معنى السياسة

السياسة لغةً تعني تدبير وتصريف أمور الناس، وذلك وفق رعاية مصالحهم. أمّا ممارسةً فهي في واقعنا المعاصر يُفهَم أنها تشير إلى ممارسات ممنهجة واستراتيجية وفق قيم وأهداف، ووفق موازنات لمطامح وقوى متداخلة وذات مشروعية، على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. وفق ذلك فأن يسوس المرء أمور الناس تعني أن يدبّرها ويصرّفها وفق منهجية ووفق رؤية تضع مصالحهم نصب العين؛ فالبداية تكون في التعاطف مع أولئك الناس والانحياز لهم، كمنطلق للسياسة، ثم تأتي الممارسة المنهجية والاستراتيجية لتحقق قيمة ذلك التعاطف والانحياز. وكلما تعقدت المجتمعات الحديثة كلما تعقدت وتصاعدت باقات المعارف والمهارات، وسبل التفكير والتنظيم، التي تهدي مجال السياسة في تلك المجتمعات، وكلما صار العمل في الشأن السياسي عملا يتطلب مستويات أكبر من الفكر ومن التنظيم ومن الجهد؛ وكل ذلك يتطلب مستويات أكثر انضباطا  وحذرا من الأخلاق، فالتورطات الأخلاقية في الظروف المعقدة أقرب وأخطر منها في الظروف الأبسط. كل ذلك يتطلب المزيد من توخي الحق وتوخي الحكمة (والحكمة وضع الأشياء في مواضعها).

وفي عالم اليوم، يكاد وصف السياسي يذهب إلى من يحسب الأشياء وفق حسابات السلطة وتمثلاتها في العمل العام، ثم يمارس الانخراط في الشأن العام وفق ما تسوق إليه تلك الحسابات، ويعتبر أنه ليس من “الحكمة” مغالبة تيارات قوية وذات سلطة وإنما ترشيدها بالربط والترغيب، وأحيانا المسكنة، كيما تعطي تلك التيارات بعضا من التنازلات لصالح مطالب الشأن العام. أما مطالب الشأن العام تلك فهي ترتفع وتنخفض سقوفها وفق ما يراه السياسيون/الساسة ممكنا. وبمجرد أن يقول الساسة إن هذا هو الممكن والمعقول، يكاد يكون هنا مبلغ الكلام والحكمة، إذ لا تجدي المساءلة في قيمة وأهداف ذلك الممكن ما دام الساسة يروّجون له بكل وسعهم على أنه كذلك؛ يكفي أنه “الممكن فحسب”. حتى جاء ذلك التعريف الباهت، المنتشر، للسياسة بأنها “فن الممكن” (وهو تعريف ربما يصيب أحيانا بعض أوجه الحق، في سياقات معيّنة،  لكنه لا يستبدل التعريف الأساسي للسياسة، المذكور آنفا). 

وفق ذلك فمجمل ما صار يجول بخواطرنا اليوم أنه “سياسة” ليس حقا بسياسة، كما أن جلّ “الساسة”، ليسوا بالضرورة أهل تدبير وتصريف متفوق، كما ليسوا أهل قيم وأهداف عالية (كما يتضح من ممارساتهم وتلوّنها وفق السياق)، وفوق ذلك ليسوا أفضل من بيننا في الممارسات الممنهجة والاستراتيجية…. ولا داعي للحديث عن الحق والحكمة.  لكن، رغم ذلك، هنالك ضغط اجتماعي وثقافي عالي للتعامل مع هؤلاء الساسة على أنهم أفضل المتاح، وأنهم هم من يعرفون السياسة وميادينها، فمن ينازعهم فيها لا يفهم ولا يعرف حقيقة الأمور، ومن يجاريهم يفعل ذلك لأنه يدرك أنهم – أي الساسة – يفعلون كل ما بوسعهم في ظروف صعبة ومشتبكة من أجل تحقيق مكاسب ولو قليلة. أما إذا سألت “مكاسب لمن” لأفادوك طبعا “الشعب”، ثم يتضح أن دائرة الشعب هذه تتقلص رويدا رويدا كلما سألت المزيد من الأسئلة، إلى أن يتضح أن تلك الدائرة في الحقيقة دائرة التأثير والتأثر في علاقات وشبكات مصالح وقواعد جماهيرية محدودة. 

لذلك قلنا إن معظم من نسميهم اليوم بالساسة ربما علينا تسميتهم بأسمائهم الأصح: هم مقاولو قوى power brokers، يمارسون مقاولات بين مراكز وأطراف قوى وليسوا بالضرورة أهل معارف ومهارات في مجال السياسة (مثلما الذي يمارس المقاولات الهندسية ليس بالضرورة يحسن الهندسة). مقاولة القوى لا تحتاج بالضرورة لمعارف ومهارات منهجية وحديثة في تدبير وتصريف الشؤون العامة للناس، وقابلة للاختبار والتقييم. تحتاج المقاولة – في جل شأنها – إلى ما هو أقرب لبعض مهارات التجّار ومناديب المبيعات (بعض مهاراتهم فقط، فللتجارة نفسها مهارات منهجية حديثة لا نتحدث عنها حاليا)؛ إذ تكون هناك مفاصلات ومساومات تعتمد على قيمة ما يراد الحصول عليه أو تبادله، وتعتمد على مستويات التكافؤ (وعدم التكافؤ) بين المتفاصلين وبين مستوى احتياج كل طرف لما عند الآخر. وبطبيعة الحال، في هذا التشبيه، لم نتطرق بعد لماهية السلعة أو الخدمة التي تحصل المفاصلة عليها أو محاولة التبادل فيها–ربما كانت جيدة ومهمة، وربما كانت بضاعة مزجاة، وربما كانت ذات استعمالات متعددة وواسعة وربما كانت ذات مظهر أكبر بكثير من حقيقة استعمالاتها. تتطلب مقاولة القوى كذلك بعضا من الحذر بين مراكز وأطراف القوى، فأهل القوة الأكبر لديهم حصص أكبر، بحكم قوتهم لا بحكم قيمة ما يقدمونه مقارنة بقيمة ما يقدمه الآخرون، وأهل القوة الأصغر ينبغي أن يتذكروا دائما أنهم أصغر، فإن لم يتذكروا يتم تذكيرهم. كذلك فبعض أهل الأصوات العالية و”الحنك”، وربما بعض الابتذال، ربما ترجح كفّتهم على أهل البضاعة الأفضل والحسابات الأفضل لكنهم بقدرات ترويجية أقل وبأصوات أقل ضجيجا. بإيجاز: لا تبدو مقاولة القوى في مجملها مساوية أو مصاقبة لممارسة السياسة، وفق التعريف الذي ابتدرنا به هذا المكتوب.

عندما ننظر لهذه المعضلة، في فهم المجال وفي ممارسته، وفي وسمنا لمن يتسمون به، لربما تفهمنا مسرح الواقع العجيب الذي يجعلنا نرى حفنة من الناس، رفعتهم وخفضتهم تيارات قوى وأحداث (بدل أن يرفعوها ويخفضوها هم)، يتصرفون نيابة عن شعوب مكلومة وصاحبة قضية، ويقدمون قرابين من التزلف ونسيان الكرامة لآخرين، من داخل الحدود ومن ورائها، ومن تجاهل معنى المصلحة العامة (وكأنها مسألة متفق عليها مسبقا ويعرفونها هم بالذات جيدا)، وتدوير الكلام حتى تفقد الكلمات معانيها، ثم يجدون حولهم من يبرر لهم ويصفق لهم، ويمزج الحقائق والسياقات لينسج تبريرات مؤقتة كافية حتى نمر عبر الموسم السياسي الحالي (فليست هنالك رؤية بعيدة المدى حقا، وليس هنالك اكتراث بما يكتبه التاريخ وترثه الأجيال عن ما جرى في هذا الموسم). لربما تفهّمنا كذلك كيف أن تلك التبريرات تتعامل مع مخزون التاريخ باعتباره مادة خام تستعمل لتفصيل مبررات في “فن الممكن” الحالي لكنها ليست مادة لاستنباط الدروس التاريخية العميقة والاستهداء بها في مسيرة تضع نصب عينيها قيما وأهدافا سامية ومرتبطة بالناس فعلا–الناس الذين يزعم الساسة أنهم يمارسون السياسة لمصلحتهم.

لا غرو إذن أن يختلط الحابل بالنابل، وأن تتصف بعض مواقف الخنوع وتقديم القرابين بأنها مواقف حكمة وفطنة سياسة. فلو في كل مرة يقولون فيها إن الغرض هو حقن الدماء وحفظ الاستقرار، فتسيل المزيد من الدماء وينفرط عقد الاستقرار، بل ويزيد تفاقم الأوضاع ويزيد “الطين بلة”، رغم تلك المواقف الخانعة (أي خنوع بغير مقابل؛ أم هو بمقابل؟)، فلا عجب، ولا شيء يدعو لإعادة النظر والتمعّن في ما يجرى أمامنا من جنون.

وإذا حاول البعض أن يشير إلى أن هنالك مشكلة أساسية لم تعالج، أو هنالك فيل كبير في الغرفة لم يواجه، أو هنالك “بغلة في الابريق”، فستتلقفهم جحافل المبررين، فيقولون لهم هذه هي السياسة وهذا هو الممكن، وهذه خلاصات الحكمة، وأنتم مجرد “عاطفيين” لا تعرفون، حتى مصلحتكم…. فلو ظننتم أن مصلحتكم لا يمكن أن تكون منفصلة عن مناهج واستراتيجيات مفهومة وقابلة للتقييم في مخرجاتها، أو ظننتم أن مصالح الشعوب مرتبطة بكرامتهم وحقوقهم واستقلالهم، وبالتمسك بفرص تجسيد تلك القيم (لأن الفرص التاريخية الكبرى لا تقدم نفسها بدون محكات)، فهذه مجرد عواطف، وأنتم أغبياء حانقون—الساسة فقط هم الأذكياء. (ولا نسأل هنا عن تعريف الذكاء، أو نتذكر أن أحد تعريفات الغباء هو أن تكرر نفس العملية مرارا وتتوقع نتائج مختلفة).

سيتوقف هذا العبث يوما ما، وسيصبح مجال السياسة أكثر احتراما وأكثر قربا من الناس، وسيكون لدينا مخزون وافر من الدروس التاريخية حول ما يمكن أن يحدث عندما تكون “الأعلام والأقلام عند غير أهلها”، وعندما يمارس الكثير من الناس التحرك وفق الأحلام والأمنيات الضيقة على حساب التفكير والدراسة، وعلى حساب مواقف العزم والشكيمة، وعندما ننخدع في من يتعاملون مع نظم المجتمع الحديث (وأهمها منظومة الدولة العصرية) باعتبارها غنائم متفرقة لمن يستطيع الاستحواذ عليها، ونخلط بينهم وبين من يتعاملون مع تلك النظم كما ينبغي لها: باعتبارها مجال دراسة وعمل منهجي لتحقيق مصالح عامة وفق قيم وأهداف متوافق عليها بين أهل تلك المصالح. 

حتى ذلك اليوم، الذي يتوقف فيه هذا العبث، سنظل مرزوئين ليس بمقاولي القوى، الموسومين بالهشاشة الفكرية والتنظيمية وبالقدرات الضحلة وبالدوافع الضيّقة (ضيق الخيال وضيق الحساسية)، فحسب، إنما أيضا سنظل مرزوئين بمن يستبسلون في التبرير لهؤلاء، بمبررات واهية ومتناقضة، ويغطون على تخبطاتهم كلما تخبّطوا، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا. 

مما قاله الأستاذ محمود محمد طه: “التفكير المعوج بالتمني من صفات الطفولة؛ الأطفال يتمنون ولا يفكرون. والعاطفة أشرف من أن يُنسب لها هذا العمل، لأن العاطفة في الحقيقة هي وقود الفكر. العاطفة تتسامى بالفكر، والفكر يطهّرها وينقّيها ويجعلها إنسانية. نحن كثيرا ما نقول “هذا كلام عاطفي” و”هذا حل عاطفي”…. أحب أن نصحح الوضع بأن نقول إن المسائل أقرب إلى التمني والأحلام منها إلى التفكير والدراسة.”

وللحديث شجون….

رأي واحد حول “معنى السياسة”

أضف تعليق