التكنولوجيا والتعليم: بعض البديهة

من كتاب (السلطة الخامسة: من أين تأتي التكنولوجيا)

في المجتمعات النامية، الما بعد استعمارية، إذا قلنا إن التعليم النظامي يجب أن يكون موجّها وجهة التنمية، فتكون فلسفته في تأهيل موارد بشرية مقتدرة على رفد عجلة التنمية في البلاد، وبفهم جيد لسياق مجتمعاتهم وبيئتها، فلن يعترض أحد على هذا الكلام نظريا. وإذا قلنا إن نظام التعليم ومناهج التعليم الموروثة من العهد الاستعماري إنما صُمّمت لخدمة مصالح المستعمر وأهدافه الاستراتيجية للمستعمَرات، وبالتالي فإنه نظام يحتاج لإعادة نظر شاملة حتى تكون عندنا فلسفة تعليم وخطة تعليم متسقة مع أهدافنا التنموية كشعوب مستقلة، سيكون من غير المحتمل أيضا أن يعلن أحد مخالفتك الرأي.
 
لكن إذا بدأت تقديم طروحات تطبيقية جادة لتغيير فلسفة ونظام ومنهج التعليم النظامي في بلادك النامية، فالاحتمال الأكثر ورودا هو أنك لن تجد أذنا صاغية أو اعتبارا جادا؛ وإذا علا صوتك أكثر فإنك في الغالب على وشك رؤية بداية المعارضة لطرحك.
 
لا بد من الوضوح: مما لا يختلف عليه اثنان أن التعليم الاستعماري كان مصمما لخدمة الحياة الاستعمارية، وهي حياة صارت معتادة على التقانات الحديثة في كل ضروبها، أما المجتمعات المستعمَرة سابقا فما زال معظمها بعيدا جدا عن هذا المستوى، وأولوياتها تختلف. عادة ما تكون الأولويات التنموية للبلدان النامية هي الغذاء والمأوى والصحة والأمن العام والإدارة المستقلة للموارد الطبيعية في البلاد وتقاسم خيراتها، لدى الحد الأدنى على أقل تقدير، ولهذا ينبغي أن يكون تصميم وتطبيق نظام تعليم بديل أمرا بديهيا. لكن معظم المجتمعات ما بعد الاستعمارية أخفقت في إحداث هذه النقلة.
 
دور التكنولوجيا في التعليم من أجل التنمية يأتي كعملية تبادل، فتوطين التكنولوجيا يخدم التعليم المحلي والتعليم المحلي يخدم توطين التكنولوجيا. فلسفة التعليم وسياسة توطين التكنولوجيا تنطويان معا تحت مظلة فلسفة التنمية، والجماعة التي لا فلسفة تنموية لها كمن لا وجهة له. كما تقول العبارة: إذا كنّا لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون، فإن أي طريق سيقودنا إلى ذلك المكان!
 
لنا مثال كبير على هذا في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فهي أصرت على أن تبدأ من الصفر بالاعتماد الذاتي، وجعلت لها فلسفة تنموية واضحة الملامح، نواتها الأمن الغذائي الذاتي وإصلاح الأراضي، وهدفها الاستراتيجي تنمية العقل الياباني ليتعلم التقانات المتقدمة تعلما تدريجيا ذاتيا، يأخذ من الغرب بجرعات مدروسة ويعطي نفسه فرصة التجربة والاكتشاف المستقلة، حتى صارت اليابان اليوم سيدة التقانة الحديثة في العالم وأكثر بلدانه فائضا اقتصاديا.
 
وباختصار: إذا استوعبنا العلاقة المشتبكة للتكنولوجيا مع كل تفاعلات الحياة العامة: الدولة، والمؤسسات الاجتماعية، والثقافة، والبيئة، واللغة، وأولويات التنمية؛ ماذا يمكننا أن نتوقع فيما يخص العلاقة بين التعليم والتكنولوجيا؟ ضرورة التنسيق بين سياسة توطين التكنولوجيا وفلسفة التعليم بديهة مفروغ منها، لكن تدارس كيفية تخطيط وتنفيذ ذلك التنسيق هو تحدي آخر لا مناص من مواجهته.

أضف تعليق