الحداثة المفتوحة كوسيلة للتقدم

كلما اقتربتُ أكثر من دوائر الجدل الكبير الجاري بين ناس ‘الحداثة’ وناس ‘ما بعد الحداثة’، في مجتمعاتنا في الجنوب، تقلقني بديهة أن مجتمعاتنا تلك لا تملك مفاتيح أي منهما، ولا تملك شروط ‘التحديث’ التي تهيء لنا أن نتعامل مع أسئلة هذا الجدل إلا كظلال للشمال–وأنا متأكد أن هذه البديهة تشغل الكثيرين من المنخرطين في هذا الجدل، لكن ربما نحتاج للمزيد من الاشتغال بها حتى نبتكر طرقا مختلفة للتفكير في جملة هذا الأمر. من انعكاسات هذه المشكلة أن معظم كتاباتنا باللغة العربية لا تفرّق بين الحداثة والتحديث – modernity and modernization – ثم حتى من يميزون بينهما في اللغة لا يكادون يميّزون بينهما في الواقع الملموس وبين تداخلاتهما في نفس ذلك الواقع، ثم نأتي لحقل كيفية التعامل مع كليهما. يضاف لأهمية التمييز أعلاه، أهمية التمييز كذلك بين قضايا ‘التحديث-الحداثة’ وبين رواسب ‘الغربنة’ (modernization and westernization)، كما قال علي مزروعي في سلسلة ‘الأفارقة: تراث ثلاثي’.

جلّ مصدر القلق يتعلق بشأن كيفية تعطيل هذا الجدل (أو تأخيره) لطاقات كبيرة يمكن أن تتوجه في دمج الممارسة والتنظير حول مسائل ملموسة وملحة في مجتمعاتنا–بمعنى أن يقل التركيز على التجريدات الثنائية ويزيد الاهتمام بتشكيل العدة النظرية والعملية لمعالجة واقع مجتمعاتنا نحن – حيث ترتبط تطويراتنا النظرية بواقع مجتمعاتنا أكثر وبما يمكن ممارسته (براكسِس) في التخطيط والبناء والإدارة، وتنسيق الجهود، وتطوير القدرات، وفي تحرير الفكر–تحريره من قيود القديم وقيود الحديث معا (والتحرير ليس بالضرورة هو الخروج الكامل)، من أجل تحرير الواقع.

عند غمرة ذلك القلق، أجد نفسي ألتقي أكثر مع محاولة عبدالله بولا في اجتراح وتحريك مفهوم “تيار الحداثة المفتوحة” [الذي ذكره في كتاباته مثل ‘حوارية لاهاي’]، وهو تيار ضمن تيارات حداثة متفاوتة تشكل في مجملها الحداثة العالمية، كما هو تيار مناوئ لتيار الحداثة “الرسميي” وغيره من التيارات الرسمية، كما يُفهَم من شرح بولا. ميزة هذه المحاولة أنها تكسر حائطا متوهما لحدود مفاهيمية أحادية و”رسمية” ليس الواقع مسؤول عنها وإنما أدمغة الناس المؤطرة، فإن كانت تلك الحدود المفاهيمية لا تساعد على التفكير والابتكار والعمل، بل تعوقهم، فيبنغي حينها كسرها وتجاوزها، من أجل ما ينفع الناس.

جاء في مقدمة كتاب ‘حوكمة التنمية’:

“….فالحداثة في الحقل الفلسفي تشير إلى تيّار فلسفي أحدث نقلات في النظر للقضايا الفلسفية وفق الاكتشافات العلمية (الطبيعية) الحديثة، وكذلك وفق الخبرات الاجتماعية التي تراكمت في التاريخ الحديث بحيث صارت هنالك قدرة وميول للحديث عن أنماط وظواهر موجودة في شتى المجتمعات وجامعة لها؛ أي ليست خواص متعلقة بمجتمعات معيّنة فحسب وإنما أنماط وقوانين تشكّلات اجتماعية ونفسية تنطبق على عموم المجتمعات البشرية—مثلها مثل قواعد وقوانين العلوم الطبيعية الحديثة….والعلاقة بين الحداثة كتيّار فلسفي، والثورة العلمية والصناعية، علاقة ديلكتيكية (جدلية) لا مجال لاستقصائها هنا، ولكن يكفي القول بأن هنالك استعارات مثيرة للجدل في تلك العلاقة—خاصةً استعارة الحداثة نفسها لوثوقيتها من وثوقية العلوم الحديثة، في حين أن العلوم الحديثة ليست هي بالضرورة الحداثة (الفلسفية)، وكذلك العكس. أما الحداثة في الحقلين المعنيين بدراسات التنمية والتاريخ السياسي، وبالتحولات المادية الملموسة، فهنالك تداخل أكبر بينهما، وتبادل واسع، يؤدي أحيانا للخلط غير المفيد (خاصة في المخيال العام والرأي العام) وكذلك خلل التمييز بين الحداثة، من ناحية، والتغريب (أو الغربنة) westernization من ناحية أخرى….الغربنة هي مظهر الحضارة الغربية المعاصرة (المباني والطرق والعربات والكهرباء والمستشفيات وأجهزة الاتصال والإعلام…إلخ) كما تجسّد في السياق الأوروبي (وفي المستوطنات الأوروبية حول العالم)، أما الحداثة [التحديث] فهي جماع التحوّلات الاجتماعية والاختراقات التكنولوجية والعلمية وفلسفات الحوكمة والقانون التي أنتجت ذلك المظهر، لكنها غير مقيّدة به تحديدا. ما يعنيه ذلك أن الجهود في نيل حظوظ الحداثة (بدون مثالبها) ليست بالضرورة تقصّيا لخطى الغرب (الغربنة)، لكن ينبغي [لتلك الجهود] أن تعرف أولوياتها، فالتأسيس للحداثة في أي مجتمع معاصر يتعلّق بالبنى المفاهيمية والمؤسسات أكثر من تعلّقه بالانعكاسات الظاهرية (الملموسة) لتلك المؤسسات؛ بل ربما تورث جهود الحداثة المحلية (المتوطّنة) مظاهر تتمايز عن مظهرها الغربي، وذلك أقرب للمعقولية.”

أعتقد أن المحاولة المقتبسة، أعلاه، تصاقب فكرة ‘تيار الحداثة المفتوحة’ – تصاقبها في مصدر الانشغل – فانطلاقا من واقع مجتمعاتنا في الجنوب لدينا حق تخيّر وتطويع أدوات مفاهيمية وفلسفية من جهات شتى، وإدماجها في بناءاتنا الفكرية المعاصرة، من أجل أن نحقق أهداف التقدّم في مجتمعاتنا. التقدّم هو السيرورة التاريخية التي ننشدها ونحن أصحاب حق أصيل فيها، لا نتفقّد أسبابه من خارجنا، لأن تقدّم مجتمعاتنا طموح أصيل نحو حياة أفضل، أي حياة فيها تطويع أكبر لأسباب الرفاه وفيها تقليل أكثر لمعوّقات ومنغصات العيش: باختصار: التنمية والتحرر. ذلك مع العلم أن نفس سيرورة التاريخ تقول إن أي معالم تفوّق حضاري معاصر، لمجتمعات ما، إنما هي نتيجة تراكم حضاري سابق يربط حراك مجتمعات الكوكب جميعا–فالثورة الصناعية في أوروبا نتيجة تراكمية تكنولوجية شاركت فيها حضارات شتى ثم تبلورت في أوروبا في سياق تاريخي مفهوم، ولم تتوقف بل تستمر في التطور؛ وكذلك نظم الحوكمة الحديثة تراكمت من تجارب الشعوب والحضارات عبر التاريخ، فتبلورت حاليا في نموذج الدولة العصرية الذي لديه بعض الفوائد ولديه دواعي تحثّنا على تجاوزه، يوما ما، إلى نماذج تنظيم اجتماعي أفضل منه. ليست هناك صمدية تاريخية للبشر الذين يعيشون في هذا الكوكب كما ليست هناك ميوعة تساوي أي شيء بأي شيء آخر، وإنما هناك ديناميكية مشهودة، تجعل كل الإرث الحميد من التقدم التكنولوجي والتنظيمي للمجتمعات البشرية حق للبشرية جمعاء وكذلك كل تراكمات غير حميدة هي عُرضة للتفكيك والتجاوز من البشرية جمعاء.

ذلك يعني، ضمن ما يعني، أن هنالك فعلا مشتركات إنسانية (فردية وجماعية) تسمح لنا بالتعميم أحيانا، كما هنالك خصوصيات هي جزء من عملية “التشخيص” (diagnosis) للمجتمعات وحالاتها–مثل مفهوم التشخيص في الحقل الطبي، فبينما جميع البشر يشتركون في الأسس الفزيولوجية ووظائف الجسد المعروفة (بحيث أن الطبيب الافريقي يمكنه أن يفحص المريض الأوروبي، والعكس صحيح) كذلك هناك حاجة لفهم أي حالة فردية في عملية التشخيص لأن تنوعات أسلوب الحياة والتاريخ المرضي والتراكمات البيئية تتفاوت بين الناس وبذلك لا يكون أي علاج هو الصحيح بالضبط في أي حالة مهما كانت. عملية التشخيص في المجتمعات المعاصرة تقول إن هناك مجال للمشتركات العامة ولنسبيّتها معا–أي أن هنالك مساحات غير صارمة بين قوالب الحداثة وما بعد الحداثة، إذ أن هناك مجال ‘حداثات’ تشترك في العروة وتتنوع في التعبير وتتطور فيه. هنالك حداثة مفتوحة…. وللحديث شجون.

رأي واحد حول “الحداثة المفتوحة كوسيلة للتقدم”

  1. هذا مما ينبغي تدريسه في المدارس والجامعات، ذلك لشمولية التناول والاشتمال دون الوقع في شراكة التفاصيل التي تضيع فيها الصورة العامة.

    رد

أضف تعليق