فرز الكيمان: في كتاب “حلّاج السودان”

في الفترة الأخيرة، زاد حضور المدرسة الجمهورية (أو الفكرة الجمهورية) في المجال العام العام بصورة واسعة، لعدة ملابسات. في المضمار العام صارت أقلام متنوعة تكتب عنها، تجادلها أو تبني عليها، وتنوّعت مصادر تلك الأقلام، فشملت بلدان عديدة، ناطقة بالعربية وغير ناطقة بها، ذات أغلبية مسلمة وغير ذلك. وفي المضمار الأكاديمي توالت الدراسات المتنوعة حولها وفيها، وبنفس التنوّع المذكور. وتلاميذ تلك المدرسة أيضا زاد نشاطهم مؤخرا وصاروا يخرجون المؤلفات المتنوعة، المستقية منها والبانية عليها. وتعددت مع ذلك المحافل الفكرية وقنوات الرأي العام المتباينة التي تناولت المدرسة وصاحبها من زاويا شتى. تنوّعت أشكال تناولها، من نقد موضوعي وفلسفي، ومراجعات تاريخية، إلى إشادات وحوارات متناغمة معها، إلى اتهامات صريحة في توجهات المدرسة وصاحبها، إلى مقارنات عامة ومفصّلة بين محتوياتها ومحتويات مدارس ومواقف أخرى، إلى مهاجمات فظة لا يعنيها أي منطق أو ترجيح مقنع. وليس كلّ من هذا جديد بالنسبة للمدرسة الجمهورية، فقد شهدته من قبل، على فترات متباينة. لكن كل فترة جديدة تضيف المزيد إلى المكتبة المتعلقة بها، من شتى الصنوف.

في هذا المكتوب، سنتناول بإيجاز بعض النقاط التي أثارها الكاتب يوسف سمرين، في كتابه “حلاج السودان: أطروحات محمود محمد طه والحزب الجمهوري بعين النقد” (2020، بيروت: دار اللؤلؤة)، وكان مسبقا قد ذكرها في صفحته على فيسبوك، منذ النصف الأول من العام 2020. رأينا التعقيب على تلك النقاط للعرض العام ولفائدة كل من يلفت الأمر انتباهه. اطلعنا على الكتاب نفسه مؤخرا فقط، بصورة كافية، لكن تابعنا بعض محتوياته منذ النصف الأول من السنة الماضية، ومنذ ذلك الوقت ولاعتبارات قضايا ذات أولوية وسياق غير مواتي لم نقل شيئا علنيا بخصوصه (رغم أن هنالك ملاحظات مكتوبة منذ ذلك الوقت). إذ كنّا منذ ذلك الوقت أمام أولويات أهم وأخطر، ونحاول قدر الإمكان أن لا نكون مقصّرين ناحيتها.

عموما، الخلاصة العامة لنقدنا للكتاب تساق في نقطتين:

  1. لو كان الكاتب حرص على استقصاء معلوماته، خاصة التواريخ الموثقة لبعض كتابات الاستاذ محمود وأيضا بعض المسائل التي استنتجها استعجالا من سطور، ولو كان كمطّلع على بعض الإنتاج الفكري العالمي أحسن التمييز بين لغة العصر وبين المفاهيم التي تتداولها اللغة (حيث المفاهيم قديمة واللغة متجددة، وحيث أن تجدد اللغة لا يعني إعادة احتكار المفاهيم)، ولو كان مثلا أدرك تبعات أن هيقل كفيلسوف إنما تميّز بعمله على تخوم الفلسفة والعرفان بحيث أنه أدخل بعض مفاهيم العرفان في الفلسفة، لكن تلك المفاهيم أقدم منه بكثير وهي تراث صوفي عالمي غير محتكر (وينتسب له الكثيرون، حتى المبرزون من داخله)، ولو كان مثلا اعتبر بعض التصحيحات المعلوماتية التي بلغته قبل نشر الكتاب واستدركها في نصّه قبل النشر…. لو كان حرص على تلك الأشياء، لنقص حجم كتابه عموما من 145 صفحة إلى حوالي 115 صفحة، ولكان ذلك أفقده الكثير من المحتوى الباعث للإثارة مما تتداوله الوسائط الاجتماعية. 
  2. لو كان الكاتب كذلك، عبر قراءة التاريخ، استوعب أن الحركات الجديدة، الجذرية، قليلة المنتمين وغير ذات السلطة، كثيرا ما تستعمل الخطاب الواثق، المصادم، في وجه من يمتلكون الخطاب السائد وغالب سلطة المجتمع (والدولة)، وأن هذا يسمى خطابا ثوريا، وليس إقصائيا،  لأن الإقصاء يظهر في محتوى البديل المقترح وفي الممارسة، لا في ثقة صاحب الخطاب بخطابه، وأن هنالك فعلا نماذج كثيرة في التاريخ لوجود الخطاب المعارض الذي يقرأ خطابك الجديد عليه بنيّة تحطيمه فحسب، وتجريده من أي فضيلة، بسبب مواقف مسبقة منه…. لو كان استوعب ذلك، لنقص حجم كتابه مجددا من 115 صفحة إلى حوالي 100 صفحة أو أقل، وأيضا كان سيفقد كثيرا مما تبقى من المحتوى الباعث للإثارة والتداول بين القراء الذين يعجبهم ذلك المحتوى. وبالتالي كان سيكون لدينا كتيّب، ومعظم محتوى ذلك الكتيّب مكرّر، في فحواه، من دفوعات سابقة وردت من الجيل السابق من المعارضين للمدرسة الجمهورية (خاصة المعارضين الساخطين، وخاصة السلفيّة) وتم التعقيب عليها في وقتها. 

لكن، إجمالا، يمكن القول إن الكتاب المعني نموذج للعبارة الشهيرة لمحمد أحمد المهدي، السوداني  (وهي – أي العبارة – مثال جيّد للمفهوم الصوفي القديم في لغة جديدة): “المزايا في طي البلايا، والمنن في طي المحن”. ذلك لأن الكتاب ساعد في تمايز الصفوف، وسط القراء الشباب في السودان، وهو الأمر الذي تحدثنا عنه من قبل (أي تمايز الصفوف)، إذ أن الحراك الاجتماعي الثوري في مجتمع يحتاج لأن يكون هنالك “فرز كيمان” بين من يريدون تغييرات مساحيقية لا تمس أسس علاقات السلطة والخطاب السائد وبين من يريدون تغييرات جذرية في تلك الأمور. هذا التمايز حين يحصل فإنه يصطحب بعض الانفجارات، وبعض الموجات التي يهوّلها من لا يميّزون حركة التاريخ في مداه البعيد، لكنها في الواقع جزء من عملية التمايز التي تهيئ للتغيير الجذري عن طريق تنقية صفوفه من المخالطين وأنصاف الثوريين. كتاب “حلاج السودان” ساهم في هذا الأمر بصورة محدودة، لكن مفيدة عموما. ندلف لبعض التفصيل في التعقيب على الكتاب:

……..

[الورقة كاملة – 15 صفحة – متوفرة بالضغط هنا]

أضف تعليق