مشكلة الأغلبية في الديمقراطية

(1)
منذ بداية تأسيسها، في أواخر القرن الثامن عشر، كانت الولايات المتحدة “ديمقراطية”، ووفقا لذلك وضعت أسسا للاختيار الحر للحكومة، واستقلال القضاء، وفصل السلطات، والحقوق الأساسية للمواطنين.

وبطبيعة الحال، كان ذلك يتضمن أن أغلبية المواطنين هي التي تنتخب الحاكم وممثّليها في السلطة التشريعية. لكن، هنالك تفاصيل مهمة. حسب التقاليد المعمول بها عن الديمقراطية (منذ بداياتها الاغريقية) كان تعريف المواطن يقتصر على الرجل، الحر، البالغ، دافع الضرائب. أكثر من ذلك، وبما أن ضرائب الدخل لم تكن منظمة بصورة واضحة، كانت الضرائب عادة تعتمد على الأملاك، وخاصة ملكية الأراضي. إذن كان المواطنون الذين لهم حق ممارسة الانتخاب (إذا أرادوا) هم الرجال، الأحرار، ملاك الأراضي. وعمليا كان ذلك لا يقصي النساء والمسترقّين وغير ملّاك الأراضي فحسب، بل كان أيضا يقصي السكان الأصليين باعتبارهم ليسوا مواطنين للولايات بالمعنى الرسمي. باختصار، كانت حفنة من الرجال الأوروبيين (أو ذوي الأصول الأوروبية) أصحاب الاملاك هم ذوي الأحقية في ممارسة الانتخاب أصلا، وفي الترشّح لتمثيل “الشعب” في السلطة.

وهذا الوضع لم يتغيّر إلا تدريجيا، وعبر فترة طويلة نسبيا وبعمل مستمر وتضحيات كثيرة، فبينما كان الاسم ديمقراطية، كانت عمليا هنالك حفنة فقط من الناس تتداول السلطة وصنع القرار فيما بينها. ولم تكن الولايات المتحدة حالة استثنائية (فقط أردنا الاستشهاد بها، كونها بدأت بدون نظام ملكي كباقي دول أوروبا)، بل إن النساء السويسريات لم يحصلن على ذلك الحق إلا في 1971، أي بعد بلدان كثيرة في جنوب الكرة الأرضية. (وكذلك فإن النساء الروسيات حصلن على ذلك الحق في 1917، بينما احتاجت معظم البلدان في غرب أوروبا إلى عقود بعد ذلك التاريخ حتى يحصلن عليه، ولم تحصل عليه النساء الأمريكيات إلا بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ).

واليوم، في معظم البلدان ذات الحكم الديمقراطي لا تكون الأغلبية الانتخابية عمليا إلا أقلية إحصائية (أي مقارنة بجميع قاطني الدولة والذين يخضعون لسلطتها)، أولا لأن هنالك سنّ قانونية للانتخاب تجعل قطاعا كبيرا من السكان غير مؤهلين للتصويت أصلا (وهذا القطاع هو الذي يتحمل نتائج قرارات الدولة لبقية أعمارهم)، وثانيا لأنه حتى أولئك الذين يدخلون قانونيا في دائرة المؤهلين للتصويت لا يستوفون شروطا أخرى موضوعة في القانون (على سبيل المثال، في الولايات المتحدة يُحرم المواطن من حق الانتخاب مدى الحياة إذا كانت لديه سابقة أو سوابق جنائية محددة (بعضها جنايات كبيرة وبعضها تقديرية، مثل السرقة والاحتيال والتزوير وتعدد الأزواج/الزواجات؛ بينما بعض الولايات يُسترجَع فيها حق الانتخاب بعد بضع سنوات من إثبات التهمة)، وهذا ياخذ نسبة كبيرة من المواطنين خارج المعادلة، خصوصا تلك الفئات التي تتعرض لظلم موثّق من الاجهزة العدلية، حيث يقدّر أن واحدا من بين كل 13 مواطن أسود محروم من حق الانتخاب في الولايات المتحدة بينما من الموثّق أن الكثير من المواطنين البيض لا يحصلون على نفس العقوبات الجنائية لنفس الجرائم من النظام العدلي مثل المواطنين السود). ذلك بالإضافة إلى أنه حين ممارسة ذلك الحق فإن أغلبية المواطنين المؤهلين للانتخاب لا يمارسون ذلك الحق أصلا، فلا هم يسجّلون أنفسهم للتصويت ولاهم يشاركون في العملية الانتخابية، لأسباب شتى (خاصة في البلدان التي ليس فيها التصويت ملزِما)؛ وهذا الواقع ينطبق على شتى بلدان العالم ذات الأنظمة الانتخابية. لكن، رغم ذلك، فهؤلاء الذين لا يمارسون الانتخاب لديهم وسائل تعبير وعمل عام أخرى، من الرأي والاحتجاج والانتماء والتنظيم، والضغط والمناصرة، إلخ، تضمن لهم الحفاظ على باقة من الحقوق الدستورية العامة، والحقوق والضمانات المدنية والاقتصادية والاجتماعية المتفرعة عنها، تصنع الفرق بين أن يعيشوا حياتهم في دول ديمقراطية نسبيا أو يعيشوها في دول شمولية.

وذلك طبعا يضاف إليه شيء معروف، هو أن جميع المقيمين في أي بلد من البلدان، من غير المواطنين (سواء أكانوا في طريقهم لنيل المواطنة أو مهاجرين أو مستقرّين مؤقتا لكن يعملون ويدفعون الضرائب، إلخ) ليسوا مؤهلين لممارسة الانتخاب في الدولة في أي شأن من شؤونها، لكنهم بطبيعة الحال يتأثرون بها تأثرا مباشرا؛ وهذه المسألة هي إحدى المسائل التي تخلق جدلا واسعا، في الساحة الدولية والساحات الدرسية، حول المفارقات بين “حقوق المواطنة” و”حقوق الإنسان”، فكلّما كانت قوانين الدولة تضع فروقا أو تناقضات كبيرة بين حقوق المواطنة حقوق الإنسان، كلما كانت تلك الدولة ذات رصيد غير ناصع في معاملة غير المواطنين داخل أراضيها.


(2)
الديمقراطية اليونانية الأولى، كأول ممارسة عملية تاريخية للمفهوم، فيها عِبَر كثيرة. ولكونها كانت أول ممارسة ففيها مشاكل كثيرة وفيها دروس كذلك. هنا سنعرض سريعا لدرسين منها:

  • أولا: الديمقراطية ارتبطت منذ بداياتها بالعمّال والفقراء، فظهورها في أثينا اقتضى بصورة مباشرة زيادة حظ العمّال والفقراء في القرار السياسي. لدرجة أن تعريف الفلاسفة اليونانيين القدماء لها – حسب تلخيص فاروفاكس – أن الديمقراطية تعني “تولّي العمّال والفقراء السيطرة على السلطة السياسية باعتبار كونهم الأغلبية”. وهذا التعريف أتى من فلاسفة غير مؤيدين للديمقراطية، فأدرجوا في تعريفها بعض أسباب رفضهم لها. ورغم أنها تبدو بديهية للوهلة الأولى، إلا أن هذا الفهم يتناقض مع الديمقراطية التي تمارس وفق النظم الرأسمالية (والتي تطورت أساسا من ممارسات بدأت تحت جناح نظم ملكية)، حيث تبقى أغلبية السلطة (في الهياكل الثلاثة: التنفيذية والتشريعية والقضائية) بيد فئات ليست أغلبية في المجتمع. إلقاء نظرة سريعة على مستويات دخول أعضاء الكونقرس الأمريكي (مجلس الشيوخ ومجلس النواب)، والأسر التي أتى معظمهم منها، مقابل مستوى دخل أغلبية الأمريكان وأنشطتهم، يفي بتوضيح هذه المسألة. [وهنالك تفاصيل أخرى، إذ أن الديمقراطية الأمريكية في بداياتها حرصت بشكل قانوني على حصر حقوق الديمقراطية على الطبقة العليا، أي الطبقة المالكة للموارد، فمثلا كان حق الانتخاب فقط عند الرجال ملّاك الأراضي لا غير]. لذلك فهنالك تناقض موروث بين الرأسمالية والديمقراطية.
  • ثانيا: كانت الانتخابات إحدى سبل تحقيق الديمقراطية في تجاربها الأولى، وفي الواقع فهي بعد فترة أخذت سمعة سيئة (أي الانتخابات) باعتبار أنها كثيرا ما تؤدي إلى الانحراف عن مقاصد الديمقراطية نفسها وهي توسيع المشاركة في القرار والحوكمة. بحسب التجربة الأولى للديمقراطية، ظهر نقد للانتخابات أنها تثير التركيز على مناطق الخلاف والتنازع حول مناصب الحكم والإدارة أكثر من إثارتها للحضور الجماعي في صنع القرار وتوفير الفرص لجميع المؤهلين لتولي مناصب عامة. لذلك استعاضوا عن الانتخابات في حالات لاحقة بنظام القرعة بين مجموعة من المؤهلين المرشحين، بحيث لا يحتاج أي واحد من هؤلاء المرشحين أن يقاول ويساوم من أجل الحصول على أكبر عدد من الأصوات، إنما عليه فقط أن يثبت أهليّته للمنصب وفق معايير وتقييم كافة المنتخبين، ثم بعد انتهاء الدورة تعاد القرعة لتولي أشخاص آخرين للمناصب، باعتبارهم ممثلين للجماهير ويعملون وفق استشارتهم ويخدمون البلد حسب المنصب الموكل لهم. وكذلك في القضاء قاموا بالتجريب في اختراع طريقة هيئة المحلّفين، أي ممارسة القضاء بواسطة الأنداد في المجتمع، وهم مواطنون يتم اختيارهم بالقرعة كذلك مع اشتراط تأهيلهم لفهم القضية المعنية (وغالبا ما يكونون ممن يحسبون أندادا للشخص المعرض للمحاكمة في المستوى الاجتماعي والاقتصادي). طريقة المحلّفين ما زالت مستعملة حتى الآن في بعض البلدان بصورة محصورة (في الولايات المتحدة مثلا).

(3)
تعريف الديمقراطية بأنها “حكم الأغلبية” تعريف مضلِّل، وحسب السياق قد تكون أضراره أكبر من منافعه.

أصح تعريف مختصر للديمقراطية هو “حكم الشعب، بواسطة الشعب، لأجل الشعب”. ومن أجل التوضيح دعونا نستبدل كلمة “الشعب” بكلمة “المجموعة”، ونعني بها أي مجموعة من البشر تشترك في ظروف معيّنة ونطاق معيّن. إذا أرادت هذه المجموعة إدارة مسائلها بصورة ديمقراطية فذلك يعني أن جميع أعضاء المجموعة ستكون لهم حقوق وواجبات متكافئة، كما ستكون عملية اتخاذ القرارات وتنفيذها عملية تشاركية بآليات متواضع عليها أمام الجميع. إذا قامت مجموعة أصغر، داخل المجموعة العامة، وقالت إننا نحن الأغلبية داخل المجموعة ولذلك فسنقرّر وفق ما نريد نحن لمصلحة كل المجموعة، لن يكون ذلك مقبولا كإدارة ديمقراطية.

الديمقراطية، في مستوى الدولة، نظام حكم يتبّع شروطا معيّنة، وفيه ضمانات معيّنة. الشروط هي المواطنة والمؤسسات، والضمانات هي المعاملة المتساوية وفق الشروط المذكورة. الدولة التي تضع شروطا تمييزية إضافية بين المواطنين، متناقضة مع شروط المواطنة، تفقد صفة الديمقراطية. والدولة التي تقوم بتمييع مؤسساتها (قوانينها وإجراءاتها ووكالاتها) بحيث تفشل في تلبية الضمانات، تفقد صفة الديمقراطية.

ولذلك فإن أي نطاق حكم ديمقراطي يتطلب دستورا (مكتوبا كان أو غير مكتوب)، وأي دستور نخاعه وروحه الحقوق الدستورية، وهي الحقوق المكفولة لجميع المواطنين، بلا تمييز بين أقلية أو أغلبية ضمن أي تعريفات أو هويات يمكن أن تتناقش مع تعريف المواطنة العام. ثم تأتي بعد ذلك التفاصيل في الدستور تنظيما لتلك الحقوق، وتكميلا لها، وتعبيرا عن طموحات الشعب الأخرى. لذلك قيل إن الدستور هو القانون الأساسي، ووظيفته تنظيم علاقة الأفراد بالدولة، بينما بقية القوانين وظيفتها تنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم في المجال العام. والحقوق الدستورية الأساسية هي: حق الحياة وحق الحرية– وتُترجَم وتتفرّع إلى: حق المعاملة المتساوية أمام أجهزة الدولة، وحق طلب سبل العيش الكريم (ومنه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والصحية)، وحرية الضمير وحرية التعبير وحرية التنظيم وحرية التنقل، وفق القوانين الدستورية؛ ثم حق حماية كل هذه الحقوق من الانتهاك او المصادّرة، بواسطة الدولة أو بواسطة أفراد آخرين داخل الدولة (إلا في حالات استثنائية، مؤقتة، بموجب قانون دستوري لأسباب مُعلَنة مشروعة وبتنفيذ عادل).

فقط، بعد فهم هذه الأسس يمكن أن نقول إن الديمقراطية كذلك تشتمل على حكم الأغلبية، لكن مع إضافة أساسية: ضمان حقوق الأقلية. ذلك يعني أن اختيار الشعب لنوّابه الذين ينوبون عنه في إدارة أجهزة الدولة السيادية، واتخاذ القرارات التفصيلية فيما يخص السياسات والخطط وأساليب تنفيذها وتفسيرها، تكون بواسطة طريقة يفوز فيها خيار الأغلبية، لكنهم حين فوزهم ليس لديهم حكم مطلق على البقية، إنما وفق الشروط والضمانات الموضوعة مسبقا في الدستور.


(4)
دروس كهذه مهمة في تعويد النظر إلى ما وراء المسلّمات الميكانيكية. النظُم والمفاهيم التي يتم توظيفها بطريقة تقليدية فحسب، مع غياب التقييم للمقاصد والحكمة، لا تكرر نفسها بكل مشاكلها فحسب، إنما كذلك تتكلّس وتصدأ مع الأيام وتتشوّه أكثر، إذ يتم إفراغها من محتواها وتصبح طقوسا يمكن ملؤها بأي شيء أو لا شيء.

والحديث ذو شجون. والغرض من العروض أعلاه يتصل بما قلناه من قبل، إن الديمقراطية، كمفهوم وكنظام حكم (حكم الشعب) تفقد معناها وتُفرغ من محتواها إذا حصرناها في ممارسة الانتخاب (حكم الأغلبية)، ليس لأن الأغلبية التي لا تمانع قهر الأقليات وسلبها حقوقها تشوّه الديمقراطية فحسب، إنما أيضا لأن تعريف “الأغلبية” في النظم الانتخابية المعاصرة دوما يقصر عن “الأغلبية” الإحصائية، أي الأغلبية الحقة في البلد والمتأثرين بقرارات وأفعال الدولة بدون يدٍ فيها.

وفي الواقع فإن الديمقراطية ليست نظاما كاملا، مكمّلا، بل فيه الكثير من ثغرات النقد وفرص التطوير، في النظرية والممارسة، بيد أن وجهة ذلك النقد والتطوير تختلف كثيرا بين الذين يفهمونها كحكم الشعب وبين الذين يفهمونها كحكم الأغلبية.

لا بد من تكرار هذا الأمر وتثبيته: الديمقراطية تُعرف في هذا العصر بأنها حكم الشعب، بواسطة الشعب، لأجل الشعب، وهي تُترجم قانونا، حسب العرف الدولي المعاصر، إلى نظم ومبادئ ومؤسسات حكم عامة، وليست مجرد عبارة سائلة يمكن تشكيلها حسب الوعاء الذي توضع فيه. صحيح ومهم أن الديمقراطية متنوّعة، وفيها مجال للمزيد من التنوّع والتطوّر بما يخدم مصالح الشعوب وسياقاتها التاريخية، لكنها كذلك ليست مفتوحة على مصراعيها بدون ضمانات (وهي ضمانات دُفِع من أجلها الكثير من الدماء والدموع والعرق عبر التاريخ). لذلك فأي بلد معاصر ليست فيه ضمانات دستورية للحقوق الأساسية للجميع، أقليات وأغلبية، ليس بديمقراطي، حتى لو كان يعتمد نظام الحكم فيه انتخاب الأغلبية. من أراد أن يروّج لحكم الأغلبية فليفعل، ولكن ليس تحت مسمّى الديمقراطية المعاصرة.


(مصدر الصورة: www.young-diplomats.com/democracy-least-bad-form-government/)

رأي واحد حول “مشكلة الأغلبية في الديمقراطية”

  1. ما يقدمه د. قصى اضافه حقيقيه للفكر السودانى السياسى والاقتصادي والاجتماعية.
    وطرحه لمفاهيم الحوكمه والتنميه المستدامة .
    وكمدرب ومهتم والحوكمه اتمنى ان اوفق فى ترجمة بعض هذه القيم فى التدريب والتطوير

    رد

أضف تعليق