بين المثقف العام والمؤثر

عدد بسيط من الشباب – ذكورا وإناثا – الذين أتابع كتاباتهم وأقوالهم ومداخلاتهم في منصة فيسبوك ومجمل “منصات التواصل الاجتماعي” أو السوشلميديا (كمكان حصري لكتاباتهم ومداخلاتهم)، أعتبر تفكيرهم مرتّبا ولغتهم سلسة في التعبير عن المسائل التي فيها تعقيد؛ وعندهم أدوات المفكّر فعلا. هؤلاء من الذين أنتظر منهم أن يكتبوا كتابة مرتبة أو عروضا مرتّبة يوما ما – أوراق، كتب، مقالات/تدوينات، محاضرات مرتّبة في موضوعها، لقاءات أو وثائقيات، الخ – بمعنى توقي لأن أراهم يقدمون أفكارهم وخلاصة اطلاعهم بصورة أقرب لتوثيق وتأطير المعرفة وأبعد من الشفاهة العابرة أو محتوى السوشلميديا فحسب.

السوشلميديا كمنصة تعطيك جمهورا لحظيا (أي في اللحظة–لحظة النشر)، لكن ذاكرتها لحظية كذلك (او تكاد تكون). ومن أعراض ذلك أنك يمكن أن تجد أناسا يغيّرون رأيهم أو مواقفهم بين منشور (بوست) والآخر، أو على الأقل يتذبذبون بين موقف والآخر، ثم يجدون نفس التفاعل الجماهيري مع منشوراتهم في المنصة، فتبدو الأشياء لوهلة وكأنه “ما دام الجمهور متفاعلا فهنالك فائدة ويبدو أني أقول في شيء مسموع وهذا جيّد”. السوشلميديا يمكنها أن تكون مكان مناسبا للعصف الذهني (brainstorming) أحيانا، لكن ليس لتوثيق المعرفة وبناء اتجاهات وقرارات عليها، على مستوى المجتمع.

هنالك فرق بين المثقف العام (public intellectual) والمؤثر (influencer)؛ وصحيح أن هنالك مناطق تداخل بين الدائرتين، لكن أعتقد انها مشكلة عندما يكتفي المثقف العام بأدوات المؤثر، ذلك لأن المؤثر ظاهرة ‘سوشلميدياوية’ بينما المثقف ظاهرة فكرية-إنسانية. مشكلة الخلط بين الاثنين مشكلة تحتاج لمراجعة واهتمام؛ إذ أن المثقف العام هذا – الذي يكتفي بأدوات المؤثر – إما يكون غير مقدّر لأهمية أدوات المثقف العام وأدوات توثيق المعرفة أو يكون متكاسلا من استخدام أدوات المثقف العام الاستخدام الصحيح.

[ونعم، للمثقف عدة تعريفات، متباينة ومتداخلة، حسب نقطة الانطلاق الفكرية أو الفلسفية. لكن وباختصار لعدة مدارس وتعريفات ممكن نقول أنه للمثقف تعريفين عامين: تعريف وظيفي وتعريف موضوعي. التعريف الوظيفي يتعلق بدور المثقف في المجتمع (وفق ملاحظة أنطونيو قرامشي الحصيفة)، والتعريف الموضوعي يتعلق بالصفات التي تجعل المرء يسمى مثقفا. التعريف الوظيفي تعريف عام، وعروته ‘صنعة توجيه الرأي العام’، مع اعتبار ما تقتضيه من معارف وأدوات ومهارات متنوعة ومتفاوتة. والتعريف الموضوعي للمثقف هو ‘من هذبّته المعرفة و/أو هذّبه الفكر’ بمعنى انعكس ذلك في سلوكه وتمدّنه (أو أخلاقه واختيار مواقفه)، أو كما قال الأستاذ محمود محمد طه. التعريف الموضوعي في اللغة العربية مستمد من ‘الثقاف’ وهي أداة تُستعمل لتقويم الرماح وتسويتها، فالتقويم نقيض الاعوجاج والتهذيب نقيض الشوب والالتباس؛ والتعريف الوظيفي أقرب لمفهوم الـ intellectual باللغة الانكليزية. والمثقف النموذجي عندنا عادة من يستوفي التعريفين الوظيفي والموضوعي معا (والاستيفاء هنا نسبي بطبيعة الحال، إذ فيه حد أدنى من الاستيفاء ثم يتصاعد الاستيفاء إلى مستويات عليا لا نعرف لها سقفا)، أو كما قال عبدالله بولا هو ‘حامل المعرفة النقدية المُحرِّرة’…. وهذا طبعا موضوع آخر بشجونه الأخرى.]

مثلا، من غير المناسب أن نتخيّل أن الأفكار النيّرة التي ينبغي أن تساهم في بناء المجتمع الجديد في السودان – بخصوص نظمنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى دوائرنا العلمية والبحثية، إلخ – سنقوم بتلقيطها من منشورات فيسبوك لاحقا، أو سوف تتخلّق حول تلك الأفكار مجموعات وحركات متبنية لها أو متأثرة بها في حين أن مراجعها الأساسية إنما هي منشورات متوزعة في منصات السوشلميديا. هذا تأطير ضعيف للمعرفة ولتراكم التفكير البنّاء. على العموم فهنالك أناس ربما تكون قدراتهم الفكرية ومؤهلاتهم المعرفية أقل من الشباب الذين تحدثت عنهم في الفقرة الأولى من هذا المكتوب، عاليه، وقلت إني اعتبرهم مفكرين؛ هنالك أناس ربما تكون قدراتهم أقل من هؤلاء بكثير لكنهم سيكونون أكثر تأثيرا في مسار المجتمع، حاضرا ومستقبلا، بسبب استعمالهم الأفضل لأدوات المثقف العام وأدوات توثيق وتأطير المعرفة.

أقول هذا الكلام مع غض النظر عن اتفاقي أو اختلافي مع جملة ما يقوله ويكتبه الشباب المقصودين عاليه – وطبعا تجدوني مُمسكا عن ذكر أسماء، رغم أن بعضهم أصدقاء سيفهمون حديثي كدفعة ومناصرة تشجيعية وبعضهم ‘أعدقاء(؟)’ لن يقبلوا أن يُوجّه لهم حديث كهذا – وبدون أن أساوي بينهم في القيمة الفكرية عندي أو تقييمي لجدوى وأهمية مساهماتهم. عندي استثمار فيهم كمساهمين في تغذية الرأي العام والثقافة والمعرفة العامة (و’العام’ هنا أعني به نقيض الخاص/الحصري، فهو عام حتى إن كان نابعا من تخصص فهو ليس بـكهنوت أو سر، إنما رأي ومعرفة وثقافة مبذولة في ميدان عام من ميادين المجتمع). بل إنك لتجد بعض هؤلاء الشباب لا يستكثرون بذل الجهد في استعمال وتجويد أدوات توثيق المعرفة في ما يخص تطورهم الأكاديمي/المهني، لكنهم يستكثرونها في ما يخص مساهماتهم في رفد الرأي العام السوداني. وطبعا فمن الممكن جدا أن يكون لدى بعضهم تفلسف أو رأي يبرّرون ويبرّرن به طريقتهم هذه (وقد رأيت بعضهم حاول بذلك ذلك التبرير فعلا، ووجدت محاولاتهم في هذه المسألة ضعيفة). في رأيي هذه مشكلة يرجع أصلها إما إلى ضعف الاهتمام بتأطير المعرفة العامة – ربما بتصورات قاصرة أحيانا حول أهمية ما يقومون به، وربما تضخيمية أحيانا لدور السوشلميديا، وربما بدوافع نرجسية أحيانا أخرى – أو إلى الكسل (الخفي أو العلني) من المجهود المطلوب في ذلك السبيل.

كتابة منشور في المنصات سريعة التفاعل، أو عمل محتوى صوتمرئي سريع، ليسا كتقديم منتج فكري/معرفي ‘مَقَعَّد’ (أي مُعد إعدادا مرتّبا ومنهجيا، من اللهجة السودانية)؛ ونكون غافلين لو تظاهرنا بأنه لا فرق أو زعمنا أن الأمور تمضي في اتجاه أنه لا فرق، ذلك بينما حركة ضروب المعرفة والفكر في العالم حولنا واضحة في هذا الشأن. ليس في هذا القول أي إنكار لقيمة استعمالنا لمنصات السوشلميديا وما نكتبه فيه، فكما قلنا عاليه فإن الفرق بين التعبيرين يمكن أن يكون قريبا، أحيانا، للفرق بين ‘مسودة العصف الذهني’ وبين ‘المخطوطة المنشورة’.

وبينما حصرت معظم حديثي أعلاه على الشباب في الدوائر السودانية والمهتمة بالسودان، إلا أنه من غير المستبعد (كما هو واضح) انطباق مجمل الحديث على فئات من غير الدوائر السودانية، وبلغات وثقافات متنوعة…. وللحديث شجون.


[أدناه، منشور ذو صلة بالمقال أعلاه، نُشر في الوسائط في 12 سبتمبر 2023]

حتى وقت قريب، في عمر الناس والمجتمع، وبصورة كوكبية، كان العمل التنويري، الحشدي والتنظيمي، وسط الناس، يستند على أدوات العمل العام التي تخاطب اهتمامات الناس وعقولهم في مساحات تحتاج بعض الوقت بطبيعة الحال. الحركات التي كانت تسعى لتنوير الناس أو بث رسائل وسطهم، لأغراض بناء وعي أو لأغراض حشد، أو حتى لأغراض القيام بأنشطة اجتماعية دورية أو استثنائية، كانت تستعمل أدوات الخطاب العام، مثل: 

  • الكتابة العامة ونشرها في مقالات سيارة أو مناشير مطبوعة وتوزيعها على الناس المستهدفين أو عامة الناس؛ 
  • التحضير لمخاطبة عامة أو ركن نقاش أو جلسة في أحد أماكن التجمع المعروفة، والإعلان عنها قبل فترة من أجل أن يحضر الناس (وهؤلاء الذين يحضرون، منهم العمّال ومنهم سكان الحي أو البلدة، أو أعضاء الجمعية أو المجموعة المستقصدة بالخطاب العام، إلخ)؛
  • التحضير، كذلك، لندوة عامة، في مكان عام، يتم التحضير لها كذلك ويحضرها المهتمون بمسائل فكرية أو سياسية أو ثقافية معيّنة، وكذلك يحضره آخرون من مجمل الناس، نساء ورجال، بشتى ضروب حياتهم؛ 
  • الكتابة الأكثر تطويلا، كنشر كتب أو مجموعة مقالات، أو ورقة مخصصة في موضوع ما، وتتوفّر للقرّاء الذين ليسوا بالضرورة أهل تعليم عالي ولكن يتعاطون القراءة، ويتبادلون المادة المقروءة، سواء أكان ذلك في إطار تنظيمي حصري أو في إطار حركي معيّن (مثل الحركات النقابية والحركات النسائية، أو المساحات الطلابية، أو الحركات الاجتماعية الأخرى مثل حركات مناهضة العنصرية، إلخ). وأحيانا يقوم بعض الأصدقاء أو مجموعة من الجيران بعمل نادي قراءة؛ 
  • أحيانا، يضاف لتلك الأدوات مناسبات بعينها، مثل المعارض الثقافية العامة، ومثل الوجبات العامة (مثل وجبة الإفطار التي أدارها حزب الفهود السود في الولايات المتحدة). وأحيانا تكون هنالك مناسبات دورية، مثل الاجتماعات الأسبوعية أو الشهرية، في وقت ومكان معتاد ومعروف، لدرجة أن بعض تلك الاجتماعات يمكن أن تستضيف ما يمكن أن نسميه دورات تدريبية، بحيث تكون هنالك مواضيع المترابطة يتم تناولها وراء بعضها وعبر متحدثين ومتحدثات، ومنسقين ومنسقات، منشغلين بالعمل مع المجتمعات مباشرة؛ و
  • كانت هنالك كذلك مساحات للراديو، وقنوات التلفزيون المحلي، للحديث في بعض اللقاءات والبرامج، حديثا قد يكون دوريا أو مرة واحدة، وقد يكون لساعة أو لساعتين، لكنه حديث يتطلب الاستماع لفترة زمنية معتبرة. وأحيانا يحصل تحلّق حول هذه البرامج ويناقش الناس المادة المعروضة في أجواء وجلسات محلية. وفي احيان أخرى كان يتم وضع تسجيلات في كاسيتات، تحوم ويتبادلها الناس ويستمعون لها عدة مرات ويمررونها لغيرهم، إلخ….

كل هذه الأشكال من العمل التنويري والثقافي كانت، ولا زالت في بعض صنوفها، تقوم في مستوى المجتمعات – بتنوع مستوياتها التنموية والتعليمية، وبتعديلات ومواكبات نسبية حسب السياق – وتخاطب أعضاء المجتمعات باحترام لعقولهم ولزمنهم، وكان وما زال يحضرها أناس غير متفرغين للعمل العام أو القراءة فحسب أو الاستماع لتسجيلات أو اجتماعات طويلة؛ ليسوا متفرغين بل هم مشغولون بمعاشهم وبأشياء أخرى، لكن هنالك مساحة لتوظيف وقت لتناول هذه المسائل التي تهم الناس وتهتم بهم، عندما تنتشر ثقافة مجتمعية تعطي هذه الأشياء قيمتها وأهميتها المباشرة للناس. فهذه المزاوجة بين أنشطة متعددة خلال اليوم وخلال الأسبوع، وخلال الشهر، ليست شيئا غير طبيعي، أو امتياز حصري، بل هو معطى من معطيات وجودنا في هذا المجتمع، في هذا السياق التاريخي الكوكبي. 

عالم الانترنت – الأسافير – جاء مؤخرا، ليصبح مساحة إضافية يمكن للبعض أن يستعملها كشكل من أشكال التواصل في العمل العام.  طبعا لم تكن الأسافير منذ البداية متوفرة كمنصة عامة تسع أعدادا كبيرا، بل كان الحصول على الانترنت نفسه رفاهية متاحة لشرائح محدودة من المجتمع، وعندما ظهرت النشرات الالكترونية، ومساحات الكتابة المباشرة كالتدوينات ومنابر النقاش، أخذت سنوات حتى تصبح مساحات عامة فعلا مع توسع الحصول على الانترنت. ثم جاءت لاحقا منصات التواصل الاجتماعي (السوشلميديا) والتي يستعملها الناس كوسائل تداول وتنوير عام مثلما يستعملونها كوسائل تواصل اجتماعي وترفيهي بحت، أو حتى كقنوات بزنس. ومن حسنات هذه القنوات (أو مشاكلها، حسب زاوية نظرك) أن الانخراط مع الناس في أنشطة تنويرية وثقافية محدودة يمكن أن يتم بينما أنت بعيد جدا من تلك المجتمعات جغرافيا، بل وحتى اقتصاديا وسياسيا.

بعد كل هذا التاريخ الواسع لوسائل ومسارات حراك التنوير العام، وبعد كل ما مضى من تاريخ تشكّل حركات اجتماعية وتحقيقها لأهداف كبيرة باستعمال الوسائل عاليه، وحتى الآن…. يجوا ناس حاليا يقولوا ليك انه البكتبوا مقالات باللغة المرتبة ديل صفويين، خصوصا البكتبوا مقالات ‘طويلة’، والبعملوا تسجيلات وتوثيقات ولقاءات تتجاوز العشرة دقايق ديل ما براعوا أن المواطن والمواطنة المتوسطين ما عندهم زمن للكلام الكتير ده وعاوزين كبسولات بس (ويا حبّذا لو امتلأت بالهزار والسخرية والبهارات دي) عشان سعة الانتباه ما بتستحمل؛ وكمان البقولوا ليك ان الحراك الاجتماعي الكبير وانتشار الوعي المستعد للتغيير بيجي عن طريق مخاطبة متصفحي السوشلميديا بالبضاعة البتنفع معاهم وتصل ليهم، موش بأدوات الصفوة المترفعة (نفس الأدوات المذكورة عاليه)…. ثم الحالقة، إنه يقولوا ليك انه الناس البعملوا اللايفات والكبسولات بتاعة البوستات الصغيرة دي (مع احترامنا لذوي الهمة والقضية منهم)، ديل هم محّركي الرأي العام الحقيقيين والقريبين للناس، أما أنت يا “مثقفاتي”، يا البتصرف زمن في تقعيد المسائل وعرضها بصورة تحترم عقول الناس – الشباب والكهول، الإناث والذكور، المتواجدين في أماكن العمل وأماكن السكن، إلخ – وتوثق للحاجات بصورة مرجعية وبصورة بتفترض أن المواطنين بيعرفوا – الآن ولي قدام – أين ينفقوا زمنهم وبيعرفوا القراءة و/أو الاستماع والتقييم، ثم يتحركوا وفق ما خلصوا له.. انت موهوم ساي وقاعد في برج عاجي وبتتكلم مع أصحابك الزيّك بس.  

الكلام ده قالوه للجان المقاومة لمّن بدوا يعملوا ندوات ويطلعوا أوراق ويعملوا مواثيق، وقالوه للحركات النسوية لمن بدوا يقدّموا مادة مكتوبة ومنشورة ومرتبة، وقالوه لناس الحركات العمالية والاجتماعية والحركات المطلبية العندها استثمار حقيقي في الارتفاع بوعي فئاتها، موش كتدريس ليهم وإنما انخراط في عملية بناء وعي وتعلّم متبادل معاهم عشان قضاياهم وعشان هم زاتهم يتملكوا أكثر أدوات التعبير عن نفسهم بفصاحة وشكيمة وتنظيم…. فيا ترى، من هو الحريص فعلا على تطور الرأي العام وتقدّمه وعلى انتشار الناس في مساحات السلطة والتأثير؟  وللحديث شجون

أضف تعليق