قصتي مع تنزانيا (سلسلة)

[نُشِرت هذه السلسلة في الوسائط، بين 6 و15 يوليو 2017، ثم نُِشرت آخر حلقة في 10 أكتوبر 2018]

الكثير من الأصدقاء والأهل والمعارف يسألوني: تنزانيا دي قصتك معاها شنو؟ (استفسارا وتعجبا وفضولا في نفس الوقت). طيب، ممكن نحكيها.

بدأت قصتي مع تنزانيا بدايات العام 2013. لكن بوادر العلاقة بدأت قبل ذلك ببضعة سنوات.

اهتمامي بإفريقيا عموما بدأ مع نهاية دراستي الثانوية. أحببت أن أتعرّف على ذلك الجانب من هوّيتي أكثر، خصوصا وأني لم أحظ بفرص كثيرة للتعامل مع أفارقة آخرين (بخلاف السودانيين أو المصريين) إلى ذلك الحين. أتذكر فقط شخصيات اثيوبية وارترية وتشادية، لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، مرّت على حياتي حتى ذلك الحين، كما أذكر شبابا من غرب افريقيا كانوا يزورون جدي في البيت ويجالسونه ويتعرّفون علينا أهل بيته قليلا، ويتبادلون معنا أحاديث صغيرة باللغة العربية الفصحى، إذ كانوا طلبة في المعهد الإسلامي الافريقي حيث اشتغل جدي كأستاذ لغة عربية هنالك لفترة. الجانب الافريقي من هويّتي كان عموما ليس محل ريبة عندي – مقارنة بعموم معارفي من محيطي الاجتماعي السوداني – ولكنه كان خاملا وفق ظروف حياتي وبيئتي حتى ذلك الوقت. بوب مارلي كان وما زال يطربني مذ كنت رضيعا (بدون مبالغة) حسب رواية والديّ، ولعله لذلك كنت أتماهى بسلاسة مع تعابيره عن الانتماء والطموح الافريقي. (ربما هذا باب من أبواب التأمل في تأثير الفنون على التشكيل النفسي للأطفال؟).

مرت سنون بعد الثانوية، تعلّمت فيها الكثير، بدرب القراءة والتلاقح مع العالم الواسع بالسفر والزمالات الجامعية والموسيقى، وأصبحتُ افريقي الميول بصورة غالبة ومستقرة. لكن حتى منتصف العقد الأول من الألفية الثانية ما كنتُ بعد بدأتُ التعامل الجاد مع قضايا الحاضر الافريقي وما يستدعيه من فهم ميراث التاريخ وتطلعات المستقبل.

مع بدايات تعرّفي على عالم الأستاذ محمود محمد طه، ودور ذلك العالم في إعادة صياغة رؤاي وأولوياتي وحتى شخصيتي (في رحلة فكرية وشعورية استحوذتني تماما لبضع سنوات)، اتضحت لي معالم علاقتي الواقعية بإفريقيا. برغم أن الأستاذ ليس معروفا عند الكثير من السودانيين بتوجهه الافريقاني – بل حتى لم ينعكس توجهه ذلك على معظم تلاميذه المنتمين للمركز السوداني – إلا أن توجهه ذلك كان من أول الإشارات التي لاحظتها في اطّلاعي على إرثه (ربما بسبب قرون استشعاري الأكثر حساسية للموضوع).

مقاربة الأستاذ متباينة على المستويين: الشخصي والعام. على المستوى الشخصي لم ينشغل بالتبشير بالمكوّن الثقافي الافريقي للسودانيين، إذ لم يكن ذلك ضمن قائمة أولوياته (برغم أنه كان صريحا في تماهيه الشخصي مع الجانب الافريقي من تكوينه، وفق مواقف ونصوص موثّقة عنه منذ بدايات تدشين حراكه وفق موجّهات الفكرة الجديدة بعد فترة السجن والخلوة). أما على المستوى العام فقد تعاطى الأستاذ مع الواقع السوداني وفق قاعدة عامة: أن السودان وطن متعدد ثقافيا وسُلاليّا، واللسان العربي والثقافة الإسلامية (بجانبها المتداخل مع الثقافة العربية) عموما لهما فيه موطن واسع ومتجذر بحيث صارا مكوّنا أساسيا – وليس الأوحد – في صفة المجتمع السوداني عموما، بتاريخه وحاضره وتطلعاته المستقبلية؛ لكن السودان كقُطر (أو بلد) إنما هو قطرٌ إفريقي، والشعب السوداني وفقا لذلك يوصف عموما بأنه شعب افريقي (كوصف يستوعب التنوّع داخله، أي انتماء للحالة الافريقية عموما وليس لهوية ثقافية أو سُلاليّة واحدة تسمى الهوية الافريقية). هذا التمييز يعني الكثير. على مستوى التاريخ الحديث، والتطلعات، ومسائل الشغل العام (أي التنمية وبناء الدولة، والعلاقات الاستراتيجية والتأثير والتأثّر في الميدان الدولي، سياسيا واقتصاديا وإعلاميا) يرى الأستاذ أن من الخير للسودان أن يتخذ موضعه كقطر افريقي، وفق رؤية تقرّ بذلك الموضع وتبني قراراتها وفقه. هذه النظرة لها تأثيرات كبيرة على مجالات الاقتصاد والسياسة والإعلام، ثم عموما على مجالات أخرى. مثلا، كان الأستاذ يرى أن التجربة الاشتراكية الافريقية عليها أن تكون مستقلة، تستفيد من نتاج الاشتراكية العالمية ثم تقوم بموضعته في السياق الافريقي تحليلا وتخطيطا وتنفيذا.

وفق ذلك التوجه الذي استقيته من مرجعيتي الفكرية وجدت نفسي بعد فترة أقرأ لمواليمو (المعلم) جوليوس كامباراقي نْيَريري، حول تجربة أوجاما وعموم التفكير والتخطيط الاشتراكي في الواقع الافريقي. قراءتي لنيريري قرّبتني ليس لطروحاته وحسب – والتي وجدت فيها مقاربات جميلة مع قضايا تناولها الأستاذ محمود في شأن الواقع السوداني، تحدثتُ عنها سابقا – بل قرّبتني لنموذج نيريري نفسه، ثم أيضا قرّبتني لجامعة دار السلام حين استيعابي لدورها المتميز في عقود ماضية كمنصة للدراسات والأفكار الافريقية الجديدة في نفس المجالات المذكورة آنفا… ثم بدأ فضولي تجاه تنزانيا.


قصتي مع تنزانيا (2)

في أواخر 2012 ساقتني الأقدار إلى أزانيا (جنوب افريقيا). كانت أول موطئ قدم لشخصنا الصلعة جنوب خط الاستواء ورابع بلد افريقية (مع اختلاف كبير من الثلاث اللائي قبلها، السودان ومصر وإثيوبيا). بعد 3 أشهر هنالك وجدت فرصة للانضمام لمنظمة مقرها بأروشا، تنزانيا، لأعمل ضمن مشروع بحث وتطوير تكنولوجي لبعض الآلات الزراعية البسيطة، فسعيت لها بناء على فضولي للتعرف على أرض نيريري أكثر وعلى رغبتي في أن أكون أكثر تواجدا فعليا في افريقيا، وكل ما كنتُ أعرفه عن أروشا وقتها هو أنها المكان الذي صدر فيه “بيان أروشا” (1967) بواسطة حزب تانو (TANU) – الحزب الذي قاد الحركة الوطنية في تنجانيكا نحو الاستقلال بقيادة نيريري – وهو البيان الذي رسم معالم التوجه الاشتراكي للدولة الفتية التي كانت حينها قد أصبحت “تنزانيا” (بعد اتحاد زانزبار معها وظهور الاسم الجديد الذي يمزج بين اسمي البلدين). البيان كتبه نيريري بنفسه، بنسختيه السواحيلية والانكليزية، ويُعتَبَر عموما من أهم بيانات المشاريع السياسية في حقبة افريقيا ما بعد الاستقلال، وإليه تُنسَب عموم معالم التجربة التنزانية حتى اليوم (بعد مرور عقود من وقوف العمل به). بدأت بتجميع معلومات عامة عن أروشا قبل سفري لها وعرفت أنها لعبت دورا محوريا في حراك مجتمع شرق افريقيا بعد الاستقلال كما صارت مقرا دائما لبعض المنظمات الإقليمية والدولية المتواجدة في المنطقة. علمت أيضا أنها رابع أو خامس مدينة تنزانية من حيث حجمها العام ودورها في شبكتي الاقتصاد والمواصلات في البلاد.

مع وصولي لها تعلّمت المزيد. من حيث الطبيعة فأروشا تتموقع في أرض مرتفعة خضراء تحيط بها أراضي زراعية، وهي أقرب المدن التنزانية لأهم المعالم الطبيعية في شرق افريقيا: جبل كلمنجارو (أعلى قمة في افريقيا وأقرب نقطة تغطيها الثلوج قريبة من خط الاستواء في الأرض) والمحميات الطبيعية الكبيرة (السرينقيتي وفوهة نقورونقورو وبحيرة مانيارا). مناخها أيضا معتدل طوال السنة رغم قربها من خط الاستواء (بسبب ارتفاعها الكبير نسبيا عن سطح البحر)، الأمر الذي يجعلها منطقة سياحية متميزة. برغم شهرتها ودورها المحوري عموما فأروشا ليست واسعة المساحة، والبنية التحتية بها متواضعة عموما وإيقاع الحياة فيها متوسط (حتى في مواسم السياحة). بالنسبة لسكّانها فهم يمثّلون التنوع التنزاني تمثيلا ممتازا: مزيج من المجموعات النيلية (وأشهرهم الماساي) والبانتو (مثل التشاقا) مع مجموعات كوشية (مثل الإراكو) ووافدين من بقية بقاع تنزانيا، بالإضافة لوجود كبير للآسيويين التنزانيين الذين استقروا هنالك منذ أجيال حقبة الاستعمار. نسبة المسيحيين والمسلمين فيها تكاد تكون متساوية (مع تنوّع طائفي داخل كل ديانة) مع تواجد لأهل الديانات المحلية ووجود واضح للهندوس والبهائيين. (كنت قد نشرت مقالا بالانكليزية، في جريدة “ذا سِتزن” السودانية، عن التنوع والتعايش الديني في تنزانيا كنموذج واقعي ومتميز، خصوصا وأن تاريخ “تنزانيا البر” ما بعد الاستقلال – أي بخلاف زانزبار – يخلو من أحداث العنف الطائفي والإثني والحروب الأهلية التي وصمت معظم بلدان افريقيا، حتى اليوم، الأمر الذي له علاقة بالقيادة الوطنية الأولى المتميزة التي حظيت بها تنزانيا – وقبلها تنجانيكا – ووضعت لبنات الدولة والأمة التنزانية الحديثة، وهو أمر سأحاول العودة له لاحقا).

وصلت لأروشا قبل منتصف 2013، بنيّة المكوث هناك لثلاثة أشهر. تم تمديد الأشهر بعد ذلك لستة، وفي تلك الفترة تعرّفت على تنزانيا وأهلها وسافرت داخلها (ضمن العمل وضمن الوقت الخاص) ومع نهايتها كنتُ قد قررت وقدّمت أطروحة بحثي الميداني للدكتوراة لتكون في تنزانيا، بخصوص وكلاء التنمية التكنولوجية في المجتمعات النامية (مع التركيز على سياق تكنولوجيا الطاقة المتجددة والإنتاج الزراعي في الريف الافريقي). تركت تنزانيا لبعض الوقت، في سفرات متعددة حول المنطقة، ومع منتصف العام التالي استلمت خبر أن أطروحتي تمّ قبولها مع منحة مناسبة من مركز أبحاث في كندا، وعليه وجدت نفسي عائدا لتنزانيا في أواخر 2014، ثم بقيت بها معظم السنة التي تليها، ورأيت المزيد منها (خصوصا المناطق الريفية)، وقبل سفري منها كنتُ قد ضمنت العودة لها في العام القادم وفق بحث آخر قدّمت أطروحته وتمت الموافقة عليه. عدُت في منتصف 2016، وتحرّكت فقط بين دار السلام وأروشا هذه المرة، لكن معها كنتُ تقريبا قد بنيت ألفة مع البلد واقتصادها وقضاياها التنموية الأساسية (وكذلك السياسية) مع تكوين شبكة علاقات تمتد من المجتمعات المحلية إلى مراكز البحوث التكنولوجية وسياسات التنمية من القطاع العام، إلى شركات ومنظمات ابتكار ونشر الحلول التكنولوجية ودراسات التنمية المستدامة في عموم البلاد. حاولت تعلّم السواحيلية ببطء طيلة تلك الفترات، وبطبيعة الحال عملت شوية أصحاب وعُشرة.

مؤخرا عدتُ لتنزانيا مرة أخرى لمواصلة مشاريع مشابهة.

الطريف أني في الواقع، منذ قبل 2012، حاولتُ أن يكون بحثي الميداني في السودان، إذ كانت تلك خطتي منذ دخولي لبرنامج الدكتوراة قبل ذلك بعامين، لكن تم رفض أطروحتي البحثية لأسباب تتعلق بأوضاع السودان حينها، الأمر الذي أصابني بإحباط ويأس، فلم يعد أمامي خيار غير البحث عن بلد آخر، فتركت دراستي لمدة سنة حتى أستجمع أمري من جديد (ماديا ومعنويا). خلال تلك السنة فكّرت في عدة خيارات لكن حار بي الدليل؛ إلا أن جاءت مناسبة أروشا تلك، ثم كان الذي كان… يتبع…


قصتي مع تنزانيا (3)
مواليمو (المعلّم) نيريري

كان مثقفا متميزا، ورجل دولة متمكن، ومعلّما خلوقا، وسياسيا فاشلا.

رجل الدولة، أو امرؤ الدولة،* (statesperson) شخص صاحب مهارات ومعارف وأشغال محورية في العصر الحديث. صَنْعَته عملية بناء الدولة (هيكلها ومؤسساتها) وإدارة دفّتها نحو غايات كبرى. أما تعريف السياسي (politician) في هذه المقارنة فيمكن أن نقول إنه مقاول قوى (power broker) صنعته تشبيك وتنسيق مراكز ومصادر قوى متمايزة كيما تعمل نحو وجهة وأهداف مختارة. عليه فالسياسي يمكن أن يكون سياسيا جيّدا إذا كان يعمل نحو وجهة وأهداف طيبة، والعكس إذا كانت وجهته وأهدافه ذات مصالح ضيقة أو غير طيبة (وإن تظاهرت بأنها خلاف ذلك). في كلا الحالتين فإن السياسي يحتاج لأن يكون جيدا في التشبيك والتنسيق وإقناع مراكز قوى مختلفة لأن تدعمه وأن ذلك في مصلحتها عموما. لذلك فجوليوس كامباراقي نيريري، زعيم الحركة الوطنية التنزانية، ورئيس البلاد الأول، والمساهم الكبير في حركتي تصفية الاستعمار والأفروعمومية، لم يكن ذلك السياسي. لكن كان على التحقيق أحد أبرز رجال الدولة في القرن العشرين. هذا التمييز بين الصفتين ليس معمول به بصورة واسعة بطبيعة الحال، فالناس عموما تسمّي السياسيين ورجال الدولة بنفس الاسم: سياسيون فحسب. أعتقد أن هذا التمييز المقترح، أعلاه، مفيد في فهم مسائل مهمة. موش؟

كامباراقي نيريري (جوليوس اسمه التعميدي عبر الكنيسة الكاثوليكية) ابن زعيم إحدى القبائل الصغيرة قرب بحيرة نيانزا (فكتوريا) في تنزانيا. لم يساعده حجم قبيلته الصغير في وراثة سلطة (كما أنه لم يكن الابن الأكبر وبذلك لن يكون الزعيم بعد والده) لكن ساعده في الحصول على امتيازات تعليمية بين القلة من بني وطنه حينها، تحت الاستعمار البريطاني. بعد تخرجه من كلية ماكِريري في يوغندا، وممارسته للتدريس في مدارس تنزانيا.** حصل على منحة لدراسة عليا في جامعة أدنبرة، في الخمسينات من القرن المنصرم.*** في بريطانيا تعرّف أكثر على الاشتراكية الفابية (ومن رموزها روبرت أُوين، صاحب فكرة التعاونيات الإنتاجية) والتي أثّرت في منحى تفكيره الاشتراكي الذي تبلور لاحقا في نسختة المتميزة من “الاشتراكية الافريقية” (وهي نسخة متميّزة عن بقية المنتمين لتلك المدرسة لأن نيريري وضع أسسا تحليلية وتطبيقية عمليّة لها، الأمر الذي دفع والتر رودني لأن يكتب دفاعا عنها وسط زملائه الماركسيين ويصفها بأنها نسخة افريقية من الاشتراكية العلمية). بدأ الانخراط في بوادر الحركة الوطنية عموما منذ سنوات دراسته في كلية ماكِريري ثم تصاعد انخراطه فيها وأهّلته قدراته الفكرية والتنظيمية للصعود تدريجيا نحو زعامتها. بجانب السياسة والتعليم كانت له اهتمامات أدبية، فكان شاعرا متميزا بالسواحيلية (ما زالت أشعاره يتداولها التنزانيون وناطقو السواحيلية) كما ترجم مسرحّيتين من مسرحيات شكسبير إلى السواحيلية (والأجندة الوطنية من ذلك العمل الأدبي كانت أن اللغة السواحيلية قادرة على استيعاب أكثر نتاج الثقافات الأجنبية تعقيدا وجمالا). أيضا كان كاثوليكيا ملتزما (وسيرته توثّق لأنه حاول جادا بعد فترة من العمل العام أن يصبح قسّا كاثولوكيا ويعتزل السياسة ليتفرّع للعمل الكَنَسي، لكن تم إثناؤه عن ذلك) الأمر الذي يضيء أكثر التزامه الصارم في إطار الحكم ببناء وإدارة دولة علمانية ترعى حرية الأديان (مثلا، الرئيس الثاني لتنزانيا كان مسلما بتزكية نيريري، كما كان الكثير من أقرب معاونيه ورجال دولته من أديان ومذاهب تختلف عنه. ورغم أن التعايش الديني في تنزانيا ليس كاملا مكمّلا لكنه حقيقي ومعاش في المجتمع والدولة لدرجة يمكنها إذهال معظم شعوب وحكومات العالم الثالث، كما ذكرنا سابقا).

كان نيريري مؤمنا بأن الأمم الافريقية الخارجة من الاستعمار عليها مهمة اختراع أنظمة سياسية حديثة جديدة، تلائم وضعها الجديد ولكن لا تستنسخ التجربة الأوروبية بل فقط تستفيد منها كما تستفيد من تراثها الافريقي المحلي ثم تأتي بصيغة جديدة وأصيلة.

أرى أنه لو كان نيريري سياسيا ناجحا – أي مقاول قوى – لما كان استطاع التركيز على صناعة دولة افريقية حديثة وبناء أمة متسقة معها. ميراث نيريري اليوم أن تنزانيا (خصوصا تنزانيا البر، أي باستثناء زانزبار) من الدول الحديثة القليلة جدا التي لم تحصل فيها أي أحداث عنف طائفي أو إثني منذ الاستقلال، وأن شعبها كذلك ينظر لنفسه عموما كشعب واحد (هوية واحدة) برغم التنوعات داخل تلك الهوية الواحدة وبعض النزاعات غير الحادة بينها (وذلك طموح معظم بلدان العالم الثالث اليوم)، وأن الدولة التنزانية فعلا دولة ذات هيكل ومؤسسات مستدامة ومناسبة لها، بل هيكلها ذلك نموذج تعلّم منه أفارقة آخرون الكثير (برغم مشاكل الفساد التي هزت أركان الدولة كثيرا بعد نيريري، وكانت بوادرها قد بدأت في عهده على مستوى موظفي الدولة من المستويات الثالثة، إذ كانت هنالك قوانين صارمة، سمّاها نيريري “شروط القيادة”، تحول عمليا دون قدرة قيادات الدولة في المستويات الأولى والثانية من الانخراط في أعمال فساد).هذه إنجازات واضحة بالنسبة لمن يأتي لتنزانيا من بلاد تعاني من فقدان هذه الميزات (مثل كاتب هذا المقال). تحدثتُ عن تلك الإنجازات كثيرا مع أصدقائي من التنزانيين (الباحثين والمهنيين والمواطنين الذين عرفتهم في الحياة العامة) وفي الغالب يلاحظون هذا الأمر حين أسرده لهم. من المؤكد أن تنزانيا ما زالت بحاجة لتغييرات كثيرة وعمل كثير، لكن من الواضح أيضا أن نيريري وضع بلاده في المقطورة الصحيحة وقطع بها شوطا، ثم ترجّل من الحكم بسماحة وزهد من نفسه (لم يواجه إجبارا أو ضغوطا ذات بال، وكان ما زال قويا ومؤثرا وقادرا على ممارسة مهامه بفعالية حين ترجّل من الحكم)، الأمر الذي ضمن له مكانة محلية وإقليمية ودولية كبيرة حتى اليوم.

أيضا لكونه لم يكن دكتاتورا، لم يكن مخيفا. نيريري كان وما زال مصدر إلهام وتوافق للأمة التنزانية لأنه تحلّى بصفات “المعلّم” الخلوق على طول الخط. لم يبن ثروة من منصبه، كما أبعدَ أفراد أسرته عن أروقة السياسة، وكان يبدأ بنفسه رسميا في حالات إصلاح الميزانية (أو ما يسمى بالتقشف أحيانا). ولعل هذا أهم شيء في ميراث نيريري: أنه كان نموذجا واضحا وعمليا للقيادة النزيهة في أعلى مناصب السلطة. هذه الميزة بالذات غطّت على أخطائه المحسوبة في الحكم – والتي اعترف ببعضها بنفسه في عمليات نقد ذاتي كما لم يقر بأخرى – وجعلت سيرته عموما مصدر احترام حتى وسط معارضيه (وأعرف منهم عددا غير قليل في تنزانيا). بذلك فحين لم يستطع نيريري النجاح في جميع مشاريعه المحلية والإقليمية، ولم يستطع أن ينجو من النقد والمعارضة الجادة طيلة عمره، استطاع النجاح في الحيازة على الاحترام الشخصي من أغلبية هؤلاء. بعض معارضي نيريري وناقديه حتى الآن يذكرون، في معرض نقده مقولته بخصوص الدستور التنزاني إنه “يعطيني صلاحيات دكتاتور”، ثم يردفون “حمدا لله أنه لم يكن دكتاتورا”. المقصد النقدي هنا أن سمت نيريري النزيه والبسيط كانت العاصم الوحيد من أن تتحول تنزانيا لنظام حكم دكتاتوري، في حين كان يجب أن يكون ذلك العاصم مؤسسيا وليس شخصيا.

ما فشل فيه نيريري كثير، فقد كانت طموحاته السياسية عالية، لكن حين أخفق عن التحليق إلى جميع طموحاته هبط في منطقة أعلى بوضوح من نقطة انطلاقه؛ أي أنه ترك وراءه نجاحات وتأسيسات معتبرة. مساهمة تنزانيا في عهده مثلا تتعدّى الدولة للإقليم والقارة، ثم للمساهمة المشهودة عالميا ضمن مجهودات حركة عدم الانحياز والتي كان أحد أعلامها. ساهمت تنزانيا مساهمة موثّقة وعملية في عمليات تحرير بلدان افريقية أخرى، مثل موزمبيق وزيمبابوي وأزانيا (جنوب افريقيا)، ودعمت قضية حركات التحرير عموما، كما كانت تنزانيا من أولى الدول الصارمة في مقاطعتها لنظام الأبارتيد حينها ومحاربته سياسيا على الصعيد العالمي وفق مبدأ أخلاقي واضح والتصريح بدعمها المباشر للحركات الأزانية المناهضة له (في ذلك الوقت لم تكن الدول الغربية مقاطعة لجنوب افريقيا، كما ان معظم دول العالم الثالث لم تكن مقاطعة لها، لكن تنزانيا بقيادة نيريري قاطعتها بصورة صارمة وقادت حملة سياسية عالمية ناجحة ضدها).

أيضا في إطار الحركة الأفروعمومية فقد كان نيريري أحد وجهين لعملة الوحدة الافريقية، إذ كان كوامي نكروما الوجه الآخر. في حين كان نيريري يرى أن مسار الوحدة الافريقية سيبدأ أولا بالتكاملات الفدرالية والكونفدرالية الإقليمية (ولذلك سعى حثيثا لتكوين وحدة فدرالية في شرق أفريقيا) حتى يشتد عودها ومراسها على الحكم والتعاون الفدرالي ثم تنتقل لتكوين اتحادات مشابهة بين الأقاليم في القارة، كان نكروما يرى أن الأفضل هو بناء وحدة سياسية واقتصادية حالا وفي أسرع وقت. الصديقان نكروما ونيريري اصطدما كثيرا في المحافل الإفريقية بخصوص هاتين المقاربتين المتباينتين لهدف واحد. اتضح لاحقا أن كليهما كان محقا في جوانب ومخطئا في جوانب (وهذا موضوع آخر).

من أمثلة فشل نيريري أنه لم يستطع إقناع الكثير من مراكز القوى التنزانية برؤيته (رؤية أوجاما) بصورة تجعلهم يتبنّونها بصدق. رؤية أوجاما كانت تحتاج تضحيات من جانب القيادة، تتلخص في التنازل الكبير عن امتيازات السلطة والثروة (لنسميها “انتحار طبقي” كما سمّاها أملكار كابرال) ولم يكن معظم السياسيين التنزانيين مستعدين لتقديم تلك التضحيات مثلما فعل نيريري على المستوى الشخصي (وآخرين قلة من القيادات التي كانت حوله، مثل إدوارد سوكويني). لو كان نيريري سياسيا ناجحا لقام بعمليات تشبيك وتنسيق تجعله يبني تأييدا وسط مراكز القوى يتجاوز شخصه ليصل إلى رؤيته. لكن نيريري كان نموذجا طاردا للقيادات ولم يكن مغريا، ببساطة لأنه نموذج للقيادي بدون امتيازات سلطة أو ثروة. “طيب الفايدة شنو؟” كان لسان حال معظم السياسيين والفاعلين المؤثرين التنزانيين (خصوصا بعد البقاء في السلطة لفترة مقدّرة وتنامي المطامع الشخصية في تلك الفترة مع عدم القدرة على تلبيتها تحت قوانين “شروط القيادة” التي وضعها نيريري). أيضا لكونه لم يكن سياسيا ناجحا رفض أن يكون دكتاتورا في حين كانت لديه الفرصة أن يكون كذلك. رفض نيريري أن يفرض رؤية أوجاما بسلطته السياسية على التنزانيين في حين فرض زعماء آخرون رؤيتهم التنموية المشابهة لعناصر أوجاما بالسلطة على شعوبهم (مثل مهاتير محمد في ماليزيا ولي كوان يو في سنغافورة، إلى نماذج سياسات إصلاح الأراضي وتنظيم الأرياف في الاتحاد السوفيتي والصين وكوبا) وكانت النتائج عموما لاحقا إيجابية من نواحي تنموية كثيرة (مع الاعتراف بالتضحيات الكبيرة التي احتاجتها بعض تلك التجارب). نيريري حاول استعمال السلطة الجبرية لبعض الوقت، بعد سنوات من السياسة اللينة، ولكن لم يستطع المواصلة في ذلك فأقلع عنه مبكرا. لم تنجح أوجاما لأن نيريري لم يصر عليها بعناد، ولم يستعمل زمام السلطة الذي كان في يده بإصرار. بطبيعة الحال لا أقول إن نيريري كان مخطئا في رفضه استعمال السلطة الجبرية، فتلك قضية أكثر تعقيدا، لكن أقول إن أسباب فشل أوجاما ليست بالضرورة فيها نفسها كرؤية.

في أواخر أيامه كان ما يزال مؤمنا برؤية أوجاما، ويرى أنها قادرة على أن تتعلم من دروس الماضي لتتطوّر وتتفعّل وتحقق نجاحات تنمية ملموسة لتنزانيا، وللشعوب الأخرى التي يشبه اقتصادها الحالة التنزانية، لكنه كان مدركا أنه لم يعد قادرا على الدفاع عن أوجاما لوحده في خضم من الرفض والبدائل المغرية نظريا. كان يأمل أن تعود أوجاما من جديد، بعد أن يتعلّم الناس الدرس، ولكن بدون أن يقول هو المزيد. كان يقول “لم يعد بوسعي سوى الهمس بخصوص أوجاما”. كان أيضا يقول، في أواخر خطاباته العامة في الحكم، “الشعب التنزاني يريد التغيير؛ إذا لم يحصل عليه مع CCM (الحزب الحاكم) سيسعى له بدونه.”

توفي في العام 1999، أي بعد قرابة 15 سنة من تنحيه الطوعي عن الرئاسة. وفي العام 2009، قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بمنح نيريري وساما خاصا به كرائد عالمي في قضايا العدالة الاجتماعية.

——–
*كلمة “رجل” في بعض خصائصها لا تشير للذكَر بالضرورة، إنما الشخص البالغ المسؤول. هل يمكن إعادة تشكيل دلالات بعض الكلمات في اللغة العربية، عبر الثقافة (والثقافة أداة معروفة من أدوات صناعة محمول اللغة ودلالاتها)، لتصبح دلالاتها تشير للجنسين مع الإبقاء على جوهرها؟ مثلا، كلمة “الرجولة” يمكن أن تعني صفات المسؤولية ورجاحة الذهن عموما. اقتراح جانبي.
**وذلك أصل لقبه “مواليمو” حيث كان معلّم أحياء وتاريخ، وحين لمع نجمه في المجال السياسي الواسع كزعيم حركة وطنية كان يقول اني ما زلت “مواليمو” نفسه، تواضعا، وهو عموما لقب المعلّمين في تنزانيا، ثم تحوّر اللقب وسط التنزانيين بخصوص نيريري ليشار به إليه كـ”معلّم” للأمة.
*** لست متأكدا من مادة دراسته العليا في جامعة أدنبره، لكن بعض المصادر تقول إنه ضمن مجالي الاقتصاد والتاريخ.


قصتي مع تنزانيا (4)

أقول لأصدقائي إن دار السلام شبيهة الخرطوم بدون الكيزان. أما زانزبار فلا شبيه لها.

أرضها المسطحة، مبانيها وشوارعها القديمة، قاعة الصداقة، المناخ الحار (مع إضافة المزيد من الرطوبة والأمطار)، زحمة المواصلات، أشكال الناس فيها، السكة حديد بين الحياة والمموت، كلها تذكّرني بالخرطوم ناقص الكيزان.

أقول ناقص الكيزان لأن دار السلام فيها براح حياة (مثل بقية مدن تنزانيا). مثلا، لا رقيب من الدولة على خصوصيات الإناث، وبالتالي مثلا تجد جميع صنوف الملبس عندهن في الأماكن العامة والخاصة: الملبس الافرنجي والملبس المحلي السواحيلي والملبس العربي والملبس الهندي والتأثر الإسلامي (والإسلاموي). أيضا يجد المرء أن الإناث التنزانيات عموما أكثر تصالحا مع أجسادهن: معظمهن يبقين على شعورهن وألوان بشرتهن كما هي، ويتجمّلن وفق ما يناسب الطبيعة الخام التي ورثنها. أيضا تتنوع ملابس الذكور وفق نفس التنويعة المذكورة أعلاه، وفي غالب الأحوال لا يبلغ التضييق على الإناث في الأماكن العامة والخاصة مبلغ أن تصبح المعاناة جزءً من من حياتهن اليومية في دار السلام، بل تجدهن في كافة ضروب حياة المدينة، في الأعمال الخاصة والقطاع العام والشوارع والمنتزهات والمطاعم، إلخ، تتنوع مزاجاتهن بتنوّع ظروفهن الخاصة وليس بقهر السلطة والمجتمع. أيضا تتنوع خيارات الناس في التعبير والنشاط الفني والإمتاعي، وكذلك الديني (والتنزانيون عموما شعب مرتبط بالدين)، بدون القلق من رقابة الدولة أو تعصّب المجتمع. من المؤكد أن دار السلام لم تبرؤ من مسائل كثيرة في هذه الأصعدة، بيد أن الفرق بينها وبين الخرطوم في مستوياتها يمكن ردّه لأن السودان يحكمه الكيزان منذ ربع قرن.

لكن، ما زالت دار السلام مدينة في بلاد نامية، بها تحديات تنمية كبيرة وواضحة. ما زالت بنيتها التحتية تترك الكثير للخيال والطموحات، وما زالت مواصلاتها صعبة المراس، وما زالت الكهرباء تتقطع بصورة روتينية، وما زالت هنالك مناظر قبيحة من تباينات الفقر الشديد والثروة الكبيرة (وهي تباينات كانت محصورة جدا في عهد نيريري ثم انفجرت بعده). ما زال بها مصانع وبنايات تشي بأمور خطيرة داخلها، ثم سرعان ما يزول الفضول بمعرفة أنها فارغة نوعيا أو أقل إنتاجا بكثير مما تبدو عليه أو ما كان يرجى منها. ما زالت هنالك مراكز بحوث وتطوير في أطراف المدينة، تحمل أسماء مغرية لأمثالي، لكن حين استكشفها أكثر يرتد إليَ طرفي حسيرا. هنالك طاقة تنموية كامنة، لكنها لم تتجاوز مرحلة الكمون بعد.. مثل الخرطوم بدون الكيزان.

أما زانزبار، فهي القصة الأخرى لاختلاط المجموعات العربية والزنجية في شروط افريقيا، وانضمام الخواجات والآسيويين للمزيج في حقبة الاستعمار. هنالك تشابهات بين ما جرى في زانزبار والساحل الشرقي وما جرى في منطقة النيل الكبير (أي ما بعد المُقرَن)، لكن النتيجة جاءت مختلفة في القصتين. مثلا، في زانزبار والساحل الشرقي لافريقيا، انتصرت اللغة المحلية على العربية، فتبنى العرب اللغة المحلية بدل أن يزيحوها، وذلك برغم أن الإسلام انتشر في المنطقة كلها بصورة كبيرة وواضحة (فزانزبار عمليا وإحصائيا بلد مسلمين أكثر من السودان، لكن الإسلام عندهم باللغة السواحيلية). والسواحيلية لغة من لغات البانتو (وهي أكبر عائلة لغات في افريقيا، تنتسب لأكبر مجموعة إثنية في افريقيا وتمتد في معظم أطرافها ووسطها). ذلك يعني أن نظامها الصرفي ونظامها النحوي ونظامها الصوتي، كلها أنظمة بانتو. أما قاموسها فذلك الذي يصيب البعض بالحيرة، إذ هو قاموس مليء بالكلمات العربية، والكلمات الانكليزية، والكلمات الألمانية والبرتغالية، بجانب الكلمات من اللغات المحلية المتنوعة (بانتو وغير بانتو). ذلك طبعا تأثير الثقافات الكثيرة التي استوطنت منطقة الساحل الشرقي وحكمته، وكذلك تأثير الإسلام (فحتى التنزانيين المسيحيين وغيرهم يستعملون العبارات الإسلامية في شعائرهم وتعابيرهم الدينية باعتبارها لغة سواحيلية؛ وهي كذلك).

معمار زانزبار أيضا متميز عن أي مكان في العالم، وفقا للخليط المذكور أعلاه، لكن أكبر تأثير معماري على زانزبار يأتي من جهة كنتُ أعرفها جيدا قبل أن أزور زانزبار، ولذلك تذكرتها جدا بمجرد وصولي لها: أكثر منطقة في العالم تشبه مدينة زانزبار في المعمار هي مطرح، في مسقط القديمة، سلطنة عمان. البيوت والأزقة، والأبواب والتصاميم الداخلية، والقصور (خصوصا ما يسمى ببيت العجائب)، كلها أرجعتني لمطرح، مع نكهة متميّزة وجديدة بسبب اختلافات الثقافة واللغة والناس. طبعا لهذا الشبب أسبابه إذ كانت زانزبار مستعمرة عمانية لفترة في تاريخها الحديث.


قصتي مع تنزانيا (5)

انشغلتُ كثيرا في الفترة الماضية عن مواصلة الحلقات هذه. سألني البعض عن تكملتها، لكن ليس عندي حاليا رقم معيّن لهذه الحلقات، لذلك فقد تتوقف عند أي حلقة. كان من الممكن أن تكون قد وقفت من الحلقة الرابعة، لكن أنا ورّطت نفسي بإضافة عبارة “يتبع” في آخرها.

قبل فترة كتبت بوستا محتواه الآتي (بلغة الكلام السودانية):
“الواحد بيحاول يكون معقول في تعاملاته على أرض الواقع الافريقي (في الحالة دي تنزانيا) من أجل أن تمضي الأمور نحو مساق أقصى الممكن، مدام المساق الثوري حاليا غير متاح موضوعيا لعدة أسباب. بنصادم لكن مصادمات موزونة معظم الوقت. برضو عشان ما ندخّل أطراف تانية في خط النار وهم غير مستعدين. لكن… الاستعمار في افريقيا ما زال حيّا يرزق. فقط تغيّرت نغماته. والمرة دي أنا ألوم أهلي الأفارقة أكثر (إلا الثابتين والثابتات منهم)، لأنه ليس من طبايع الأشياء أن تتغير الأوضاع بالهداوة والتعاون السلس بين طرفي النزاع. صحيح هنالك عواقب للمصادمة لكن الخيار الثاني العام هو بقاء الأوضاع البائسة الباهتة كما هي.”

لا أنوي الحديث بالتفصيل الآن، فالتجربة التي أنا بصددها لم تنته بعد، وما زالت أحداثها تتشكل كل يوم، وبالتالي لا أستطيع سردها والتوقف في منتصفها بدون عبرة مفهومة.

عموما، حتى اليوم، أجد نفسي أميل للعمل مع المنظمات والجهود المحلية في تنزانيا وشرق افريقيا، ودعمها ما استطعت لذلك سبيلا من أي موقع ممكن، خصوصا حين تكون رؤاها وقياداتها محلية أيضا. السبب في ذلك ليس عاطفيا عموما – مع احترامي للعاطفة الإنسانية النبيلة؛ وشرف لا ندعيه وتهمة لا ننكرها، وبتاع – إنما لأن العمل وفق هذه الأطر هو الأكثر استدامة على المدى البعيد… مدى بناء المستقبل الذي يستحق أن نتطلّع له. هذا حكمٌ موضوعي مدعوم بالبراهين. العمل في المنظمات والشركات الأجنبية متيسّر عموما لأصحاب المؤهلات العليا من جهات أجنبية، إذا تحلّى المرء ببعض “المرونة” في مواقفه التنموية وركّز على أولويات كسب العيش وترك “المناكفة” مع أرباب النعمة. هذا من حيث التنظير؛ أما من حيث التطبيق فأنا ممكن ألوم أمي على ميراث “قوة الراس”. موش ذنبي.

(غايتو، الله يهديني)

ما أحب قوله إن تنزانيا، بكل ما فيها من تنوّع إيجابيات وسلبيات، وآمال وإحباطات، وموارد ثروة (وقوة) ومناطق ضعف، هي ميدان حرب باردة. وفي حقب الحرب الباردة يتشوش المنظار عند كثيرين، فلا يعرفون أين يصطفّون، كما أن اصطفافاتهم لا تؤثر على حياتهم اليومية بشكل مباشر (أي على محيطهم الاجتماعي وروتين حياتهم اليومية والتزاماتهم الشخصية) إنما تتراكم تأثيراتها بشكل تدريجي وغير ملحوظ، إلى أن يأتي يومٌ وينظر فيه أحدنا أمام المرآة، فيعرف انعكاسه أو لا يعرفه. هذا وتنزانيا ليست حالة خاصة في هذا الوصف (وإن كانت هنالك بعض التفاصيل الخاصة، مثلما لكل سياق خصوصياته).

المهم: كما قالت السيدة جينيل مونيه:
إنها حرب باردة؛ هل تعرف ما تحاربُ لأجله؟
إنها حرب باردة؛ من الأفضل أن تعرف ما تحاربُ لأجله.

——-
لمن جيت أخطط للبحث الميداني بتاع الدكتوراة، قبل بضعة سنوات، من كندا، كان السودان خياري الأول. خياري التاني كان السودان ومنطقة السهل الافريقي عموما. ما قدرت ألقى دعم من الجامعة أو من جهة أخرى متاحة، بسبب العقوبات الامريكية والوضع الأمني هناك، حسب ما قيل لي. اقترحت انه الجامعة تديني التصريح للشغل الميداني هناك بس وأنا بتصرّف بخصوص التمويل. آخد فترة أشتغل وأوفّر ما يكفي لستة أشهر على الأقل من العمل الميداني في المنطقة، أو حاجة بالشكل ده. برضو قالوا لي الجامعة ما حتقبل.

بعد داك حاولت جنوب افريقيا، لأسباب أسريّة في ذلك الوقت، بس لم يحالف الحظ. وبرضو أخدت فترة انقطاع رسمية من برنامج الدكتوراة وبديت افتّش شغل في جنوب افريقيا والمنطقة المجاورة. في الفترة دي لقيت فرصة عمل مؤقت في تنزانيا، في مجالي. الراتب كان ضعيف جدا لكن النوع الشغل نفسه كان مناسب معاي. قدّمت وشالوني وسافرت لأروشا، اللي كانت أراضي جديدة تماما بالنسبة لي، ما بعرف عنّها إلا بعض الحاجات الاتعلّمتها من قراءات لنيريري.

أثناء ما أنا في تنزانيا، بعد كذا شهر من الشغل هناك وتعرّفي اكثر على المكان والحاجات، قلت طيب أجرّب أقدّم أطروحة البحث الميداني في تنزانيا. يمكن تضرب المرة دي. رجعت سجّلت في البرنامج وقدّمت. خلال شوية شهور جاتني الإجابة: الاطروحة مقبولة والتمويل موجود. لمن الخبر جاني كنت أنا خلاص سبت تنزانيا وما عارف إذا حارجع ليها تاني أو لا. رجعت ليها تاني بعد شوية شهور فعلا، وقضيت فيها قريب السنة.

لمّن سبتها تاني، وقبل ما أسيبها بيومين تقريبا، كنت أولريدي عارف اني حارجع ليها تاني السنة البعديها، عشان استلمت كونتراكت شغل بتاع سنة في كندا حيخلّيني أرجع تنزانيا كذا شهر تبع الشغل. لمّن رجعت تاني بقيت كل مرة أخش اكتر في مشاريع رجعات متواليات، واحتمالات قعاد اطول.. وهكذا… لغاية ما بقت تنزانيا جزء من حياتي.

ما عارف حياتي كانت حتكون كيف في السنوات الماضية لو كان لقيت قبول وتمويل لمشروعي البحثي في السودان


قصتي مع تنزانيا (6)

في آخر حلقة من هذه السلسلة، في يوليو 2017، قلت:
“ما أحب قوله إن تنزانيا، بكل ما فيها من تنوّع إيجابيات وسلبيات، وآمال وإحباطات، وموارد ثروة (وقوة) ومناطق ضعف، هي ميدان حرب باردة. وفي حقب الحرب الباردة يتشوش المنظار عند كثيرين، فلا يعرفون أين يصطفّون، كما أن اصطفافاتهم لا تؤثر على حياتهم اليومية بشكل مباشر (أي على محيطهم الاجتماعي وروتين حياتهم اليومية والتزاماتهم الشخصية) إنما تتراكم تأثيراتها بشكل تدريجي وغير ملحوظ، إلى أن يأتي يومٌ وينظر فيه أحدنا أمام المرآة، فيعرف انعكاسه أو لا يعرفه. هذا وتنزانيا ليست حالة خاصة في هذا الوصف (وإن كانت هنالك بعض التفاصيل الخاصة، مثلما لكل سياق خصوصياته).
المهم: كما قالت السيدة جينيل مونيه:
إنها حرب باردة؛ هل تعرف ما تحاربُ لأجله؟
إنها حرب باردة؛ من الأفضل أن تعرف ما تحاربُ لأجله..”

قبل بضعة أيام، وصلتني أخبار، ذكّرتني بالأيام التي كتبتُ فيها الكلمات أعلاه، ولم أكن لأصرّح مباشرة بما كان يجري لي وقتها، ولا حتى الآن، لكن يمكنني التقليل من الكلام التجريدي (مع أن الكلام التجريدي هو العبرة والخلاصة الأهم، في الحقيقة).

بمجرد نهاية دراستي، كنت قد وقّعت عقد عمل مع شركة تعمل في شرق افريقيا، وهي شركة بدأت وترعرت في تنزانيا، ثم تمددت لبلدان أخرى في المنطقة، لكنها مسجّلة رسميا كشركة أوروبية تعمل في مجال الطاقة المتجددة، وتقدّم خدمات طاقة لقطاع مقدّر من الناس في القرى وضواحي الحضر. عقد العمل كان يبدو مناسبا لشخص مثلي، مهتم بالبحث والتطوير التكنولوجي في المنطقة، مع بعض الخبرة بها، وخصوصا في مجال الطاقة المتجددة. باختصار، معظم من يعرفني ويعرف اهتماماتي كان ليحسب أني توفقت في الحصول على هذه الوظيفة.

بالنسبة لي، كانت عندي محاذير منذ البداية، لكن كان هنالك ما يكفي من الأسباب التي تجعلني أقرر خوض التجربة، خصوصا وأن فترة الأشهر الأولى إنما هي فترة تجريب–أجرّبهم ويجرّبوني. وتقريبا بعد شهر من العمل، والمراقبة، وصلت لخلاصات قوية بخصوص هذه التجربة، لكني قررت أن أصبر قليلا للتأكد أكثر. بعد شهرين، أرسلت رسالة للإدارة، أتقدم فيها باستقالتي. وقد كان هنالك ظن عند بعض منسوبي الإدارة أني أردت المفاوضة بخصوص مرتّبي ومنصبي، وأن تقديم الاستقالة إنما هو تلويح بورقة قوية. بعد اجتماع واحد مع إحدى ممثلي الإدارة، بطلب منهم، تأكدوا أني لم آت للمفاوضة، وأني اتخذت قراري منذ وقت إرسال تلك الرسالة. ظنّوا بعد ذلك أني ربما وجدت وظيفة أفضل في مكان آخر، فأكّدت لهم أن ذلك غير صحيح، وأني لا أنوي الذهاب لأي مكان آخر حاليا، بل سأبقى وأعمل متطوعا مع منظمة تنزانية محلية أعرفها ويعرفونها.

لم ألتفت بعدها عموما.. فقد كانت خلاصتي أن هنالك حرب باردة نخوض غمارها، كما ذكرت أعلاه، وأن على المرء أن يتّخذ موقعه في تلك الحرب ويكون واضحا مع نفسه ومع الآخرين. أيضا رغم المظهر البديع فقد كنت أرى أن هذه سفينة في طريقها للغرق في الحقيقة، معنويا وربّما حسّيا كذلك، فلا هي بديعة فعلا ولا مستدامة حقا، ولن تنجو إلا بتحوّلات داخلية هائلة، يمنةً أو يُسرة، لم تكن عندي سلطة لأن أكون فاعلا فيها. لكن بطبيعة الحال فإن المرء أحيانا قد لا يملك غير أن يتساءل لاحقا: هل اتخذتُ القرار الصحيح حقا؟ هل كان لا بد أن أكون “دراميّا” بذلك الشكل؟ ألم تكن في النهاية وظيفة معقولة ومجال عمل معقول، وليست فيه جوانب تخدش أخلاقيات العمل الأساسية؟ بلى!

قبل فترة بسيطة، تأكدت من أني اتخذت القرار الصحيح وقتها. بلغتني الأخبار أن الكثير مما توقّعت حدوثه حدث فعلا، وخلال نفس الفترة التي خمّنتها. ولو لم أكن قد اتخذت ذلك القرار وقتها لكنتُ اليوم خسرتُ الكثير من الزمن والاستثمار الخاطئ للطاقة.

أما الحرب الباردة فما تزال قائمة، والمرء لا يعرف أين يكون موقعه غدا، ويخشى ما يخشى. ليت لنا مثل رباطة جأش مانقاليسو سوبوكوي، حين قال لمن حوله من زملاء القضية في أزانيا (مترجمة بالمعنى)، “راقبوا تحركاتنا… فإذا شاهدتم فينا أي بوادر “تحلي بالمعقولية” أو “سعة الأفق”، من العيار الدبلوماسي، وإذا سمعتمونا نتحدث على منوال “الخبرة العملية ساعدتنا على الاعتدال في رؤانا”، فتبرؤوا منّا واسحبوا منّا الثقة.” ليت لنا رباطة جأش وصمامة كهذه، والله أعلم. على العموم تبقى القاعدة الأخلاقية الكبيرة “حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا”، تبقى قائمة وتنطبق على شتى مواقف هذه الحياة.

أضف تعليق