ما هي الهوية الإثنية؟

لعل مصطلح “الهوية” من أوسع المصطلحات سديما، بل ويصح أن يقال ان لكل فرد في الأرض “هويات” متنوعة، تظهر وتتوارى حسب الموقف الذي يستدعيها، وهذه نقطة من نقاط الحوار المأمول.. بيد أن “الهوية” حين نسمعها اليوم، في سياقنا التاريخي المعاصر، وكسودانيين، فعادة ما نلتفت لقضية الهوية الإثنية التي يستدعيها وجودنا كسودانيين اليوم وما لانعكاسات هذه الهوية على واقعنا المعاصر في السودان وخارجه.

أعتقد أن تركيزنا على الهوية الإثنية له ما يبرره اليوم.. الإثنية لها تعريفات، وهي تختلف عن “العرقية”، إذ أنها معنيّة بعوامل ثقافية ولسانية في تمييز شعوب وقبائل العالم على أسس أعمق وأرسخ وأكثر دينامية من “العرقية”.

يحصل الخلط كثيرا بين العرق (race) والإثنية (ethnicity)، فالبعض يعاملهما كشيء واحد، وذلك ما يجعل أحيانا الحديث عن الإثنية أو الاعتزاز بها سبب اتهام بالعنصرية أو العنصرية المضادة، فالعنصرية عادة ما تقوم على العرق، ومفهوم العرق في مخيلة العنصريين مفهوم غير علمي، يقوم في الغالب على لون الجلد وبعض ملامح الوجه المتعارف على صلتها بأعراف معيّنة.. العرقية وصف بيولوجي، واستعلاء الناس على أساس الصفات البيولوجية مبني على عاطفة ودعاوي لا دليل لها بأرض الواقع، فمن الناحية العلمية لا يتميز جسد الكائن البشري، في وظائفه الفزيولوجية واستعداداته العقلية (أو حتى المؤشرات الروحانية)، على غيره ممن لا ينتمون لنفس العرق، فالتمييز بين البشر بناء على العرق لا داعم أصيل له في العلوم الطبيعية، وهي العلوم التي تملك أن تفصل في هذا الموضوع، لكون العرق خاصية مادية طبيعية.. بل إن من الخصائص الفزيولوجية ما هو أهم من العرق، فالبشر الذي يتوافقون مثلا في فصيلة الدم يكونون أقرب فزيولوجيا لبعضهم البعض وإن كانوا من أعراق مختلفة.

أما الإثنية فأمرها أوسع، إذ أنها تصنيف أنثروبولوجي يعتمد الدالات اللسانية والثقافية والبيئية أكثر من الملامح الجسدية، وحتى حين ينظر للعرق في الملامح الجسدية فهو يصنفه بدراسة بيئية، أي بربطه بالبيئة التي اقتضت تأقلم الناس بوظائف جسدية معيّنة (مثل نسب دكونة لون البشرة للبيئات الأقرب من خط الاستواء حيث الشمس أكثر حرقة وعمودية، ومثل نسب شكل الأنف تبعا لخواص البيئة وضرورات التأقلم أيضا، وكذا نسبة طول الرجلين واليدين لوسط الجسد.. الخ)، فهي تحليلات علمية، متنوعة ومتباينة، تهدف إلى فهم علاقة الجسد بالبيئة، لا علاقة المؤهلات العقلية بها وترتيب الناس وفقها مثلا.. لكن على العموم، ورغم كل هذا، فالدالات اللسانية والدالات الثقافية هي الأساس في التصنيف الإثني، وهو تصنيف يرمي لدراسة التنوع البشري وعلاقته الإيكولوجية بالتنوع البيئي والاحتفاء به في العموم ((وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..))، لا لتفضيل الناس وفقه.

يتنوع تعريف الإثنية في مصادر مختلفة، لكنه عموما يشترك في الخواص التي ذكرناها أعلاه، وأدناه سأورد بعض التعريفات التي تتحدث عن مكوّنات الإثنية (ترجمة الكاتب)، وبعدها سأضع التعريف الذي أعتمده أنا للإثنية، ليكون بعدها دليلا للقارئ في معرفة ما أرمي إليه بالتحديد الكافي حين أذكر المصطلح.

يذكر القاموس الجديد للتراث الثقافي الامريكي أن الإثنية هي: “التماهي أو العضوية في مجموعة معينة، عرقية أو وطنية أو ثقافية، عن طريق معيشة تقاليد تلك المجموعة ومعتقداتها ولغتها.”[1]
وفي موسوعة بريتانكا، هي: “مجموعة اجتماعية، أو فئة من السكان في المجتمع الكبير، تتميز عن الآخرين وتترابط بروابط مشتركة من العرق أو اللغة أو الوطنية أو الثقافة.”[2]
أما الموسوعة العالمية للعلوم الاجتماعية والسلوكية [3] ففيها أكثر من مقال عن الإثنية، تارة عن الناحية التاريخية لظهور المصطلح وملابساته، وتارة عن أهداف استخدامه في مجال الانثرولوجيا، وتارة عن الإثنية واللغة، وتارة عن الإثنية في علم الاجتماع (السوسيولوجيا)، الخ.. لغرضنا هنا فقط نورد مكوّنات الإثنية كما هي متعارف عليها في علم الاجتماع:ما يميز المجموعة الإثنية كهوية جماعية هو وجهة نظر أفرادها من حيث: أ) كيفية شعورهم تجاه بقية أعضاء المجموعة، ب) القيم أو الرموز أو التقاليد المميزة أو الأصيلة التي يرون أن مجموعتهم الإثنية تحظى بها، ج) كيف، وفقا لذلك يميز أفرادها أنفسهم من الآخرين.

والتعريف الذي أقدمه واعتمده هنا للإثنية مستمد من هذه التعريفات والمكوّنات، لكنه يركز أكثر على اللسان والثقافة لسببين، أولهما ان هذين العنصرين يمكن طي معظم بقية عناصر الإثنية تحتهما، وثانيهما أن الصراعات الإثنية والاستعلاءات الإثنية في تاريخ وفي حاضر العالم قامت في الأساس على هذين العنصرين، كما أزعم، أما العرق فكان في الغالب “شماعة” لهذين العنصرين بسبب بداهته في المظهر الخارجي للبشر، فيصبح من السهل تصنيف الناس وفقه، لكن الصراعات الإثنية المعروفة في التاريخ والحاضر كانت دوما أعمق من العرق، وكثيرا ما رأينا بالأمس ونرى اليوم مجموعات متشابهة عرقيا، لكن مختلفة لسانيا وثقافيا، تصطرع ببعضها البعض وتتعالى على بعضها البعض لآماد غليظة جدا.

إذن مكوّنا الإثنية الرئيسيين عندي هما (1) اللسان و(2) الثقافة:
(1) اللسان
والدالة اللسانية عندي أوسع من مجرد اللغة، فهي تشمل تاريخ اللغة وتفرعاتها وتطوراتها (المجموعات اللغوية)، كما تشمل تنزلات اللغة على الثقافات والبيئات المختلفة (اللهجات وحالات وجود أكثر من لغة عند مجموعات متقاربة ومتزاوجة ومتفاهمة، الخ).. أهمية الدالة اللسانية عندي تكمن في أهمية اللغة كعنصر تفكير، فاللغة ليست وسيط التفكير فحسب، بل هي أيضا تساهم بشكل كبير في بناء طريقة تفكير المرء والمجموعة وطريقة تناولها للقضايا من حولها، فهي تؤثر وتتأثر بحياة الناس اليومية وتاريخهم وقيمهم؛ هذا إضافة لأن اللغة غنية في حمولات الإشارة لبيئات الناس ومواردها ومصاعبها، كما يعبّرون عنها.
(2) الثقافة
والثقافة نفسها أضع تحتها ثلاثة عناصر:العنصر الأول: التاريخ، ذلك ان الذاكرة المشتركة بين المجموعات تؤثر تأثيرا قويا في نظرتها لواقعها وواقع علائقها بالآخرين، كما لها نصيب الأسد في تكوين شعور الانتماء.العنصر الثاني: القِيم، وهي باختصار أولويات المجموعة، أي الاخلاق والمفاهيم التي تحظى عندهم بالاهتمام أكثر من غيرها.العنصر الثالث: المؤسسات، وهي باختصار أيضا التقاليد السلوكية وأنظمة العلائق الضاربة الجذور في حياة المجموعة، مثل طقوس الزواج وعلائق السلطة (في الأسرة وفي الجماعة) وأنماط النشاط الاقتصادي واِشكال الفنون، الخ.

أين الدين؟
غني عن القول ان الدين يؤثر في هذه المكوّنات جميعا، لأنه منظومة فكرية تؤثر في أنماط تفكير الناس فتؤثر تلوا في لسانياتهم وفي تاريخهم وقيمهم ومؤسساتهم، مثل تشكيل الإسلام وحفظه للغة العربية وتأثيره على الذاكرة الجمعية للمسلمين حول العالم في قراءة تواريخهم المتباينة، وتأثيره المستمر على أولوياتهم وأشكال مؤسساتهم بتنوعها.. هذا القول قائم دوما بمعزل عن رأينا في فهم الناس للدين اليوم أو بالأمس، أو رأينا بنسبة اهتمامهم به اليوم أو بالأمس، فهذه تنويعات مقدارية شتى على نفس الموضوع الجوهري، وهو تأثير الدين على عوامل الإثنية كما أوردناها أعلاه.

قصي همرور
(نُشر في نوفمبر 2009 في صالون الجمهوريين)
————————

[1] ethnicity. (n.d.). The American Heritage® New Dictionary of Cultural Literacy, Third Edition. Retrieved November 02, 2009, from Dictionary.com website: http://dictionary.reference.com/browse/ethnicity
[2] “ethnic group” (2009). In Encyclopædia Britannica. Retrieved November 02, 2009, from Encyclopædia Britannica Online: http://www.britannica.com/EBchecked/topic/194248/ethnic-group 
[3] “Sociology of Ethnicity” (2004). International Encyclopaedia of the Social and Behavioural Sciences. Amsterdam: Elsevier

أضف تعليق