حول كتاب “حوارية لاهاي”، وتعريف المثقف

كمساهمة، وفق دعوة كريمة، في ندوة بعنوان “عبدالله بولا: مساهمة رائدة في الفكر والفن وقضايا السودان”، في تدشين كتاب “حوارية لاهاي: مرافعة في حق المثقفين السودانيين” لعبدالله بولا، بالدوحة، أغسطس 2023، بالمركز الثقافي السوداني، قدّمنا ورقة بعنوان “عبدالله بولا كأحد رواد الافروعمومية بالسودان”. ثم في ديسمبر 2023 أقيمت ندوة اسفيرية حول نفس الكتاب، بواسطة منتدى قدامنا الصباح الثقافي، شاركنا فيها كذلك بدعوة كريمة.

بدأنا مساهمتنا باستعراض نفس الورقة، ثم تناول النقاش مع بقية المتحدثين، ومع إدارة الندوة، جوانب من القضايا التي تناولها كتاب بولا آنف الذكر. ومن أهم تلك الجوانب ما جاء في الكتاب من تمحيص بولا لمفهوم المثقف، حيث تناول المفهوم والتعريف باستعراض تاريخي ونقدي، عبر مراجع متعددة، ثم قدم خلاصة متميزة بخصوص ذلك التعريف، حيث قال: “المثقف عندي هو حامل المعرفة النقدية المحرِّرة. والمعرفة النقدية المحرِّرة، في تصوري، ليست هي المعرفة العقلية وحدها، وإنما هي أيضا المعرفة التي تنمّي وتحرر ملكات الشعور والوجدان وتنقّيها من أدران الأنانية الضيقة الأفق.” [حوارية لاهاي، صفحة 131].

في اللقاء، قدّمنا استعراضا مختصرا لمفهوم المثقف، استند على استعراض بولا وعلى كتابات سابقة، مع الإشارة إلى أن تناول هذه المسألة من أجمل وأهم ما جاء في الكتاب المحتفى به.
——–

من هو المثقف؟

عبر استنباط وتوفيق تعاريف عديدة للمثقف، نأخذ منحى أن تعريف الظواهر من أجل الحوار، في المجالات الاجتماعية والإنسانيات، لا يتطلب في العادة استقصاء الظاهرة ووصفها بجميع أوجهها وأجزائها، إنما يتطلب توجيه تفكيرنا في اتجاهات مقصودة، فالتعريف بوصلة وليس خارطة مفصلة لموقع معيّن. وفق ذلك المنحى، أقول إن هنالك تعريفان متداخلان للمثقف: تعريف وظيفي وتعريف وصفي:

التعريف الوظيفي معني بمن يلعب دور المثقف في المجتمع، وفي هذا التعريف فالمثقف: صنعة توجيه الرأي العام. وهي صنعة لأنها لها أدوات متفاوتة وتحتاج لقدرات ومعارف متفاوتة، متخصصة أحيانا ومعممة أحيانا، لكن مخرجاتها تنصب في تشكيل وتحريك الرأي العام (وهو عكس الرأي الخاص أو الحصري، مع تعدد مستويات “العمومية”). يمكن لهذا المثقف أن يمارس صنعته تلك بصورة حصرية أو كأحد وظائفه، ويمكن أن يمارسها بالكتابة أو بأشكال التعبير الأخرى، الإبداعية والإعلامية.

والتعريف الوصفي تعريف لغوي، بالدرجة الأولى، وهو معني بمن يستحق أن يوصف بأنه مثقف، إذا اعتبرنا أنها صفة أو هوية (مقابل أن تكون وظيفة أو دور)، وفي هذا التعريف، باللغة العربية، فأصله يعود للثقاف، وهي أداة تُستعمل لتقويم الرماح وتسويتها. وفي ذلك قول الشاعر:
إنّا إذا عضّ الثقاف برأس صعدتنا لوينا
نحمي حقيقتنا، وبعض الناس يسقط بين بينا

فالثقافة هنا مرتبطة بالتقويم والتهذيب، كما أشار الأستاذ محمود محمد طه في كتاب “الثورة الثقافية” (1972)، (والمقوّم عكس المعوج، والمهذب عكس المشوب الملتبس)، ويمكن أن يوصف المثقف بأنه: من هذبته المعرفة وهذّبه الفكر، أو بالأصح ساهما في تهذيبه كشخص (والتهذيب هنا أيضا مستويات، سلوكية وأخلاقية). وفي التعريف اللغوي هذا – باللغة العربية – مقاربة مختلفة بصورة كبيرة من مجرد ترجمة كلمة intellectual من الانكليزية مثلا.

وفي الغالب نجد أن المثقف النموذجي، أي الذي يوصف بأنه مثقف من باب الإشادة والاعتراف، هو ذلك الذي يوجد في تداخل دائرتي التعريفين أعلاه، فهو أو هي ممن هّذبته المعرفة وهذّبه الفكر وهو أو هي كذلك من أهل صنعة توجيه الرأي العام.
——–

أعلاه، تسجيل اللقاء المذكور

أضف تعليق