتايد كان يقسم الناس بين أبيض وغير أبيض، أما البيض – وهم ذوو الأصول الاوروبية – فلهم صلاحيات المواطنة من الدرجة الاولى، اما غيرهم ممن سموهم “الملونين” و”الافارقة” (الملونون كانت فئة من المهاجرين والمستجلبين الهنود وعموم الاسيويين، والافارقة هم الزنوج السكان الاصليون) فهؤلاء تتفاوت درجاتهم حسب وضع البيض لهم (وكان الافارقة الأدنى درجة)، وقد كانت نظرة بيكو منذ البداية أن الملونين والافارقة يجب عليهم التوحد ضد البيض، لا لطردهم من البلاد أو لقهرهم قهرا مضادا، بل لاستلام السلطة الحكومة والثقافية من حوزتهم لتؤول للأغلبية وليكون هناك نظام عادل حقا بين جميع المجموعات التي شكلت شعب جنوب افريقيا حينها.. بيكو إذن منذ البداية لم يكن حاصرا نفسه على حقوق الزنوج من السكان الاصليين للبلاد، أو على ثقافاتهم فقط، وبهذا فقد كان منذ البداية متجاوزا لضيق التقسيم العرقي الذي كان سمة نظام الابارتايد برواده “البيض”.
نظرية بيكو كانت في أن التحالف بين الناس على أساس العرقيات في أصله مرفوض جوهريا، لكن نظام الابارتايد، وغيره من الانظمة القهرية، حين تبني سلطتها، وتقديمها وتأخيرها لفئات الشعب، على أساس عرقياتهم فهؤلاء المظلومون لا يملكون في المواجهة المنظمة إلا أن يتوحدوا على أساس نفس القيمة التي ظـُلموا باسمها؛ معنى ذلك أن المقاومة المنظمة لنظام الفصل العنصري لا يمكن أن تكون مقاومة فاعلة من أجل حقوق المظلومين بسبب عرقياتهم إلا لو شكلوا عضوية مقاوماتهم بناء على شروط أحدها هذه العرقيات نفسها.. بيكو لم يكن معاديا للبيض الذين كانوا معارضين لنظام الابارتايد مثله، وكان على علاقة طيبة معهم، لكنه كان يرى أن ذلك لا يعني أن يعمل معهم تحت مظلة تنظيمية واحدة، فنضال المقهورين جانبه النفسي أكبر من الجانب السياسي، وفي هذا الجانب النفسي فالتسلح الصحيح يكون باسترداد الثقة الكاملة في النفس والقدرة على قيادة قضاياهم بأنفسهم، وهذا الأمر سيُهزم لو انضم للتنظيم بيض، إذ أنهم سيكونون عنصر تذكير، شاؤوا أم أبوا، للمقهورين بأن نجاح التنظيم مرتبط بوجود قيادات بيضاء مستنيرة فيه، ما يجعل التخلص من عقدة الدونية صعبا حتى داخل مثل هذا التنظيم.. بيكو كان مشغولا باستعادة السود (وهو وصف جامع عنده للافارقة والملونين عنده) لثقتهم بقدرتهم على الاستقلال الفكري وزعامة قضاياتهم وتنظيم أنفسهم فيما بينهم بصورة وافية، فاسترداد هذه الثقة ينبني عليه الكثير من جوانب الثبات والصمامة في ميدان المواجهة، وهي عوامل نفسية ضرورية لكسب قضاياهم.
إذن بيكو كان يرى أن التحالف الشامل لذوي العرقيات المضطهدة من الحاملين لراية استرداد الحقوق تحالف مبرر في مواجهة أنظمة تضطهدهم على أساس عرقياتهم هذه نفسها، وهذا لا يعني أنه يؤيد نظام التمييز العرقي نفسه ولكن استراتيجية المقاومة السياسية والاجتماعية تقتضي ذلك، كما وضع بيكو “صمامات أمان” فكرية ليضمن بها الا تنتكس حركة الوعي الاسود إلى مجرد حركة ذات نزعات عرقية، فكان واضحا في مبادئ الحركة أن تكون جنوب افريقيا في الهدف الاعلى بلدا تتعايش فيه جميع العرقيات، بما فيه البيض، على أساس قانون عادل وتمثيل متكافئ في مواقع السلطة، ولهذا كان يرى أن طموح الافارقة لأن يكونوا الاكبر تمثيلا في سلطة البلاد حق طبيعي من حقوقهم لكونهم الأغلبية في هذه الأرض التي هم سكانها الاصليون، ولا يعني ذلك غمط الحقوق القانونية لأي اعراق أخرى.
والتر رودني
نظرة رودني فيها الكثير المشترك مع فانون وبيكو، فهو كان يرى، مثل فانون، أن افريقيا عموما بحاجة لاستعادة الثقة بثقافاتها ومؤسساتها وعقولها المحلية التي قهرها الاستعمار (كما وقهرها عهد العبودة، كما يضيف رودني، بالنسبة لذوي الاصول الافريقية، العبيد سابقا، في جزر الكاريبي وفي الامريكيتين)، كما كان يرى، مثل بيكو، أن وصف “الأسود” ليس للافريقي الزنجي فقط، بل هو لكل مضطهد من قبل نفس الثقافة الاوروبية البيضاء التي أرادت فرض تفوق الاعراق المسماة “بيضاء” على بقية شعوب العالم، فعند رودني كان أيضا المهاجرون الهنود والصينيون، كما السكان الاصليون للكاريبي والامريكيتين، جميعهم “سود” بهذا التعريف (بل ووصف الفيتناميين أيضا بأنهم سود بتعريفه هذا، وكانوا حينها في حربهم الشهيرة في مقاومة الولايات المتحدة الامريكية)، وكان حريصا على أن يكون هذا التعريف مفهوما كذلك بوضوح، وفي سبيل هذا التوضيح اضطر لمواجهة علنية لبعض قيادات حركة “القوة السوداء” من امريكا الشمالية، وهم زنوج، ممن كان يرى فيهم رفاق قضية ولكن فهمهم ضيق لماهية “السواد” في تعريفه النضالي.
كان رودني أيضا يرى أن مسألة التصنيف العرقي لا يمكن تجاوزها اليوم برغم عدم موضوعيتها وعدم علميتها في الإطار الاجتماعي والقانوني، وذلك ببساطة، كما ذكر بيكو، لأن العدو القاهر (الرجل الابيض) هو الذي فرض هذا التصنيف على أرض الواقع، وليس لدى المقهورين خيار غير تشكيل مقاومتهم باعتبار هذا التصنيف.. ما يجدر بالذكر هنا أن رودني وبيكو كانا معاصرين لبعضهما بصورة كبيرة، فأفكارهما لم تكن في عمومها منتجة من واحد ومتبناة من الآخر، بل يصح أن نقول إنهما كانا ينظّران في نفس الوقت لنفس القضية، ووصلا فيها لاستنتاجات متشابهة جدا بدون سابق إصرار (مع عدم نفي الاطلاع المتبادل، او المتابعة المتبادلة، تماما، فهو احتمال وارد).
رودني كان يرى أن أصل مشكلة الاضطهاد الاثني مشكلة تاريخية، مرتبطة بالحروب والصراعات الاقتصادية والطبقية، وكل هذه حين تتكثف تتجسد في صور صراعات إثنية عامة، وعرقية غليظة.. من هذه النظرة كان رودني يتبنى التحليل الماركسي الذي يرى أن الصراع الطبقي هو أصل المسألة عموما، داخل بنيات المجتمعات نفسها كما في صراعها مع بعضها البعض، لكنه يتجسد في صور عدة ويتمدد مع الزمان ليتخذ هيئات تكاد تكون غير طبقية في أساسها (وهنا يختلف رودني عن التفكير الماركسي النمطي)، أي أن التعامل معها اليوم من أجل معالجتها لا يصح أن يكون بالأدوات الاقتصادية المعتادة أو حتى القانونية فقط، بل هناك جانب ثقافي ونفسي أصبح هو المحور ولا بد من معالجته هو تخصيصا لكي تكون المعالجة الاقتصادية والقانونية مستدامة.
خلاصة
كان هذا مختصرا لمواقف هؤلاء الثلاثة، الفكرية والعملية، بخصوص مواجهة الاضطهاد العرقي والاثني، ويمكن للقارئ أن يرى فيها خطا واضحا في مجافاة العنصرية المضادة والعرقية المنغلقة.. من غير الضروري جدا عندي الاتفاق معهم فيما اتوه ومارسوه، لكن من المهم أن نرى حجم نظرتهم المتقدمة في زمانها لقضايا حقوق الانسان والتعايش العرقي والاثني، فهم رغم تعرضهم وتعرض شعوبهم للاضطهاد باسم العرق لم يشتروا تلك الاكذوبة، وواجهوها في جوهرها ورفضوا أن يعادوا البيض معاداة عرقية كما فعل ذلك الكثير من البيض أنفسهم وهم يدعون أنهم رسل المعرفة والإنسانية لبقية العالم.
قصي همرور