في سبيل الاحتفاء النقدي: قراءة لمساهمة الشيخ محمد الشيخ

(نشر بمجلة الحداثة السودانية، العدد التاسع، مارس 2018، الصفحات 124-127، مع بعض التعديلات التحريرية)

هذه مساهمة تُعنى بالاحتفاء النقدي بالتركة الفكرية للأستاذ الشيخ محمد الشيخ، الذي أدركته المنيّة مؤخرا وترك لنا، ضمن ما ترك، مشروعا فكريا أصيلا ونادرا. بحكم المساحة والنافذة الزمنية، لا سبيل لهذه المساهمة سوى اختيار محاور محدودة لحديث معمّم، نرجو أن تكون مناسبة في حدودها، ولا نضمن ذلك.

وكما هو معلوم فالاحتفاء النقدي يتضمن التثمين والإعجاب كما يتضمّن النقد؛ بل ولعل النقد نابع من التثمين. ذلك ما نرجوه لهذه المساهمة، والتي ستتلخص في ثلاثة محاور: محور فلسفة العلوم، ومحور التمييز بين الطبيعيات والإنسانيات في مشروع الشيخ، ومحور قصة الشيخ نفسه كنموذج لبنية العقل الخلّاق.

ولتناول تلك المحاور، باختصار وتعميم، نبدأ باختصار طرح الأستاذ الشيخ، والذي ينبني على إعادة صياغة النموذج الإرشادي (الباراديم) الذي نستعمله في العلوم الحديثة اليوم فيما يتعلّق بطبيعة المادة وطبيعة الأنظمة الحية. ينبني طرح الشيخ العام على الفرضيّات الجديدة، المقترحة منه كمسلّمات حديثة للعلوم ولظاهرة الحياة. أدناه سنلخّصها في ثلاث نقاط، كما لخّصها الشيخ نفسه أحيانا، ثم نرجو أن يكون تلخيصنا ذلك وافيا في الحد الأدنى فقط، لا أكثر، إذ أننا نتناول مشروعا كبيرا وواسعا، ولا يخلو من تعقيد، وننصح بالاطّلاع عليه في مصادره.  نقاط التلخيص كما يلي:

أ- توسيع مفهوم المادة من خلال اكتشاف خاصية جديدة للمادة: وفق التحديات العلمية والفلسفية الكبيرة التي تواجه العلوم الآن، نحتاج لمراجعة بعض المسلّمات الأساسية في حقول العلوم اليوم؛ كتلك التي تتعلق بطبيعة المادة. يقول الشيخ، “المادة كما تتعامل معها الفيزياء المعاصرة تقوم على خاصية أساسية واحدة هي موجات المادة، أو موجات دبرقلي، عند الكثافة الهائلة للكتلة. وغابت عن العقل البشري خاصية أخرى للمادة، تيسر للكاتب اكتشافها، هي ذبذبات المعلومات البيولوجية، التي تتحقق عند الكثافة الهائلة للمعلومات. في ضوء هذا الكشف العلمي يتم الانتقال من مفهوم المادية الواحدية التي تعتمد خاصية موجات المادة وحدها إلى مفهوم المادية التتميمية ، ويقصد بذلك أنها تحتاز خاصيتين تتميميتين، يترتب على التتميمية إما أن توصف المنظومة المادية بموجات المادة  أو ذبذبات المعلومات البيولوجية، ولكن ليس الاثنان معاً. في هذا الإطار لا يمكن استكناه أو اختزال ظاهرة الحياة إلى فيزياء الجماد – الميكانيكا الكمومية – والعكس صحيح لا يمكن استكناه الذرات والجسيمات الأولية انطلاقاً من ذبذبات المعلومات البيولوجية.”[1]

ب – توسيع وتطوير نظرية دارون: بينما تتركز النظرية الدارونية (والنيو-دارونية) على التطور بواسطة الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي (أي أن حدوث الطفرات في الصفات والجينوم أمر عشوائي يحدث بشكل طبيعي بينما تقوم آلية الانتخاب الطبيعي بترجيح كفة بقاء الطفرات التي تعين الكائن الحي على التواؤم مع بيئته بصورة أكبر من غيره)، يضيف الشيخ أن هذه الآلية معنية بالأفراد داخل جماعة النوع الحي، لكن هنالك آلية انتخاب للجماعات بين بعضها تنبني على “الفاعلية” وذلك معيار الإيثار(altruism) مع الابتكار والتعاون (أو الإبداع) داخل الجماعة. اختصار هذا الطرح يكمن في ملاحظة أن الأفراد الأنانيين داخل المجموعة لديهم فرص أكبر للبقاء من الآخرين داخل مجموعتهم، بينما المجموعات التي تتحلى بدرجات إيثار وتآزر أكبر داخلها لديها فرص أكبر للبقاء من المجموعات الأخرى التي تفتقد تلك الدرجات. بهذا فإن المجموعات التي تعلو فيها نسب الإيثار تعطي أفرادها فرص بقاء وازدهار أكبر من أفراد المجموعات الأخرى. إذن التطور، حسب منظور الشيخ، عملية تصاعدية هادفة، مودع فيها “ذكاء” نحو البقاء والانتشار “الأذكى” وليس مجرد البقاء. والحياة عموما، وفق هذا الفهم، ظاهرة “ذكية” لديها القدرة على التنظيم الذاتي وفق مسعاها هذا.

ج – توسيع مفهوم العقل، باكتشاف تعدد بنياته: بناء على المقدمتين أعلاه، يصبح ممكنا ربط تطور الحياة بتنامي التعقيد المعلوماتي داخل الحاضنة الوراثية للجماعة بحيث يصبح التطور وسط الأفراد والمجتمعات البشرية مستمرا عبر بنى العقل وإن لم يكن مستمرا بنفس الوتيرة عبر التكوين المادي (الجسماني) للنوع البشري. هنا يطرح الشيخ فرضية وجود ثلاث بنى للعقل: تناسلية وبرجوازية وخلّاقة (ومستواها من التطور حسب ترتيب ذكرها). فبينما بنية العقل التناسلي أقرب للمستوى الداروني للتطور (وشأنها زيادة فرص البقاء فقط)، نجد بنية العقل الخلاق مصاقبة للمستوى الثاني من التطوّر (وشأنها زيادة الفاعلية في الأفراد والجماعة)، وبنية العقل البرجوازي تقبع بين البنيتين (وشأنها مراكمة الثروة الخاصة كضمان لحياة أفضل وأطول). وبوصف الجماعة نظاماً معقداً لكن تتشكّل وحداته الأساسية من كائنات حَيّة في مسيرة تطوّر وفق مبدأ تنظيم الحياة المذكور أعلاه، يصل الشيخ إلى توفيقة بين مجال التطور البيولوجي المادي والتطور البيولوجي المعلوماتي عبر مفهوم “الحيوية” وهي عملية تطور الحياة بزيادة التعقيد “البيومعلوماتي” لها، كما هي ما يميّز المادة الحية من المادة غير الحية (لكنها تخضع لخاصية المادة التتميمية نفسها، كما ذكرنا أعلاه، الامر الذي يجعل الحياة مرحلة من مراحل تبلور المادة عموما وليست بقوانين خارجة عنها). كل هذا يهيّء الشيخ للدخول إلى مجال السايكولوجي من منظور بيولوجي. هنا تظهر مسألة “الفاعلية” والتي هي ربما أكثر ما اشتهر من إنتاج الشيخ الفكري في الأوساط التي تعرفه. الفاعلية عنده إشارة لنماء الحياة وفق مبدأ تنظيمها الذاتي، ففي حين لا نرى تطوراً بيولوجياً مادياً كبيرا مستمرا في البشر حاليا، هنالك تطوّر مستمر في مستوى “الحيوية”. ذلك التطور يورث بِنَى العقل المُختلفة، والتطوّر في سياق تلك البِنى يظهر في الفرد وفي الجماعة معاً. وفق ذلك فالمجتمع التناسلي مثلاً هو المجتمع الذي تسود فيه بنية العقل التناسلي (في أفراده وفي منظومته القيمية)، وكذلك المجتمع البرجوازي هو المجتمع الذي تسود فيه بنية العقل البرجوازي، والمجتمع الخلاق هو ذلك الذي تسود فيه بنية العقل الخلاق؛ وهذا الأخير أقرب لغاية مبدأ تنظيم الحياة إذ يتيح لذلك المبدأ أن يستمر في خطّ تطوره التصاعدي الكامن فيه (وهو مجتمع لمّا يتحقق بعد في الأرض عموما، وإن ظهرت بعض ملامحه عبر التاريخ والحاضر). لكن عموما، من الناحية الموضوعية، فكل بنية من بنى العقل هذه متواجدة بصورة ما في عموم الأفراد والمجتمعات، عبر التاريخ والحاضر، وتتعاون أو تعترك ديناميكيا وفق الظروف المحيطة وتحدياتها ومحفّزاتها. باختصار: هدف الحياة، وفق تنظيمها الذاتي، هو زيادة الفَاعلية، على المُستوى الخاص (الكائن الحي) والمُستوى العام (النوع الحي)، وعند الشيخ تعني الفاعلية “الإبداع والإيثار”.

يستعمل الشيخ سرديّته الكبرى أعلاه (النقاط الثلاثة) في عملية نقد ورفد فلسفة العلوم المعاصرة وفلسفة الاجتماع ونقد الفنون، وبعض التحليل التاريخي والسياسي. وفي خلاصته هذه يطمح الشيخ، ويزعم، أن لطرحه هذا من البصيرة والبرهان والسعة ما يكفل أن يلمّ شمل أغراض الفكر الإنساني الإيجابية عموماً، المُثمرة في الفلسفة والعلوم كما هي مُثمرة في المقاصد السامية للأديان، وحتى الفنون. وفق هذه السردية الكبرى كتب ونشر الشيخ في معالجة التحديات العلمية المعاصرة[3] وفي رفد علم البيولوجيا المعاصر[4] كما في المبادرة حول تعريف ومواجهة تحديات النهضة لشعوب العالم الثالث[1]، وكذلك في النقد الأدبي[2]. 

بعد الاستعراض أعلاه نتناول، أدناه، بصورة مختصرة محاور نقدنا لمشروع الشيخ:

المحور الأول: محاولة إحداث الشيخ لنقلة في الفلسفة والعلوم معا عن طريق إعادة كتابة فرضيات العلوم (أو إضافة فرضيات جديدة نوعيا لها) تمخّضت فأنجبت رؤية فلسفية محترمة، مغلفة بمصطلحات علمية وبعض الاستبصارات والمشاهدات العلمية الجديرة، لكنها عموما ما زالت رؤية فلسفية، وإن فضّل صاحبها أن يسمّيها “نظرية علمية” (بمعنى العلوم الطبيعية). ولعل ما للشيخ من عذر في ذلك أن نظريّته عموما استوفت الشروط الأولية كمدخل للنظرية العلمية، لكن لم تتعرض بعد للتمحيص العلمي (المعملي أو المنطقي المتوسع). ذلك قد يعود لأن الشيخ نفسه لم يكن يملك من الموارد والدعم ما يجعله يبدأ ذلك التمحيص بنفسه، أو لأن طرحه لم يجذب الانتباه الكافي حتى الآن كيما يأخذه آخرون في مجالهم ويمتحنوه في مستويات أكبر من الشروط الأولية. لكن يبقى الواقع أن طرح الشيخ قد يكون “مدخلا لنظرية” جديدة، لكنه ليس نظرية جديدة، قائمة ومتماسكة، بعد.

قدم الأستاذ الشيخ اقتراحات مبنية على فرضيات، وعلّل لأحقيتها في الاعتبار والامتحان العلمي التجريبي عن طريق طرح علائق كمية رياضية (quantification) تفضي لأن المنطق الرياضي قابل لاستيعاب فرضيات النظرية الجديدة (وهي خطوة مرافعة محترمة في حقل العلوم الطبيعية، لكنها لا تعني تلقائيا إثبات صحة الفرضيات). بنى الأستاذ الشيخ أيضا فرضياته أو مسلّماته الجديدة (postulates) على إرث من النظريات والتجارب العلمية السابقة في نفس مجال الموضوع، وهي العادة الأكاديمية العريقة. بعد ذلك التمهيد يمكن للباحث أن يقدّم فرضياته الجديدة كما يتصورها، ويشرح ما ينتج عنها من تصوّر غير مسبوق للموضوع (hypothesis) والذي على أساسه تأخذ النظرية الجديدة شرعيتها كمحاولة تفسير لظواهر اختصاص العلوم الطبيعية. في هذه العملية لا تثريب على الباحث في أن يقول إنه يطرح فرضيته بدافع “حدسي” (intuitive) أو إنه ينطلق من قاعدة فلسفية يؤمن بها، جديدة كانت أم قديمة، وهو ما فعله الأستاذ الشيخ، إذ يقول أثناء شرح نظريته الجديدة، في مقالته العلمية المحكّمة، “الفرضية الأولى مدفوعة بالحدس الذي يملي أن هناك بصيرة أعمق في مشاكل الحياة، وأن المعلومات الحياتية والتطور يمليان ضرورة توسيع القاعدة الأنطولوجية للنظرية الفيزيائية المعاصرة”[3]، كما يقول في الخلاصة، في سياق تبرير ضرورة البحث عن نظرية لشرح سؤال العلاقة بين البيولوجيا وفيزياء المادة غير الحية، “هنا تأتي الفلسفة؛ فالخيار الموني يعني التبسيطية، وهو ليس خيارا جيدا… إلخ”. ما نريد قوله إن مثل هذه التبريرات لا تجعل من المقالة غير علمية، بالضرورة، فالمساهمات العلمية، بخلاف الفهم الشائع لها، ليست حقائق صلدة أو مبنية على منطق جاف حصريا وبالضرورة، خصوصا في العلوم متداخلة المجالات كالإيكولوجيا (علم دراسة علائق البيئة، عضوية ولا عضوية) وهو المجال الذي اختار الشيخ تقديم نظريته الجديدة من خلاله. لكن، وفق كل هذا فإن كل ما حققته أطروحة الشيخ، إلى الآن، هي الإجازة الأولية فقط كمدخل لنظرية علمية محتملة. هذه الإجازة لا تعني القبول الرسمي للأطروحة في الدوائر العلمية المعنية (ولا حتى وسط مجموعة بسيطة في تلك الدوائر) إنما تعني أن المقاربة الجديدة حازت على اهتمام بعض المختصين أو الأنداد البحثيين، واجتازت تقييمهم الأوّلي لسلاسة الشرح واحتمالية الطرح، بما يكفي لنشرها بصورة معتمدة في الدوائر المعنية، وكدعوة للنقد والتفاكر، وكإشارة لصاحبها أن ينظر كيف يمكن أن يثبتها أو يثبّتها بصورة أقوى.

ما نريد الخلوص له من هذا المحور: أولا، أن قبول طرح نظرية علمية جديدة في الأوساط الأكاديمية لا يعني أن هذه النظرية أثبتت صحتها فعلا، بل يعني أنها تمتلك من أدوات الشرح ما يؤهلها لطرح نفسها للاختبار العلمي (المعملي؟ وبالمعمل هنا أعني ما هو أوسع من المعنى الشائع الأكاديمي الضيق). هذه مرحلة محترمة في سير النظرية نحو إثبات أهليتها وتفوقها على بقية النظريات في موضوعها، لكنها ليست المرحلة الاعترافية العامة بالصحة النسبية للنظرية. ثانيا، وهو الأهم عندنا، أن يدي “الفلسفة” و”الحدس” واضحتان في هذه النظرية، وذلك ليس مما يعيبها، كما قد يظن البعض، لكنه بالتأكيد مما يثير التأمل في مآلات العلم التجريبي المعاصر، كما أنه، في دراسة حالة “علم الفاعلية” يثير الأسئلة حول مدى انفراج النظرية بين مجالي الفلسفة والعلم، وأي الأجزاء منها تُنسب لمجال دون الآخر، وإلى أي مدى هي متسقة ومنسابة بين المجالين (ولست متأكدا من مكان الحدس بينهما بعد). بالنسبة لي، أرى مشروع الشيخ لم يبرح بعد أرض فلسفة العلوم إلى أرض “العلوم”. لا علم لي بما يخبّئه المستقبل لهذا المشروع – عن طريق عقول أخرى مهتمة ومختصة قد يثير انتباهها – لكن هذا ما يبدو عليه الوضع الآن.

المحور الثاني: للشيخ طرحان لا طرح واحد: “النظرية الفيزيائية المعممة” و”منهج الفاعلية” (التحليل الفاعلي)، كما سمّاهما. الأول في فلسفة العلوم، كما ذكرنا أعلاه، والثاني في فلسفة الإنسانيات، لكن الصلة بينهما ليست حتمية (بيد أنهما طرحان متسقان وفق شرح صاحبهما). هذا الفرز لمصلحة الطرحين معا، فإذا لم تصمد النظرية الفيزيائية المعممة للاختبار المعملي (كما يأمل الشيخ) فإن ذلك لن يكون خصما حتميا على منهج الفاعلية، وكذلك إذا ظهرت ثغور تحليلية كبيرة في منهج الفاعلية فإن ذلك لن يكون خصما حتميا على النظرية الفيزيائية المعممة. لن يكون أي الاحتمالين غريبا أو فريدا في سيرورة البشرية المعرفية (فالدارونية الاجتماعية مثلا فشلت كمنهجية دراسات اجتماعية في أن تنال شيئا يذكر من التألق والاحترام الذي نالته الدارونية البيولوجية)، لكنه يعطي الإرث الفكري للشيخ مرونة وسعة أكبر، أعتقد أن الشيخ نفسه يقبلها بصدر العالِم.

هذا المحور الثاني بالذات كان نقطة نقاش بيني والأستاذ الشيخ، عام 2010، في منبر “سودان للجميع” الإسفيري. أذكر أن الشيخ شرح لي وللمناقشين كيف أن الطرحين متصلان ومتسقان، حسب عرضه المنطقي لهما وحسب اعتبار صحة فرضيّاته أعلاه. لكن في نفس الوقت كان شرحه ذلك دليلا على أن ربط الطرحين ممكن وإن كان غير ضروري لبقاء أي واحد منهما. على سبيل المثال، يحكي الشيخ  أن منهج الفاعلية تم استعماله لبحوث دراسات عليا قام بها طلّاب في جامعة التحدي، بليبيا، حيث كان يدرّس  لسنوات. أولئك الطلبة لم يكونوا مثل الشيخ متمرسين في العلوم الطبيعية والإنسانيات معا، ولم يكونوا بحاجة لذلك، فقد اقتصرت دراساتهم على المجال الخاص “بفاعلية الأفراد والمجتمعات والنصوص” حسب تعبير الشيخ. بل يبدو عموما أن عددا من الكتّاب السودانيين، في مجال الإنسانيات، قد بدأوا فعلا باستشارة منهج الفاعلية في بعض معالجاتهم الأدبية والاجتماعية والتاريخية، بدون أي اعتماد أو تمديد للنظرية الفيزيائية المعممة في كتاباتهم؛ ولا تثريب. عموما فإن سعة اهتمامات الشيخ نفسه، ودراساته، ليست أمرا متوفرا وسط عموم الكتّاب والمفكرين المعاصرين، ولا يُتوقّع أن تتوفّر وسطهم قريبا.

المحور الثالث: الملامح العامة لقصة الشيخ الشخصية تبدو لي نموذجا ممتازا لبنية العقل الخلاق التي تحدث عنها. ذلك من الأمور المهمة لأنه دليل على جدية الشيخ العالية في مشروعه هذا، وهو الذي يضعه في مصاف العلماء الأجلاء الذين يستحقون الاحتفاء في تاريخنا.

نادرون هم من يدركون حقيقة صعوبة إنتاج أنماط تفكير جديدة على ما يألفه المرء من حوله وما يألفه الناس عموما. المطّلعون على التراث الإنساني وسعة تشعباته، بخاصة، تجد منهم من يدرك تلك الصعوبة، إذ أن إدراكها مستوى متقدّم من الحيرة لا يبلغه إلا من اجتهد كثيرا لتجاوز الحيرة الأولى، الساذجة. والأندر من هؤلاء إنما الذين لا يدركون تلك الصعوبة فحسب، إنما يتجاوزونها بحنكة؛ ليس تجاوزا كاملا بطبيعة الحال لكنه تجاوز يتخطى مرحلة الشلل الإبداعي الذي يصحب تلك الحيرة المتقدمة. الشيخ محمد الشيخ، في نظري، كان أحد هؤلاء الأندر. ومن المؤكد أنها قصة من الجمال بمكان، تلك التي تتلخص في عكوف إنسان على فكرة نابعة من همّ وجودي وبغية تغيير نحو الأفضل، ثم يبذلها للناس بوسائل تحترم إنسانيتهم وتؤمن بوعد التغيير فيهم. ومما يزيدها جمالا أن تأتي القصة بثمار جديدة فعليا على ما هو مسلّم به، وأن تتخلق تحت ظروف أكثر صعوبة، كواقع ظروف الموارد الشحيحة المتاحة للباحث وكواقعنا اليوم في عموم “العالم الثالث” حيث يُفترض بنا عموما أن نكون متلقين للعلوم والمعارف وكفى، وليس لنا ما نساهم به أصالة في مسيرة المعرفة الإنسانية. هذه القصة الجميلة يبدو ان الشيخ محمد الشيخ قد جسّدها، ضمن قائمة قصيرة من الأشخاص في عموم التاريخ الحديث.

أذكر أيضا من علامات العالِم، عند الشيخ، سَمْتُه في الحوار. من الطبيعي أن يكون المرء متحمّسا جدا لمشروعه الفكري الذي بذل فيه الكثير من الطاقة والزمن والتجرّد، فذلك المشروع يكاد يكون في معزته عند صاحبه كمعزة الطفل عند والده. لم يكن الشيخ قليل الحماس لمشروعه، لكنه كان هادئا ومرنا وصابرا تجاه النقد له بمستوى لا يبلغه فعليّا إلا قلّة. إضافة لذلك كان يؤكد أن مشروعه هذا ما كان ليكون ما عليه الآن لولا مراجعات كثيرة، عبر سنوات كثيرة، أتت من جهات متباينة، اختلفت معه وتعلّم منها، وأعانته على تطوير طرحه؛ كما لم يكن متحفظا بخصوص أن أي مشروع كهذا ينبغي أن يكون مفتوحا للمراجعة والتعديل واحتمال الثغرات. لا أعتقد أنه كان يقول ذلك كمجرد مجاملات لفظية معتادة، بل كان يعني ما يقول، برغم ثقته وإيمانه بمشروعه (كما يحق له). شهادتي هذه من واقع تجربتي المباشرة في النقاش الكتابي معه حول مشروعه، كما من واقع ما شاهدته من النقاشات الكتابية بينه وآخرين. لأجل عموم هذا، وأكثر، فمنذ فترة صرت أراه على الأرجح أحد أهم العقول المنتجة، في هذا الجزء من العالم، في العصر الحديث.

قصي همرور

المراجع (بعض مؤلفات الشيخ محمد الشيخ):
[1] الشيخ محمد الشيخ. 2011. التحليل الفاعلي وتحديات النهضة. الخرطوم: دار مدارات.
[2] الشيخ محمد الشيخ. 2010. التحليل الفاعلي والأدب: نحو نظرية جديدة للأدب. (دراسة مطوّلة، موجودة في الشبكة الاسفيرية، في عدة مواقع)
[3] Elsheikh, M., 2010. “Towards a new physical theory of biotic evolution and development.” Ecological Modelling, Vol. 221(8), pp. 1108-1118
[4] Elsheik, E. M. 2014. Discovery of the Life-Organizing Principle: In Search of the Fundamental Laws of Life. iUniverse publishers.

رأيان حول “في سبيل الاحتفاء النقدي: قراءة لمساهمة الشيخ محمد الشيخ”

  1. سلام لروح الشيخ محمد الشيخ.
    وسلام همرور.
    ألا تعتقد بإمكانية تأسيس مركز ومجموعة للتحقق من هذه الفرضية؟(هل تسمى فرضية؟)

    رد
  2. فعلا احتاج إلى دراسة هذه الفرضية فهو محور دراستي في الماجستير، فهل من داعم لتبادل الأفكار

    رد

أضف تعليق