السلطة الخامسة: من أين تأتي التكنولوجيا؟

عن الكتاب

(بقلم: محمد جلال هاشم)

هذا الكتاب فريد في نوعه من عدّة وجوه. فهو بدءاً فريد في عنوانه؛ ليس فقط بتناوله لموضوع مهمّ للغاية ولو كان مهملاً تماماً من قبل نفس الذين يفترض أنّهم معنيّون به في المقام الأوّل فحسب، بل فريد في تسميته غير المسبوقة، ذلك عندما أطلق على التّكنولوجيا مسمّى “السّلطة الخامسة”. فالسّلطات الثّلاث (القضائيّة والتّشريعيّة ثمّ التّنفيذيّة) معروفة للجميع، وكذلك السّلطة الرّابعة (الإعلام). ربّ قائلٍ إنّ مكانة التّكنولوجيا هي السّلطة الرّابعة وليس الخامسة، ذلك لأهمّيّتها القصوى. إلاّ أنّ الأمر ليس على هذا إذا ما تدبّرنّاه بعينٍ فاحصة. إذ جميع البلدان فيها إعلام حتّى لو لم يكن يؤدّي دوره على الوجه المطلوب؛ بينما قلّة قليلة من دول العالم الثّالث (المعنيّة بتوطين التّكنولوجيا في المقام الأوّل) ليست بها تكنولوجيا بالمستوى المطلوب، موطّنة أو غير موطّنة. إذن المسألة ليست قائمة على أهمّيّة التّكنولوجيا إزاء أهمّيّة الإعلام، بل تقوم على تحققّ أيّهما من عدمه. وهذا يكشف لنا جانباً مهمّاً في التّوفيق والسّداد الذي حازه الكاتب عندما قام بتسمية التّكنولوجيا على أنّها السّلطة الخامسة. وهي، في رأيي، تسمية سوف تنتشر عمّا قليل وتصبح من بدهيّات المعرفة العامّة. فلو لم يفعل الكاتب غير هذا، لكفاه كونه قد صنع التّاريخ.

          جانب آخر في فرادة الكتاب يكمن في الموضوع الذي يعالجه. فاليوم، ولقرون مضت، ظلّت الشّعوب التي غُلبت على أمرها واستعمرتها دول أخرى أقوى وأشدّ منعةً غالبُها الأعمّ من أوروبّا، تتعيّش في مجمل مناحي حياتها على ما تُنتجُه نفس الدّول التي استعمرتها. وليس أدلّ من هذا على حالة الإمبرياليّة المحدثة التي تعيش فيها هذه الدّول، وهل من إمبرياليّة أكثر من التّبعيّة التي تعني أوّل ما تعني فقدان الاستقلاليّة بما يعني أنّ استقلال هذه البلدان ليس سوى شيء اسمي، غير فعلي. بقدر ما ارتفعت العديد من الأصوات التي تدعو للتّحرّر من الاستعمار والإمبرياليّة وتلك التي تدعو لتحقيق الاستقلال الحقيقي، نجد أنّ الذين تنبّهوا لمسألة توطين التّكنولوجيا بما يعني أن تستقلّ هذه الدّول النّامية تكنولوجيّاً قليلون للغاية. واليوم تبدو هذه الدّول وهي كأبعد ما يمكن أن تكون من مسألة تحرير الذّات وتحقيق الاستقلال الحقيقي. هذا بينما لا تزال سبل وأبواب توطين التّكنولوجيا مشرعة تدعوهم لانتهاج سبيلٍ ناهجة بهذا الخصوص. في هذا يأتي كتاب قصي همرور في صيغته المتعمّقة والمبسّطة بوصفه دقّاً للنّاقوس بغية إيقاظ نيام الأمم والنّاس، فهل هم مستيقظون!

          كما يتفرّد هذا الكتاب في شيء آخر، ألا وهو العمق مع السّلاسة ثمّ البساطة. وليس في الظّنِّ ما هو أشقّ على الكاتب والمفكّر من أن يجمع هذه الخصال الثّلاثة بكفاءةٍ واقتدار، بخاصّةٍ العمق مع البساطة. فكلّنا يعلم أنّ أعمق الأسئلة الفلسفيّة هي تلك التي يمكن أن يسألها الأطفال بكلّ بساطة. فالتّبسيط لا يقدح في العمق، بل يشهد بكفاءةٍ عادةً لا يجترحها إلاّ المتمكّنون. فالكتاب يتميّز بأسلوب فريد في التّعبير وصفه أهل البلاغة بأنه السّهل الممتنع؛ فلغتُه ليس فيها تزويق أو تحذلق أو إسهاب، وهي من عيوب الكتابة. إنّه أسلوب أشبه بالبنيان المرصوص؛ إذا أزحتَ عنه طوبة واحدة قد يفقد تماسكه ويتلاشى عنه رونقُه. وهي فنّ في اقتصاد الكتابة، لا يستخدم فيه الكاتب لفظة إلاّ لأنّها وحدها دون غيرها التي ستفي بالمعنى المراد. فالكاتب على مشهود إجادته لفنّ الكتابة فيما تواتر من كتابات إسفيريّة له لا يحاول استعراض عضلاته التّعبيريّة. وهذا باب في احترام الموضوع المراد معالجته ثمّ احترام اللغة نفسها فلا يُشانُ وجهُها الجميل بالحركات البهلوانيّة التي لا طائل من ورائها، فضلاً عن تغبيشها للمعنى. إنّ أسلوب هذا الكتاب سوف يقف كنموذج للكتابة العلميّة جدير بالاحتذاء والتّأسّي.

          كما يتفرّد الكتاب، بجانب منهجيّته الصّارمة، بخط فكري يكشف عن التزاميّة الكاتب. فقصي همرور، بجانب كونه باحثاً أكاديميّاً ضليعاً، يكشف عن موقفه الملتزم تجاه قضايا القارّة الإفريقيّة. ويظهر التزامُه هذا في سيره فوق خطى الآباء المؤسّسين لحركة عموم أفريقيا Pan-Africanism ثمّ خطى الجيل اللاحق من المفكّرين إلى لحظتنا الرّاهنة. فهو في استشهاداته بخصوص ضرورة توطين التّكنولوجيا يتحرّى مقولات وأفكار الآباء والمفكّرين لحركة عموم أفريقيا. وهنا تكمن فرادة الكتاب. إنّه يكشف بطريقة غير مباشرة كيف أنّ قارّتنا الأمّ لم تكن يوماً عقيمة من حيث إنتاج العقول والمفكّرين. هنا يوجّه لنا جميعاً قصي همرور رسالة خفيّة وذكيّة لكنّها تتوارى عن العيان فلا يلحظُها إلاّ المعنيّون بها. إنّ هؤلاء الآباء المؤسّسين والمفكّرين اللاحقين في حركة عموم أفريقيا الذين تنبّهوا جيّداً لضرورة توطين التّكنولوجيا هم عينُهم الذين استهدفتهم الإمبرياليّة العالميّة، أكان ذلك الاستهداف قد تمّ عبر التّصفية الجسديّة أو عبر الحرب الإعلاميّة والتّصفية المعنويّة.

          ثمّ أخيراً يتفرّد هذا الكتاب بشيء خفي آخر، غير ملحوظ، ولو كان بارزاً للعيان. هذا أنّه باكورة إنتاج قصي همرور في مجال الكتب المنشورة. والكتاب المنشور جنس في الإبداع الفكري لا يزال يتربّع على هرم الإنتاج الكتابي برغم العولمة وما تبعها من إتاحة وسائل أخرى للنّشر الكتابي ليست فقط غير مسبوقة، بل لم تكن تخطر على بال ربّما قبل ربع قرنٍ من الزّمان. لقد كتب قصي همرور، كما نشر، العديد من المقالات، فضلاً عن مواظبته على إطلالة يوميّة عبر الأسافير بكلّ أنواعها، نراه يكتب فيها بالعربيّة والإنكليزيّة بأسلوبٍ رشيق ينمُّ عن الذّكاء وسعة الاطّلاع، فضلاً عن رحابة يصعب إدراك منتهاها من حيث تنوّع وتعدّد الاهتمامات. ربّما تمثّل حالة قصي همرور وآخرين كثر من جيله حالة خاصّة في كيفيّة تعلّم فنون الكتابة في عصر العولمة وكيف يمكن أن تلعب دوراً كبيراً ليس فقط في التّحصيل، بل كذلك في الدُّربة على الكتابة. فهؤلاء الشّباب يبدأون أوّل شيء بكتابة النّتف، أي كتابة التّعليقات القصيرة، العابرة، ريثما يتورّطون قليلاً، قليلا في كتابة الفقرات القصيرة، فالفقرات الطّويلة إلى المقال القصير، ثمّ أخيراً الكتابة النّاهجة. كلّ هذا صحيح. لكن المَكِنة الكتابيّة عند قصي همرور تكشف عن بعدٍ آخر يعود لجودة التّعليم والرّعاية التي حُظي بها. وهذا أكثر وضوحاً في شخصيّته لدى من يعرفونه شخصيّاً. مع كلّ هذا يبقى لنا أن نستقبل منتجاً إبداعيّاً فريداً لعبت فيه العولمة دوراً في تشكيله وتطويره. وليت لنا فًسحةً تسمح باستعراض نماذج وأسماء أخرى، ولكن نكتفي بقولنا: عاشت الأسامي!

          وبعد، هذا أوّل تصدير أكتبه لكتاب بمثل ما هذا أوّل كتاب ينشره قصي همرور. وليس هذا لأنّها أوّل دعوة لي كيما أكتب تصادير للكتب. لكم دُعيت من قبل أناسٍ أُعزُّهم لكتابة تصادير لكتبٍ نشروها، فاعتذرتُ في بعضها وتباطأتُ في بعضها الآخر. فلهم جميعاً العتبى حتّى يرضَوا. وكان هذا بالضّبط ما باشرتُ به ابني وأخي وصديقي قصي همرور عندما طلب منّي أن أكتب له تصديراً لكتابه؛ فقد اعتذرتُ بحجّة أنّ هناك من هم أكثر كفاءةً منّى، بل قمتُ بتسمية بعض أفاضل كتّابنا ووعدتُ بالاتّصال بهم، فما وُفّقتُ في هذا. ثمّ كنتُ أقرب إلى أن أركن إلى عادتي المذمومة في التّباطؤ وتأجيل عمل اليوم للغد ممّا شببتُ عليه وشاب فيّ. كلّ هذا وقصي همرور لا يبدي غير الصّبر الجميل وهو يتحرّق على جمر إبداعه. فالكتاب كالطّفل؛ ما إن يكتملُ نموُّه حتّى وتبدأ آلام الطّلق يريد أن يخرج للملأ ليواصل رحلة نموِّه خارج رحم مؤلِّفِه. وهذا لعمري مثلٌ جديرٌ بالتّأمّل! وكلّي ثقة في أنّ هذا الكتاب الطّفل البكر سوف يكبر مع الأيّام عبر طبعاته اللاحقة ليصبح علامة طريق فكريّة يستهدي بها سُراةُ الفكر.

          هذا ما كان من أمري بخصوص كتابة التّصدير لهذا الكتاب. إلاّ أنّني ــ والكتابةُ إلهام ــ وجدتُ الكلمات تقفز من مخيّلتي كالأسماك الصّغيرة وتتراقص في لساني وأنا على متن القطار من لندن إلى لاهاي بهولندا. لقد تداعت الكلمات التي خططتُها هنا كما لو كانت قصيدة. فقد قرأتُ هذا الكتاب أكثر من ثلاث مرّات: مرّتين بغرض تحريره، والثّالثة بغرض كتابة التّصدير. وهو فضلاً عن كلّ هذا يعالج أمراً كم وددتُ لو أنّ المولى أتاح لي من أمره رشدا فأعالجُه إيماناً منّي بأهمّيّته. ولكن، على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ، فها هو ابنٌ وابنُ أخٍ عزيز، ثمّ هو أخُ وابنُ أخٍ عزيز، كما هو صديقٌ صدوق، قد نهد للمهمّة فأنجزها بأفضل ممّا كان يمكن لي أن أقوم به، فأنعم وأكرم! إنّ كتابتي لهذا التّصدير ممّا أفخر به وأتّحلى به لدى العطَلِ.

          أخيراً؛ قليلةٌ هي الكتب التي لا يكتمل وعي المرء في مضمارٍ بعينه بدون قراءتها. وإنّي لعلى يقين من أنّ هذا الكتاب سوف يقع ضمن هذا التّصنيف فيما يتعلّق بالوعي الوطني الأفريقي بعموم، ثمّ السّوداني بخصوص. وإنّي إذ أكتبُ هذا التّصدير لأُهنّئ القرّاء بصدور هذا السّفر.

                                                                      لاهاي ـــ هولندا
                                                                      14 أبريل 2015م

(تصميم الغلاف: FADLABI)