دكتاتورية الأغلبية: استعراض ومآلات

الأغلبية تستطيع أن تمارس الدكتاتورية، وهذا أمرٌ لم يكن غائبا منذ التجارب الأولى للديمقراطية الحديثة، ولذلك استعمل ماركس عبارة “دكتاتورية البروليتاريا”، فرغم أن البروليتاريا أغلبية – وأهل حق واضح بالنسبة لماركس، وبالنسبة لنا كذلك – إلا أنهم يمكنهم أن يمارسوا الدكتاتورية. والعبرة هنا ليست رفد ماركس للمصطلح والتبشير به (في سياقات معيّنة) وإنما أن ذلك ممكن–دكتاتورية الأغلبية ممكنة. وفي الأدب السياسي الغربي، غير الماركسي، هنالك اصطلاح آخر لنفس الظاهرة: شمولية الأغلبية
(tyranny of the majority)

(والدكتاتورية تعني، في ترجمتها الأفصح والأكثر تفصيلا، شمولية سلطة القرار بالإملاء والإلزام (to dictate)، أي أن تكون السلطة المطلقة لاتخاذ القرار وتنفيذه بيد جهة معيّنة وينطبق على البقية معها مهما كان محتواه – في حين الديمقراطية تعني دوما أن لا سلطة قرارات مطلقة لأي جهة وإنما دوما مقيدة بقيم وقواعد ومؤسسات معروفة).

ومن تجسيدات دكتاتورية الأغلبية العددية (الميكانيكية)، أو التطورات الناجمة عنها، النظم الفاشية. أي أن هنالك في كل حالة تجسيد لدكتاتورية الأغلبية خط زمني (timeline) راجح يقود للفاشية، ما لم تحدث حوادث تاريخية تقلل من ترجيح ذلك الخط الزمني. وحين حلول الفاشية تتغيّر موازين الأشياء ومسارات التاريخ بعد ذلك (مثل درجة الحرارة الفاصلة بين الجماد والسائل) والنماذج على ذلك موجودة في التاريخ الحديث حول العالم. والتاريخ يوضّح كذلك أن الفاشية إذا وصلت للحكم عن طريق آليات الأغلبية العددية فإن توطّنها في البلد يكون أطول وأعمق أثرا، ويحتاج التخلص منها لعمل ضخم وتكاليف عاتية وأحداث ضخمة، مقارنة بصور الحكم الناقصة الأخرى. لذلك فحين تبدأ بوادر تحوّل العملية الديمقراطية إلى تجسيد لديكتاتورية الأغلبية (مثل الخروج عن المؤسسات ونسف القيم والقواعد الدستورية الأساسية، أو حشد القوى الضخمة في المجتمع لسحب الحقوق الأساسية من قوى أخرى منافسة وأصغر) ينبغي دق ناقوس الخطر.

(في ألمانيا حاليا، هنالك في الدستور مواد تمنح الشعب حق المقاومة المفتوحة لأي جهة سياسية تأتي وتقوّض بعض المواد الأساسية في الدستور – وهي مواد غير قابلة للتعديل – وإن كانت تلك الجهة أغلبية في السلطة وصارت مقاومتها بالوسائل المتاحة نظاميا غير ممكنة. غني عن الذكر أن ألمانيا وصلت لهذه الخلاصة بالطريقة الصعبة–the hard way–وهي الطريقة التي لا يتمنّاها عقلاء لشعوبهم).

في فقه حقوق الإنسان، يقول الدارسون إن منظومة حقوق الإنسان منظومة جذرية في أصلها، وذلك يعني أنها أولا ليست تطوّرا سلسا لنظم اجتماعية تاريخية، بل نقلة كبيرة لا تأتي اعتباطا وإنما قصدا، وثانيا هي لا يمكن تجزئتها مع الاحتفاظ بها، أي لا يمكن أن نختار مبادئ معيّنة منها فقط ونقول هذا ما نريده منها ثم يبقى اسمها منظومة حقوق إنسان غير كاملة–إما الكل وإما لا شيء، وهذه إحدى صفات الجذرية. هنالك مساحة للتطور والتشكل ولكن وفق المبادئ الأساسية. فالأفضل والأصح إذن في حالات الحديث عن منظومة حقوق الإنسان أن يكون هنالك فريقين معروفين: القابلون بالمنظومة وغير القابلين بها – فالأمر لا يحتمل فريق “بين بين” – ثم كل فريق يقدّم دفوعاته ويتحرك في اتجاهها.

والديمقراطية كذلك هنالك مستوى أساسي فيها إنما هو مستوى جذري، لا يقبل التجزئة إلى أجزاء أصغر منه. وذلك يختلف عن تطور التجارب الديمقراطية وتشكلها من داخلها، فهذا صحيح ولكنه يبدأ بالحد الأدنى وليس من تحته، فما تحت الحد الأدنى إلا ما لا يستحق اسم الديمقراطية. بهذا المعنى فالديمقراطية ليست حكم الأغلبية، ولن تكون. الديمقراطية مجموعة قيم وآليات، من ضمنها آلية التداول السلمي للسلطة عن طريق ترجيح كفة الأغلبية في الحكم ولكن وفق أسس وقواعد وضمانات تحمي الحقوق الأساسية للأقليات وتصون الهيكل الأساسي للمؤسسة (الدولة مثلا). أي شيء أقل من ذلك ليس ديمقراطية، وأن يتستّر باسمها فذلك ليس تضليلا فحسب وإنما نسفٌ وإهدار للمنظومة. ولذلك قيل إن من يريد أن يروّج لحكم الأغلبية فليفعل ولكن ليس باسم الديمقراطية، فالمنظومة التي تكون واضحة في أنها ليست ديمقراطية أفضل من المنظومة الناسفة للديمقراطية ثم تتسمّى باسمها، لأن مخالفة الحد الأدنى من الديمقراطية مع التستر باسمها له تبعات سياسية وإجرائية وتاريخية بالغة تختلف عن المنظومة التي تعارض الديمقراطية ولا تتسمى بها. وفي ذلك قيل إن الباطل العريان خيرٌ من الباطل الذي يلبس لبوس الحق ويتحدث باسمه ويشرعن لنفسه عن طريقه.

في إيجاز ذلك قيل إنك إذا جمعت ذئبين، أو ثلاثة، وغزالة، ثم قلت لهم الأغلبية فيكم تحدد ماذا ستأكلون في العشاء، لا يمكنك أن تسمي ذلك ديمقراطية. هنالك فرق بين الديمقراطية وقهر الأقلية.

وعملية الوعي عملية تراكمية، هذا مفهوم. سيظل أناسٌ يروّجون للمفاهيم والممارسات الخاطئة بكل ما يمتلكون من قدرات وموارد، وسيظل آخرون يستثمرون من الممكن في الواقع، من الفهم والعمل والصبر، ما يمكن استثماره لإبقاء عملية نماء الوعي مستمرة، متصاعدة، رغم ما ستجده أمامها من معوّقات شتى ومخاطر تترى. والغالب أن كثيرا ممن يخدمون قضايا سامية كهذه لا يعيشون حتى يروا ثمار جهدهم، بل كثيرٌ منهم يحرثون ويزرعون لمن يأتي بعدهم؛ وفي ذلك نبلٌ لا يعرفه إلا ذوو النبل (“إنما يعرف الفضلَ لأهل الفضلِ أهلُ الفضل”).

رأي واحد حول “دكتاتورية الأغلبية: استعراض ومآلات”

  1. كلام جميل و قد جاء متزامناً مع بعض الأصوات التي تدعى تفنيد الديمقراطية ( ويقصدون بالذات ديمقراطية وست منستر النيابية )من داخل مبدأها القائل بأن الحكم للأغلبية من دون فهم الأساس الذي تقوم عليه الديمقراطية … كما أنها أعادتني بالزمن إلى أن أتذكر ديمقراطية الأزهري و المحجوب الميكانيكية و التي في نظري هي أس المأزق التاريخي الواقع فيه السودان الأن إذا ما نظرنا للتاريخ بطريقة نقدية حسب رأي الفيلسوف نيتشه …

    رد

أضف تعليق