وأجِرني من أوهام السوشَلْميديا

(بعض ظلامات “ثورة الاتصالات”)

طرائق تفكير الناس تتنوع، لكنها بصورة عامة تتأثر بمناخاتهم النفسية في الظروف الزمنية. وذلك ينطبق بصورة شبه متساوية على ذوي الحظوة النسبية من التعليم والخبرة وعلى من هم أقل حظوة، وعبر أي تصانيف أخرى (العمر، النوع الاجتماعي، اللغة، إلخ).

حين يبدأ امرئ بالتفكير باتجاه معيّن، بدوافع، أو وقود داخلي، أصلها تجربة ذاتية غذّت منظورا معيّنا للأشياء وللأحياء من حوله، فإنه يصبح في حركته مثل القطار، يستجمع سرعته تدريجيا ثم ينطلق، وحين ينطلق في ذلك الاتجاه لا يمكن إيقافه بصورة مفاجئة، بل حتى لو بدأ الوقود ينفذ، أو حصلت إعادة لحساب الوجهة المطلوبة، فأي تغيير في مسار القطار وسرعته سيحدث غالبا بصورة تدريجية كذلك — إلا في حالات نادرة، قد يحصل فيها توقّف فجائي، وغالبا ما تكون لأسباب مفاجئة أو طارئة جدا — وفي تلك الأثناء فمن يرى القطار سيرى أنه ما زال يمضي في نفس مساره وبدون أن يبدو عليه تغيّر في الدوافع أو الأهداف، أما “القطار” فوحده يدرك أنه بصدد تحوّلات مقدّرة وهذه فقط بدايتها.

بل لعلّ من تتغيّر مواقفهم فجأة، بين يوم وليلة، وإن كانت صادقة فهي غير محفزة للثقة، لأن التغيّرات الحادة مؤشر تذبذبات داخلية يصعب الاطمئنان لها – ولو نسبيّا – في أغلب الظروف.

والوسائط الاجتماعية الحديثة – السوشلميديا – حقلٌ نموذجي لمشاهدة هذه الظاهرة، لأنها – أي السوشلميديا – مرتع لأسباب الارتخاء الذهني وسوء الفهم بصورة لا تضاهى، فبقدر تواصل الناس فيما بينهم (وبقدر إيجابيات ذلك) بقدر ما يتفاقم سوء الفهم ويتفاقم الوقود الذي يغذي الدوافع الذاتية. لذلك فالإدمان على السوشلميديا ظاهرة واقعية وعالمية، وهي ظاهرة تجعل الكثيرين يقبلون بنسخة من شخصياتهم في الأسافير أدنى بكثير من النسخة التي يقبلونها في الحياة العامة.

عدد مقدّر من الدراسات، والكثير من النقاشات، المتوفرّة في الانترنت نفسها (للمفارقة)، تتحدث عن كمّيات سوء التفاهم التي تضج بها الإيميلات والرسائل النصية الكثيرة عبر الوسائط، والنتائج الكارثية لذلك، بصورة تكاد تقول إن المزيد من تلك التواصلات المكتوبة لا يستطيع إصلاح سوء التفاهم فحسب إنما يزيده ويبني عليه، مثل محاولة إطفاء نار المخيّم بمراكمة المزيد من المواد القابلة للاحتراق فوقها. وفي إطار آخر، تضج المواقع بالكتابات أو التعليقات التي طالما ندم عليها أصحابها لاحقا، فتراجعوا عنها أو اعتذروا عنها أو تعرّضوا لافتضاح واسع بسببها (خصوصا إذا كانوا من المشاهير في أوساطهم)، وفي ظل تبريرهم لها كثيرا ما قالوا إنهم كتبوها تحت تأثير اللحظة أو الشعور غير المتزن. والعاقل من اتعظ بغيره.

(ولعل بعضكم سمع عن تجربة حساب الذكاء الصناعي في تويتر – بواسطة مايكروسوف، في 2016 – والذي وضعوا له خوارزمية ليعكس في حسابه مجمل التفاعل البشري في الوسائط؛ فما لبث بعد فترة إلا أن صار ذلك الحساب عنصريا وذكوريا وفاشيا لدرجة كبيرة في محتوى تغريداته، فاضطرت مايكروفوست لإيقاف الحساب. والعبرة الكبرى هنا أن البشر في مجملهم إذا قابلوا شخصياتهم الاسفيرية في أرض الواقع ففي الغالب لن يصيروا أصدقاء مع أنفسهم).

الكلمات أعلاه تتناول موضوعا واسعا، ومتفرعا، حفّزته مشاهدات عامة وتجارب خاصة مؤخرا، على أصعدة شتى. إحدى تلك المشاهدات والتجارب ظاهرة خروج الكثير من الأصدقاء، عبر فترات، من السوشلميديا، عن طريق إعلان قفل حسابهم لبعض الوقت (أو نهائيا)، لأسباب تتنوّع ولكن أغلبها يشير إلى الوعي بظاهرة مرعبة: ما يفعله بنا الإدمان على السوشلميديا ومجاراة توقعاتها، إن صح التعبير…. والحديث ذو شجون.

أضف تعليق