المأساة الأمريكية: نموذج لتناقضات المجتمع الحديث

(1)
الشعب الأمريكي فيه مجموعات وافراد كثيرون شجعان وأصحاب قيم. الحركة العالمية المعادية للامبريالية دائما تميّز بين الشعب الامريكي والسلطات الامريكية، وذلك احتراما للقيمة الكبيرة التي قدّمتها نضالات الجماعات والافراد الأمريكان رفاق القضايا الإنسانية، ومن الواضح أنها أنتجت إرثا كبيرا، أدبيّا ونضاليا، يغرف منه الناس حتى اليوم.

لكن هذا التمييز بين الشعوب والحكومات ليس الغرض منه تبرئة كل الشعوب، فالشعب الأمريكي مليء بمن تزكم عنصريّتهم وفظاظتهم وجشعهم الأنوف، وإن ظهروا أحيانا بمظاهر أنيقة ومتحضرة ولبقة (وأحيانا قيادية ونجوم إعلامية). ما ينبغي فهمه فقط عموما أن أمريكا “عالم مصغّر” (microcosm) للمجتمعات الحديثة الموجودة قمة هرم الواقع الامبريالي المعاصر، حيث تكمن تناقضات هائلة وحيث تتبلور السلطة في يد كيانات قليلة الضمير وماهرة في تلميع صورتها أمام العالم.

(2)
من أبرز فقرات التاريخ الامريكي التي تظهر ذلك المستوى من التناقضات القاتلة، حرب فيتنام. واقع الأمر أن القوات المسلحة الامريكية في جميع العالم ما زالت تفكّر وتتصرف بطريقة حرب فيتنام (فليست هنالك قوّات تجاريها حتى اليوم في مقدار الدمار والقتل، والتعذيب، والاستهانة بأرواح المدنيين حول العالم). في حرب فيتنام تم إلقاء حوالي 7 ملايين طن من القنابل على تلك البلد صغيرة الرقعة، وذلك أكبر من حجم كل القنابل التي تم إلقاؤها على أوروبا وآسيا في الحرب العالمية الثانية–بمعدّل 500 رطل من القنابل لكل مواطن فيتنامي واحد؛ ذلك بالإضافة لكمية السموم التي تم نشرها في البلاد وقتلت الطبيعة والبشر وأثّرت في المواليد. ذلك بالإضافة للفظائع الأخرى (التي سنوردها أدناه). حرب فيتنام كانت جريمة ضد الإنسانية متكاملة الأركان، ثم بعد ذلك انهزم الامريكان وخرجوا على العالم يؤلفون القصص والأفلام الهوليوودية عن بطولاتهم هنالك، وكذلك صاروا يروّجون لجنودهم هناك كأبطال حرب ومحاربين نبلاء. كل هذا بدون أن نتحدث عن قنبلتي هيروشيما وناقازاكي اللتا أزهقتا أرواح مئات الآلاف من المدنيين العزّل مرة واحدة. ماكينة الهجمنة (hegemony) الأمريكية ليست جيّدة وقوية فحسب، إنما هي كذلك لا تعرف الحياء إطلاقا، فلا تتورّع عن تصوير جهات أخرى على أنها هي الشر بعينه وأن أمريكا تحمي العالم من الشرور، ولا يتورّعون عن شيطنة الحكومات المنتخبة في بلدانها (مثل حكومة أليندي) وتجميل الشموليين الذين انتزعوا السلطة منها بالباطل والقهر، ما داموا يخدمون مصالحها الإمبريالية. 

واقع الأمر أن الإحصائيات والأرقام تتفاوت، حول كمية ضحايا القتل (المباشر وعبر القنابل الملقاة)، والتعذيب، والتجويع، وتجارة السلاح، والدمار البيئي، التي تراكمها الولايات المتحدة سنويّا. أحد أسباب ذلك التفاوت تحايل الإدارات الأمريكية على قوانينها نفسها المعنية بتوفير معلومات صحيحة وكاملة للرأي العام حول هذه الأمور. لكن الشيء المتفق عليه عموما أن سلطات الولايات المتحدة، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، تتصدر قوائم مسبّبي القتل والدمار والبؤس حول العالم. هذا ليس فقط تاريخ حديث، إنما هو واقع ماثل الآن.

(3)
قبل أن يصبح جون كيري سياسيا محترفا في أروقة الإدارة الأمريكية، ودبلوماسيا لبقا، يجيد عدة لغات (الفرنسية والألمانية والإيطالية بجانب الانكليزية، وهو أمر نادر جدا وسط السياسيين الأمريكان) ويُعتبر سكرتير المهام الصعبة دوليا ضمن طاقم حكومة أوباما، كان كيري ضابطا في القوات البحرية شارك في حرب فيتنام بين العامين 1966 و1970، وخرج منها مصابا وبأوسمة. كيري ذاك كان مختلفا جدا عن كيري الآن.

قبل انتهاء الحرب كان كيري، ومجموعة من الضباط والجنود معه، قد عقدوا أمرهم على مخاطبة الرأي العام الأمريكي ضد الحكومة الأمريكية في قرارها خوض حرب فيتنام وقرار الاستمرار فيها. خلال العامين اللذين تليا عودة كيري لأمريكا ساهم في تكوين مجموعة سميت بقدامى المحاربين ضد الحرب (Veterans Against the War) وكانت هذه المجموعة مسؤولة عن تسبيب إحراج كبير لإدارة نيكسون حيث اتهمتها بأشياء كثيرة أمام الرأي العام الأمريكي، أهمها أن إدارة القوات المسلحة الأمريكية، تحت الحكومة الأمريكية، سمحت وشجعت جرائم حرب في فيتنام، وأن نفس تلك الحكومة ترفض أن تعترف علنا أنها أخطأت في قرار خوض حرب فيتنام كما ترفض أن تعترف بخسارتها للحرب، وكل ذلك على حساب المزيد من الأمريكان الذين يموتون هناك ويتعرضون لإصابات مدى الحياة كما يواجهون ظروفا وتهديدات قاسية هناك لإرضاء كبرياء نيكسون الذي يرفض أن يكون أول رئيس أمريكي يخسر حربا (كما عبّر عن ذلك بلسانه ذات مرة).

في شهادته أمام لجنة كوّنها بعض أعضاء الكونقرس الأمريكي، كان الضابط الصغير حينها، جون كيري، شجاعا وصادقا ومتحدثا متمكنا جدا، بحيث أدهش الإعلام الأمريكي وقتها وحقق نقاط نصر كبيرة لحركة مقاومة الحرب داخل أمريكا.

لكن إحدى أهم مقاطع شهادة كيري، وأبلغها وقعا، هي حديثه عن جرائم الحرب التي ارتكبها الجنود الأمريكان في فيتنام. أورد كيري تفاصيل بشعة تعد وصمة عار في تاريخ أمريكا إلى اليوم، إذ شهد ضابط في قواتها المسلحة أن البلاد التي تزعم أنها رائدة الحرية وحقوق الإنسان في العالم الحديث ارتكب جنودها جرائم الاغتصاب، وقطع الأيادي، وقطع الرؤوس، وقطع أعضاء أخرى، والقيام بعمليات تعذيب من شاكلة إلصاق أسلاك كهربائية بالأعضاء التناسلية وصعقها، وإطلاق النار عشوائيا على مدنيين غير مسلحين، وإحراق قرى بطريقة جنكيز خان، والاستمتاع بقتل الماشية والكلاب لمجرد الاستمتاع، وتسميم مخزونات أطعمة، وغيرها من الانتهاكات البغيضة في المناطق الريفية لجنوب فيتنام، بالإضافة لاستخدام القوة الغاشمة عن طريق إلقاء القنابل التي لا تميّز بين مقاتلين أو مدنيين أو نساء أو أطفال أو شيوخ. كل ذلك بجانب تفشي العنصرية ضد السود والأقليات داخل الجيش الأمريكي نفسه. في تلك الجلسة أطلق كيري مصطلح “جندي الشتاء” (Winter Soldier) وهو المصطلح الذي سميت به التحقيقات الداخلية التي قام بها المحاربون القدامي ضد الحرب، انتقادا لسجل العساكر الأمريكان في فيتنام وانتقادا للإدارة العسكرية الأمريكية وراء الحرب. لاحقا صار ذلك المصطلح مشهورا في الذاكرة الجمعية الأمريكية عن طريق أفلام وشخصيات بنفس المسمى.

الشيء اللافت للنظر من تلك اللحظات المهمة في تاريخ النزاع الداخلي الأمريكي حول حرب فيتنام ليس جون كيري نفسه، وليس تحقيقات جندي الشتاء. الشيء اللافت للنظر هو أن هنالك إرث قديم، وليس ظاهرة جديدة، في السلوك الأمريكي: عنجهية إمبراطورية تجاه بقية العالم (خصوصا شعوبه الأضعف) مع تناقض رهيب بين خطابها الأخلاقي الذي تبيعه للعالم وممارساتها الفظيعة على أرض الواقع. هناك مستوى من النفاق الأمريكي في وجه العالم منذ ذلك الزمان يثير الحيرة: بلاد تتربع على رأس العالم بسطوة عسكرية واقتصادية فتاكة مع لسان معسول ودعاوي أخلاقية مغرورة جدا. نحن جميعا كالفئران الرهائن عند قط نصّب نفسه القاضي دوما برغم أنه كثيرا ما يكون الخصم أيضا. ومن أكبر أمثلة تعاستنا في هذا الكوكب أن الامبراطورية الأمريكية التي كانت إحدى الأسباب الكبيرة في اندلاع حركات الهوس الديني وتمكن الحكومات الشمولية في العالم الثالث – ونحن نعاني من هؤلاء الاثنين ما نعاني – هي نفسها الامبراطورية الأمريكية التي علينا اليوم أن نسلّم أنها صاحبة راية القيادة في خوض الحرب ضد تلك الحركات المهووسة وتلك الأنظمة الطاغوتية. نحن بؤساء العالم بين خيارين أحلاهما علقم. ولا عزاء.

(4)
من الخطورة بمكان، اتخاذ الولايات المتحدة نموذجا للمجتمع الحديث الذي نصبو له في بلداننا، في المجتمعات النامية والدول الهشة (وهي الدول المأزومة بمستويات عالية من الفقر وضعف الاستقرار والعنف). هذه الخطورة لا يستهان بها، لأنها تعبّر عن عجزٍ كبير في الخيال والبوصلة الأخلاقية معا.

ليس هنالك أي معيار إنساني أو استراتيجي محترم يقول إن الطموحات البشرية تقف على عتبة “الحلم الأمريكي”. من يقول بهذا، ولو بخجل، يتورّط في ابتذال الأمور وسوء التقدير، وضعف المعلومة، بشكل ينبغي أن لا يؤهله للتبشير بعالم جديد للشعوب المضطهدة. لكن بما أننا في عصر المتناقضات الصارخة فيبدو أن معظم روّاد قضايا حقوق الإنسان والتحولات الديمقراطية في العالم اليوم يستلهمون نموذج الإمبراطورية الامريكية، علنيّا أو ضمنيّا. وفي الواقع يصعب لوم هؤلاء بصورة شخصية، لأننا في عهد بلبلة عجيبة وضياع موازين كبير، رغم كثرة المعلومات وإمكانيات الحصول عليها، من مصادر متنوّعة، بصورة لا سابق لها في التاريخ. بل كثير من هؤلاء أناس طيّبون عموما، وأصدقاء، لا يقصدون أن يؤذوا أحدا، بل يريدون أن يساعدوا…. لكننا نعلم أن النوايا الحسنة ليست معيارا كافيا في هذه القضايا الجادة.

ولا ينخدعَن أحد بمزاعم حرية التعبير والحركة في الامبراطورية الأمريكية. يقول عدد من ناقدي التاريخ الامريكي أن من يطّلع على ذلك التاريخ، وتجلياته في الواقع، بما يتجاوز السطح، يستطيع أن يرى أن للحرية والحركة سقوف صارمة في الولايات المتحدة؛ وهي سقوف تجسّد نفسها بفصاحة في واقعها. مثلا، وضّحت دراسة من جامعة برنستون، نُشِرت في 2014، أن التأثير على السياسات العامة في الولايات المتحدة منحصر لدى الصفوة الاقتصادية ومجموعات المصالح التابعة للأعمال (وهؤلاء يمثلون حوالي 10% من مجمل المواطنين) بينما بقية المواطنين ليس لديهم أي تأثير يُذكر، بغض النظر عن قضايا السياسات العامة ومستوى شعبيتها (أو نسبة الدعم لها بين المواطنين)، أي أن مستوى الدعم الشعبي للقضية ليس لديه أي أثر ملحوظ على احتمالية أن تمرر السلطات التشريعية القضايا إلى قوانين أو أحكام رسمية. ما تخلص له الدراسة، باختصار، وبدون تذويق لغوي، هو دعم الخلاصة القائلة إن الولايات المتحدة ليست ديمقراطية، وفق التعريف العام للديمقراطية (حكم الشعب بواسطة الشعب لأجل الشعب) وإنما هي نظام سياسي السلطة الملموسة فيه للصفوة الاقتصادية التي تشكّل أقلية إحصائية واضحة–المسمى الآخر لهذا النظام هو الأليغاركية، أو حكم الأقلية.

لكن ذلك الواقع لم يمنع الكثير من منسوبي الشعب الامريكي ذوي الضمير الحي من تحدي تلك السقوف، ومواجهة النتائج. ونحن حين نراهم يتحدون تلك السقوف نخطئ حين ننسب الفضل في ذلك لمساحة الحرية في المجتمع الامريكي، فهؤلاء يتحدّون السلطات الامريكية كما تتحدى بقية الشعوب الثائرة حول العالم سقوف التعبير المفروضة عليها من حكوماتها. فقط الولايات المتحدة تتصرف مع معارضيها الداخليين بطرق متعددة تليق بامبراطورية كبيرة وأخطبوطية القدرات مثلها، وليس بالضرورة بنفس طرق تصرف السلطات الغاشمة الأخرى في البلدان الأخرى. على سبيل المثال لا الحصر، يكفي أن نعرف أن هذه البلد لديها أكبر معدّل مساجين بين مواطنيها في العالم قاطبة – أكثر من جميع الدول الأخرى غير الديمقراطية – وأن نظامها العدلي مليء بحالات الظلم والعنصرية وتقييد المهددين للنظام بصور شتى.

أضف تعليق