مسألة تخفيض الدعم السلعي، أو خلافه، في السودان، في هذه الأيام، مهمة – وقد ذكرنا سابقا أن الجماهير دخلت في نقاش وتعلّم جاد حول الاقتصاد السياسي عموما من بوابة مسألة الدعم السلعي، وتلك محمدة – لكنها استغرقت من الناس الكثير من الاهتمام، والأخذ والرد، على حساب مسائل أخرى لا تقل عنها أهمية إن لم تكن أهم. بعض الناس حاولوا أن يبقوا خارج التداول الحاد بصيغة “مع أو ضد”، لا زهدا في المواقف وإنما لأن الجانب الذي ينقص فيه عدد الناس الآن هو جانب النظر للقضية من ناحية النظُم ومن ناحية الأمد المتوسط والطويل.
لنذكر بعضا من ذلك على سبيل المثال:
- الأزمة الاقتصادية السودانية مستفحلة، وستحتاج للمرور بأوقات وظروف صعبة في جميع الأحوال، سواء بما يسمى “رفع الدعم” أو بدونه.
- إحدى المشاكل الأساسية لما يجري الآن هو التضخم المالي، والذي قد بلغ مدى صار أي علاج له سيدخل الأوضاع في فترة حرجة لبعض الوقت على أقل تقدير. والصمت – أو شبه الصمت – عن قضية التضخم مع الإصرار على موضوع الدعم تفكير غير حكيم باختصار وغير استراتيجي باختصار.
- مستوى الدعم السلعي للوقود في السودان كبير فعلا، وذلك حصل نتيجة لسلسلة من الاخطاء الاقتصادية (الكيزانية) والاحداث المتعاقبة (مثل انفصال الجنوب وذهاب الحصة الأكبر من الثروة النفطية معه)، وهي تراكمات لا يمكن معالجتها بعصا سحرية ولن يتعافى منها السودان غالبا لبعض سنوات حتى مع أفضل السياسات؛ لكن موضوع الدعم رغم ذلك ليس بالأمر الفلكي أو الدرامي. على سبيل المثال، في العام 2017 أنفق العالم ما يزيد عن 5 تريليون دولار في دعم الوقود فحسب، ومن المعروف أن الصين والولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والهند (أي أكبر اقتصادات العالم حاليا) هم أكبر من ينفق على دعم الوقود في العالم. وصحيح أن كمية دعم هؤلاء للوقود ربما تكون أقل من السودان إذا حسبنا نسبته من الميزانية أو ناتج الدخل المحلي، لكن هذه مقاربة أو زاوية نظر معيّنة، فالعبرة هنا أن الدعم السلعي للوقود ظاهرة عالمية ولا تميّز بين دولة رأسمالية أو غير رأسمالية أو خليط، إلخ. كما أن عبارة “رفع الدعم” غير صحيحة عموما، فأي دولة في أوضاع كهذه ترفع الدعم تماما عن الوقود إنما ترتكب مخاطرة كبيرة وغير مبررة ولن تحلّ مشكلة الاقتصاد على أي حال (ومن هنا فعبارة “تخفيض الدعم” ليست أفضل سياسيا فحسب وإنما أصح منطقيا كذلك، لكن حتى تخفيض الدعم ليس حلّا للمشكلة العامة، وإن كان بالإمكان الحجاج بأن ما يتم توفيره من تخفيض الدعم سيذهب حقا وفعلا لقطاعات مهمة وأصيلة وفقيرة حاليا مثل التعليم والصحة، وذلك يحتاج إلى وضوح كامل في عرض وجوه الإنفاق البديلة).
- مع أوضاع الجائحة العالمية 2020، وما يليها، ربما يفقد نقاش إبقاء الدعم أو تخفيضه نسبة من خضمّه، فسعر الوقود الأحفوري عالميا ينخفض كأحد آثار الجائحة، وربما يقلل المسافة بين الأسعار الحقيقية وما كانت وزارة المالية تنوي الوصول له عبر تخفيض الدعم. أيضا من الواضح أن الاعتماد على “أصدقاء السودان” في تخفيف الآثار الاقتصادية بات غير ذي ذكر. لكن، وبسبب أوضاع الجائحة كذلك فإن الغالب هو أن الحكومة ستنفّذ ما نَوَته من تخفيض الدعم، وفي فرصة قريبة، وستعدّ ذلك إحدى نجاحاتها في تنفيذ ما خططت له، في حين أنه لن يكون في الغالب نجاحا يستحق الاحتفال وربما تكون له عواقب سياسية أكبر من تبعاته الاقتصادية.
- لكن رغم كل شيء فإن تحميل وزارة المالية السودانية مسؤولية ما يجري الآن وما سيجري كاملا، ووفق قرار واحد وحصري، ليس من الإنصاف وليس من الحكمة. إذا افترضنا مستوى بسيطا ومعقولا من التعامل مع الشق المدني للحكومة الانتقالية على أنها لا تسعى لخراب السودان بيدها أو تذهب في تاريخ السودان كالحكومة التي ألقت بالسودان أكثر في غياهب الهلاك (مع استحقاقها للنقد في مواقفها وفي أدائها العام والخاص)، فإن إدارة الاقتصاد السوداني ما بعد الكيزان ووفق توقعات الجماهير الثائرة وضعٌ لا يُحسَد عليه أي وزير.
- من يقولون أن لا سبيل حاليا غير تخفيض الدعم، ولا حلول معقولة لا تتضمن خفض الدعم، يمارسون ذر الرماد في العيون، بحسن نية أو سوء نية، لأنه مهما كان الموقف من مسألة الدعم فهي مسألة ضمن نظام اقتصادي شامل يعاني من مشاكل أساسية في الإنتاج المستدام ومن الاستفادة من الموارد ومن خلق فائض معقول لتحريك الاقتصاد المحلي، وهذه مشاكل يخبرنا التاريخ مرارا أن حلّها ينبغي أن يكون محليا وينبغي أن يكون بالتخطيط متوسط وطويل الأمد.
No way out but through - في مجالات تنمية البلدان، عبر السنوات الماضية، تقول القاعدة العامة إن الاقتصاديين المتخصصين (أكاديميا ومهنيا) ليسوا هم غالبا من يقودون رؤى تنموية جريئة وناجحة، بل معظم قصص التنمية الكبيرة التي حصلت في العقود الأخيرة في العالم كانت مقودة بأصحاب رؤى وتطبيق جلّهم ليسوا اقتصاديين، وإنما كان الاقتصاديون ضمن الكادر الذي يطبق وينظم السياسات وربما يعالج بعض الثغرات هنا وهناك. لذلك أيضا فإن أي اقتصادي يزعم أن تخصصه في الاقتصاد يمنحه سلطة كبرى في فهم التنمية وكيفية إنجازها، ويوحي لمعارضيه بأنه يفهم ما لا يفهمون، إنما يضخّم من دوره وفهمه في الصورة الكبيرة بدون براهين واقعية.
ما الحل إذن؟
ليس هنالك حل جاهز يُلتَمَس عند العارفين، إنما هنالك مقاربات تصنع الحلول، فالحلول هنا يمكن وينبغي صناعتها صناعةً. هنالك مقاربات ورؤى ينبغي أن نتدارسها ثم نُخلِص لها، لأن أي رؤية مهما كانت ستواجه تحديات ومخاطر، فإذا كنّا سنقارع الندم في أقرب منحنى ونخسر إيماننا بالرؤية في أي مطب فسنظل نتخبّط ولن ننجز شيئا وسنخسر الكثير من الوقت والطاقة بدون حتى أن نستفيد الدروس والعبر استفادة كافية. وفي ذلك الدرب فإن التفكير التنموي هو الأساس، ثم الاقتصاد إحدى عرى التنمية، ثم مسألة الدعم السلعي إحدى مسائل الاقتصاد.
علينا أن نقرر أين نقف وإلى أين نتّجه ثم نعمل وفق ذلك ونصبر ونصابر عليه، فالتردد والتراجع أعداء للتنمية بشهادة التاريخ (فالبلدان النامية التي تذبذبت في مساراتها التنموية مع السنوات فقدت أكثر مما كسبت مقابل البلدان النامية الأخرى التي اختارت مسارا ثم لزمته لفترة وافية وإن لم يكن ذلك المسار نموذجيا وبدون عيوب).
مثلا، لدينا من التحليل الموضوعي لواقعنا ومن الحالات التاريخية (القريبة والبعيدة) ما يجعلنا نميل لأن النهضة الزراعية هي المسار الأولى والفعّال في رفع قدرات الاقتصاد السوداني من نواحي عدة وأساسية ومستدامة: استغلال الموارد المحلية، وتوسيع فرص العمل، وجني مكاسب الأمن الغذائي (وهي مكاسب اقتصادية وسياسية واجتماعية معا)، وزيادة فرص إضافة القيمة وتنويع الصناعات المحلية (فالصناعة ليست قطاعا قائما بذاته إذا لم يرتبط بموارد خام سابقة وبسلسلة قيمة لاحقة، مثل تحويلات الخام الزراعي والطبيعي، في الغذاء والمنسوجات والمواد المستعملة في صناعات أخرى، والآلات الزراعية والأسمدة والورق والأثاث، إلخ)، وإمكانية خلق فائض اقتصادي يمكن إعادة استثماره (على المستويات العام والخاص والتعاوني)، وبناء سوق محلي يحفز قدرات سلسلة القيمة المحلية وينعكس على محفزات وسعات قطاعات أخرى (مثل النقل والبنية التحتية والطاقة والاتصالات والإدارة البيئية) ما يؤثر بدوره على قطاعات أخرى (مثل المعمار وكمالياته ومثل إعادة توزيع الاستيطان لموازنة التباين التنموي بين الحضر والريف، ما يعيدنا للقضية التي لن يسعنا الهروب منها عاجلا أم آجلا وهي أولوية التنمية الريفية [ويمكن الرجوع لمقال “خطيئة العاصمة” للمزيد حول هذه النقطة])، وأخيرا وليس آخرا زيادة فرص التطور التكنولوجي وتوطين التكنولوجيا بوتيرة معقولة وقادرة على امتصاص المعرفة وترسيخها محليا مع رفع القدرات التكنولوجية والعلمية المحلية.
بطبيعة الحال لن يستطيع الاقتصاد والتخطيط الاقتصادي التركيز على قطاع واحد أو زاوية واحدة فحسب، لكن علينا التمييز الجاد بين الفروض والنوافل، ثم ترتيب النوافل حول الفروض. تقريبا لا يوجد مجتمع صناعي معاصر يمكن الاستفادة من تجربته ولم يكن القطاع الزراعي فرضا بالنسبة له ولفترة غير قصيرة، ولم تكن الصناعات الزراعية بوابته الكبرى – أو إحدى بواباته الكبرى – إلى الصناعات الأخرى بتنوّعها. وليس هذا كلاما جديدا، إذ قيل من قبل في مرات وأصعدة شتى، لكن الحديث عنه أكثر من العمل وفقه.
والحديث ذو شجون….