تمكنت أخيرا من منح بعض الوقت لقراءة مقالة رتشارد دوكنز، التي نشرها في ديسمبر 2011 في مجلة “نيو ستيتزمان”، بعنوان “استبداد العقل المتقطّع”
The tyranny of the discontinuous mind
وذلك بعد أن أشار لي عليها صديقي محمد كمبال في الفترة الأخيرة – وهو، أي كمبال، أحد اثنين أدين لهما بتقديمي لأدبيات التفكير النُظُمي قبل بضع سنوات – ثم بعد أن رأيت الحديث عنه متواترا، مؤخرا، في دوائري في منصات السوشلميديا.
والمقالة (essay) لطيفة في مجملها، كتبها دوكنز بسلاسة، وهو عالم الأحياء المعروف، والذي اشتهر بصورة متزايدة ليس كعالم طبيعة فحسب وإنما كمتحدث مفوّه حول العلوم والمجتمع والأديان، وكصاحب سلطة يمكن الاستناد عليها في ضرب من ضروب العلوم الحديثة، وهو علم الجينات–أي كمثقف عام (public intellectual) بمصداقية فوق المتوسطة في مجال العلوم (وليس كل المجالات، وتلك قضية أخرى). مختصر طرح دوكنز في المقالة هو أن عقلية تصنيف الأشياء أو ترتيبها بهرمية (categorization)، وهي عقلية منتشرة في العلوم والقانون ونظم التعليم والحكم، ليست عقلية ذات محدوديات كثيرة فحسب وإنما تودي لمشاكل في التفكير وفي القرار إذا لم ننتبه لمحدودياتها أو أخذنا نتائجها كحقائق، وذلك لأن الواقع مليء بالظواهر الطبيعية والاجتماعية التي لا توجد فيها خطوط فاصلة بين صفة وأخرى، أفقيا أم رأسيا. يستشهد دوكنز على ذلك بعدة نماذج، فمثلا فكرة “خط الفقر”، الذي يجعل هنالك أناس فوقه وأناس تحته في المجتمع، بينما الثروة والمقدرات الاقتصادية في المجتمع متوزعة بصورة لا تعرف ذلك الخط في الواقع (بحسب دوكنز)، وكذلك فإن التقسيمات في درجات الامتحان، ثم مستويات الإنجاز الأكاديمي، في الجامعات ليست في حقيقتها سهلة التقسيم إلى درجات مئوية و”كلاسات”، بل هنالك الكثير من التداول والتقييم المتفاوت مع الحالات، والذي لا يرى النور في نهاية المطاف لأن ما تنشره الأكاديميا هو الدرجات المئوية والكلاسات تلك فحسب، أما بقية المعلومات الغنية حول التقييم فلا تذهب لأي مكان خارج غرف تحكيم الاساتذة. أما في مجال الأحياء، فيقول دوكنز إن أحدنا لو لقي جدّه من 200 مليون سنة للوراء، فسيأكله مع صلصة وليمون لأنه سمكة، لكن هنالك سلسلة متصلة، غير متقطّعة، من الكائنات المتجاورة القادرة على التزاوج والتوالد بين ذلك الجد وأحدنا اليوم؛ وعبر منطق مشابه يتناول قضية الإجهاض من منظور أن الحديث عن أن هنالك خطا طويلا غير متقطّع بين لحظة التخصيب وظهور كائن حي/واعي في الرحم، بحيث لا يمكن أن يقال إن البويضة المخصّبة للتو تحمل ذلك الوعي بما يستدعي معاملتها كشخص من ذلك الوقت. كذلك يسرد دوكنز نموذجا من أنماط الحكم – والتي أجدها من أفضل النماذج التي أتى عليها – هو نظام المجمعات الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة والذي يقضي بأن تذهب كل أصوات أي مجمع انتخابي (electoral college) لمرشّح واحد في النهاية برغم أن الأصوات في تلك الدوائر الانتخابية تفاوتت بين المرشحين (وأحيانا تنقسم إلا قرابة النصف، مثلما حصل في فلوريدا 2000 بين بوش وقور). يقول دوكنز أن المشكلة في هذه الحالة هي قاعدة انتخابية غبية تم تقريرها مسبقا وأصبح علينا الالتزام بها.
مسألة التصنيف هذه (categorization) ومشاكلها، قديمة، وقد تناولها آخرون كثيرون، منهم أهل التفكير النظمي. لكن أيضا تناولها أهل الاقتصاد التنموي، منذ أيام مفكري حركات التحرر الوطني، والذين كانوا يرون أن مؤشرات النمو الاقتصادي المتداولة والمعتمدة عالميا لا تخدمهم كثيرا في مساعي التنمية والنهوض بشعوب البلدان الفقيرة. لاحقا، في 1990، قام محبوب الحق بالتأكيد على ذلك عبر دفعه بمؤشر التنمية البشرية، والذي كان أحد دوافعه الأساسية، كما جاء على لسانه، أن هنالك بلدان يمكنها أن تحقق ارتفاعات ملموسة في مؤشرات النمو الاقتصادي بينما التنمية فيها لا ترتفع بل ربما تنخفض. وكل ذلك بجانب حقيقة أن “المتوسطات” (averages) الاقتصادية لا تعدو أن تكون مجرد ألعاب حسابية/إحصائية لا تعكس الكثير عن الواقع، فمثلا لا يمكننا عبر معرفة ما يسمى بمتوسط دخل الفرد في أي دولة أن نعرف عن حقيقة معيشة أغلبية الناس ومستويات الفقر ومستويات تمايز الثروة بين السكان…. وهكذا دواليك. إذن فنقد مشكلة التصنيف ليس جديدا، ويمكن فقط أن نضيف مقالة دوكنز هذه لذلك المجموع.
لكن، بالنسبة لي، فإني أتمنى أن أقرأ أكثر عن الأسباب الإدراكية (cognitive) التي تجعلنا لا نستغني عن التصنيف، أي ليس الأسباب الإجرائية فحسب، والتي تحدث عنها آخرون ودوكنز منهم (باعتبارها “شر لا بد منه”). ما أعنيه بالأسباب الإدراكية هي محدودية عقولنا التي تجعل من الصعب علينا التعامل، لغويا وتفكيريا، مع شتى ظواهر الكون بدون تقسيم، وأصغر مستوى من ذلك التقسيم هو الثنائيات (القيمية والموضوعية): ضوء/عتمة؛ فوق/تحت؛ قوة/ضعف؛ داخل/خارج؛ إلخ. حتى عندما نستطيع وصف بعض الأشياء أو الحالات باعتبارها خليطا، لا ننجو من وصفها عبر مزيج الثنائيات (الأقطاب) وليس كوضع طبيعي مثل القطب نفسه.
لدينا حاليا في التصوّف، وفي الفلسفة، متسع لتناول هذا الموضوع، فبينما الفلسفة (من كانط إلى هيوم إلى كيركغارد إلى كامو) تتحدث عن محدوديات العقل في تعاطيه مع حقيقة (أو حقائق) الوجود، نجد التصوف كذلك يشير إلى محدوديات العقل في إدراك كنه الوجود وأصله–مثل أن العقل لا يستطيع أن يدلف للأشياء إلا عبر تمييزها بضدها، بينما الوجود الذي لا ضد له – الذات الإلهية – عصية على إدراك العقل (فالعقول “معقولة”)، ومثل أن أغلب تفكير الناس يتراوح بين ثنائية الماضي والمستقبل مع صعوبة وقوف “بندول الفكر” في اللحظة الحاضرة، كما عبّر الأستاذ محمود محمد طه (وأضاف بأن سعي الفكر المؤدب بمناهج التصوف هو إيقاف جولان الفكر، حتى إذا أصبح “وحدة ذاتية، في وحدة زمانية، في وحدة مكانية – خرج عن الزمان، والمكان، فرأى من لا يحويه الزمان، ولا المكان”)، وهو كذلك ما تتناوله مدارس التصوف الشرقية في الحديث عن العيش في اللحظة الحاضرة.
وبينما بعض مشاكل التصنيفات يمكننا – إذا توفّر الفهم وتوفّرت الإرادة – معالجته عبر إجراءات فنية، وبعضها الآخر يمكننا تجاوزه عبر تناول أعمق للظواهر واستنتاجاتنا لها وتطبيقاتها (مثلما يحاول التفكير النظمي وعلوم التعقيد)، تبقى هنالك مشاكل تصنيف متعلقة بمحدوديات القدرات الإدراكية، وهي محدوديات ربما هنالك فرص لتجاوزها (كما تطرح مدارس التصوف) وربما علينا التعايش معها قدر الإمكان (كما تطرح اتجاهات التفكير الأخرى).
على العموم، هذا موضوع متشعّب جدا، يسع صحفا كبيرة وتداولات واسعة. أعلاه فقط استدعاءات فكرية قديمة ومستمرة، حفّزت مقالة دوكنز على زيارتها، والتعبير عنها قليلا من أجل المزيد من التفاكر والعصف الذهني.
وللحديث شجون….