نظرة في الاقتصاد السياسي ومأزق الأجندة الوطنية والتحررية في حبال الشراكة بين المنظمات غير الحكومية الدولية (INGOs) وشريكاتها المحلية.
[اقتباس مطوّل – مع تدخلات طفيفة – من سلسلة مقالات]
——–
….ثم نأتي للدور الخطير الذي لعبته منظمات المجتمع المدني الدولية NGOs ودورها الإمبريالي في صنع طبقة من الكمبرادورات الموالين طواعيةً لقوى الإمبريالية ضد وطنهم. في أي مجتمع يوجد ما أسميه بالأجيال الفاعلة Potential Generations، وهي الأجيال التي عادةً ما يقع عليها مناط التغيير. هذه هي الأجيال التي تتراوح أعمارها ما بين 25 – 65 عاما، ويمكن التوسع إلى 20 – 70 عاما، بصورة عامة.
تقوم منظمات المجتمع المدني الدولية باستهداف هذه الأجيال عبر تكتيك بسيط. فالفرق بين التنظيم السياسي وبين منظمة المجتمع المدني تكمن في أن الأول يسعى للسلطة في مستواها السياسي بغية إحداث التغيير (عبر التسييس Politicization تنظيميا)؛ بينما الثانية لا تسعى للسلطة في مستواها السياسي، بل تعمل (عبر المنشطية Activism تنظيميا) على التأثير على السلطة في المستوى السياسي حتى تتبنى سياسات بعينها.
في دولة ما بعد الاستعمار، تعاني هذه الأجيال الفاعلة من عدة مشاكل، منها حرمانها من الفرص الاقتصادية والسياسية، بجانب المعاناة من الفقر. فهذه الأجيال بصورة أساسية هي ناتجة النظام التعليمي الذي خلفه المستعمر، وهو نظام تعليمي مصمم لتأهيل شاغلي الوظائف، أي لصناعة طبقة الأفندية. فإذا علمنا أن طبقة الأفندية (بوصفها واحدة من بين نخب دولة ما بعد الاستعمار: زعماء العشائر الإثنية، زعماء الطوائف الدينية، المؤسسة العسكرية، ثم طبقة الأفندية) – إذا علمنا أن ذلك الجيل من نخب الأفندية التي زامنت الاستعمار كانت هي رأس الرمح في احتكار السلطة والثروة، ما يعني حرمان أجيال الأفندية اللاحقة، أمكننا هذا من تصور الوضع المزري الذي تعيش فيه النوويات الاجتماعية لطبقة الأفندية فيما تمثله من مجموع الأجيال الفاعلة. خاصةً في ظل التربية الاجتماعية الموروثة من فترة الاستعمار التي جعلت من السياسة بما تحتمل من مواجهة المستعمر شيئا تنفر منه غالبية الأسر في تنشئة أبنائها وبناتها، بينما تشجع الانكباب على الدروس والتحصيل على أمل الحصول على الوظيفة المجزية. لهذا كانت كليات الطب والهندسة صاحبات الدرجات العليا في القبول؛ ولهذا نفسه ظلت منظمات المجتمع المدني الدولية تفضل توظيف الأطباء والمهندسين ما أمكنها ذلك بأكثر من غيرهم.
***
باختصار، ما هو دور منظمات المجتمع المدني الدولية NGOs في عملية تصنيع الكمبرادورات؟
أولا، بالرواتب الجاذبة لقطاع شبابي وكهولي يعيش الفاقة. ولا غرو، فهؤلاء جميعا هم الأفندية من خريجي الجامعات والمعاهد العليا الذين لا عمار لهم في الدنيا ولا مجد إلا عبر جاه الوظيفة. وكم ضربنا الأمثال، وكم حكينا، عن الشباب الغضّ من ناشئة الخريجين، وما يعانونه من شظف العيش، ذلك ريثما تقوم كل مجموعة منهم (كل شلة) بتكوين منظمة خاصة بهم، فإذا بهم يتفاجأون بسهولة الحصول على التمويل كما لو كان في انتظارهم.
ثانيا، بطوعنة الفعل العام the NGO’ing of public action واستبدال الفعل السياسي Political Action بالمنشطية Activism لهذا القطاع من الأجيال الفاعلة، بدلا من تسييس فاعليته. بمعنى آخر، بدلا من أن يكونوا سياسيين ملتزمين ببرامج ومشاريع فكرية يفترض فيها أنها تعمل من أجل مصلحة الوطن والشعب، يصبحوا مجرد نشطاء عبر منظمات المجتمع المدني المحلية الممولة من قبل منظمات المجتمع المدني الدولية. والفرق بين الفعل السياسي Political Action وبين المنشطية المطوعنة NGO’ed Activism هو أن الأول عالي الإيجابية highly pro-، كونه يتجه نحو تفعيل السلطة العامة (الشعب) مع السلطة السياسية (الدولة) لإحداث التغيير. أما الثانية، فجل مبتغاها هو التأثير على الأول ومن ثم الوعد بمساعدته ما أمكن ذلك. ولنتصور فداحة ما سيكون عليه الوضع، دعونا نتخيل شعبا تم تجريده من الفاعلية السياسية لأجياله الفاعلة، حيث تم تحويلهم إلى المنشطية المطوعنة. أولا يعني هذا خلو خانة الفعل السياسي ممن يفترض أن يشغلوه؟ الإجابة هي “نعم” وكذلك “لا”! نعم، لأن القوة الفاعلة والمفكرة في الأجيال الفاعلة قد انصرفت عن الفعل السياسي؛ لا، لأن الطبيعة لا تقبل بالفراغ! فهذا الفراغ سوف يتم ملؤه بأراذل القوم، ممن ليست لديهم أي قدرات أو أي مؤهلات تؤهلهم حتى لأن يصبحوا مُطوعَنين NGO’ed، فتصوروا! إنما هكذا تخضع الدول عبر تجريدها مما كان يجب أن تقوم به إزاءها أجيالُها الفاعلة.
ثالثا، تمويل الأنشطة التي يرشحونها لهم يصبح مرهونا بمدى التجاوب والاستجابة لنوعية المشاريع المرغوب فيها، ليس عبر التوجيهات المباشرة بالضرورة، بل أيضا تلميحا tacitly لا تصريحا، وهي عملية معقدة، من يفهمها ويتجاوب معها، يحصل على التمويل، ومن لا ينجح في هذا سوف يرتد القهقرى إلى حالات الفاقة والفقر.
رابعا، بتطويعهم عبر مغريات الصعود الرأسي إلى قمة هرم المنظمات الدولية، ذلك شريطة أن يصبح [المرء] شخصا منصاعا docile لسادته الممولين. إنها باختصار مؤسسة الرق في قالب جديد!
***
هل يعني كلامنا هذا عدم التعامل مع منظمات المجتمع المدني الدولية NGOs ؟ طبعا لا يمكن لعاقل أن يقول هذا! لكن ما هي المعايير لتحديد أن منظمة مجتمع مدني محلية قابلة لأن تكون مصنعا للكمبرادورات أم لا؟ أي منظمة مجتمع مدني هي منظمة طوعية لها برامج خدمية توعوية تحتاج إلى تمويل من أي جهة شرعية قانونية. فإذا نال أحد مشاريعها التمويل، هنا لا بد أن تكون القوة العاملة المناط بها تنفيذ المشروع من خارج المتطوعين المؤسسين للمنظمة. هذا يعني أنه لا ينبغي للمنفذين الميدانيين لأي مشروع أن يكونوا من المؤسسين المتطوعين للمنظمة، بل يكونوا موظفين من خارج العضوية. هذا يعني أنه لا ينبغي بالمرة أن يتحول المتطوعون المؤسسون للمنظمة إلى مستفيدين ماليا من المشروعات الممولة .
الملاحظ أن ما تفوق نسبته 90٪ من منظمات المجتمع المدني المحلية غير مستوفية لهذا الشرط. ما يعني أنها تكون قد أصبحت عرضة لتحويلها إلى مصنع للكمبرادورات….
——–
[انتهى الاقتباس]
—محمد جلال أحمد هاشم، “ماذا يعني عمليا تسييل الدولة الوطنية السودانية؟”، المقال الثاني، 24 مارس 2024، جوبا.
ولا يظنن أحد أن مأساة منظمات المجتمع المدني في السودان، محصورة في السودان، بل هي معمّمة على جملة المجتمعات ما بعد الاستعمارية وخاصة في البلدان النامية والبلدان التي بها فوارق ومفارقات عالية في مستويات الدخل المحلية.
كتبت وتحدثت أرونداتي روي عن مشكلة “طوعنة المقاومة” (The NGO-ization of Resistance) وتناولت المأساة من زاوية خبرتها بالحالة الهندية والبلدان المحيطة بالهند. كذلك كتب وتحدث البروفيسور المخضرم عيسى شفجي عن نفس المأساة في شرق افريقيا، مع تعميمات على افريقيا تسمح بها خبرته كأستاذ قديم للقانون وباحث في الشؤون الافريقية (والافروعمومية) إجمالا. لدى شفجي كتاب مهم حول دور ومستقبل المنظمات غير الحكومية في افريقيا. حيث أفاد بأننا بحاجة لأن نضع السياق السياسي والتاريخي العام في عين الاعتبار، في افريقيا، حتى نفهم فهم مشكلة “طوعنة الفعل العام” و”استبدال الفعل السياسي بالمنشطية” – كما وصفها محمد جلال هاشم – ونفهم خطورة الأمر والحاجة لاتخاذ مواقف مدروسة وعملية تجاهها، من أجل إصلاح مستقبل المجتمع المدني في افريقيا.
لذلك فإن ما كتبه أمثال محمد جلال هاشم في هذا الشأن – في كتابات سابقة، قبل سنوات، وفي كتابات أخيرة – لا يقف وحيدا، بل يصافح ويصاقب إرثا وخلاصات نقدية قوية لأحوال مجتمعات ما بعد الاستعمار في صراعها مع أنماط “النيوكولونيالية” (أو الاستعمار الجديد) كما سماها كوامي نكروما–ومن ضمنها جائحة النيولبرالية، باقتصادها السياسي العالمي المكرّس للتبعية ولتغليب مصالح الصفوات (على تفاوت بينها) على مصالح أغلبيات الشعوب.
ونحن نعتناها بمأساة منظمات المجتمع المدني، لأن المفترض من الفضاء المدني في مجتمعاتنا أن يكون الأكثر حيوية وديناميكية والأكثر التصاقا بنبض الشعوب ومجموعاتهم المتباينة، وأن تكون المنظمات والأجسام المتحركة في ذلك الفضاء هي القنوات التعبيرية الأقرب والأقوى للمجموعات المدنية والأهلية، وهي التي يعوّل عليها في تقويم ورفد الفضاءات الأخرى (كالقطاعين العام والخاص)، متى ما حادت أو نقصت، داخل الدولة العصرية ما بعد الاستعمارية. هي مأساة لأننا بحاجة لمنظمات مجتمع مدني أفضل بكثير في هياكلها وفي أدائها، ولن نستغني عنها قريبا؛ فلا يبقى إلا أهمية التأمل في عوامل المأساة، ومحاولة معالجتها ما أمكن….
‘The NGO-ization of politics threatens to turn resistance into a well-mannered, reasonable, salaried, 9-to-5 job. With a few perks thrown in. Real resistance has real consequences. And no salary.’
–Arundhati Roy, ‘The NGO-ization of Resistance’, September 8, 2014
وفي خاتمة (مؤقتة) لسلسلة البوستات عن مأساة منظمات المجتمع المدني، في السودان وفي مجتمعات ما بعد الاستعمار، نقول إن الإنصاف لا يغيب، فمع حصول المأساة بشكل كامل وملموس وخطير، لا يمكن إنكار وجود حالات استثنائية، من الأفراد والأجسام، في الفضاء المدني، الجديرين بالاحترام استحقاقا، وفق رصيدهم في العمل الدؤوب من أجل مساحات أشرف وأكرم للسودانيين، وفي الانضباط الأخلاقي الذي جعلهم ينجون من التلوّث في بيئة مليئة بأسباب التلوث.
ومن الإنصاف كذلك ذكر أن ظروف الاقتصاد السياسي المحلي، في العقود الماضية، ضيّقت الخيارات كثيرا على جملة المتعلّمين والراغبين بالبقاء في السودان؛ فقد كانت فرص العمل في مؤسسات القطاع العام محدودة جدا وضعيفة المحفزات (المهنية والاقتصادية) في زمن الكيزان بالنسبة لغير الكيزان (خصوصا من دخلوا مرحلة العمل أثناء حكم الكيزان)، كما كانت فرص القطاع الخاص والعمل الخاص، المنتج، والمبادرات التعاونية، محدودة بشروط صعبة، اقتصادية وسياسية، الأمر الذي جعل الكثير من المؤهلين تأهيلا فنيا/أكاديميا عاليا إما يلتمسوا فرص العمل والدخل المعقول في المساحات التي ملأتها منظمات المجتمع المدني (خاصة في المناطق الحضرية)، أو ينفروا من البلاد ناحية الأصقاع المتنوعة–الأمر الذي خلق حالة خاصة وحادة من “هجرة العقول” (وهي مشكلة تعاني منها جملة البلدان الافريقية، على مستويات متفاوتة)، أو يلتمسوا فرص مواصلة الدراسة، داخليا وخارجيا، وفرص الأعمال المتقطعة، غير المستقرة وغير المضمونة، وكل خيار بمشاكله.
لا تغيب هذه الحسابات من فهم الوضع العام، ثم لا تعتبر هذه الحسابات مبررا للسكوت على مأساة منظمات المجتمع المدني، أو مبررا لتجاهل ظهور “بزنس” كبير، برؤوس ورموز كبيرة وشبكات مصالح داخلية وخارجية، بعيدة عن واقع الاقتصاد المحلي ومنتفعة من تلك المأساة بصورة تجعلها ضعيفة الرغبة في الاعتراف بها أو محاولة تغيير ديناميكاتها. لا يمكن تجاوز هذا الأمر لأن ضرره أكبر بكثير من ترياقاته لبعض الناس، ومن مغانمه لقلة قليلة لا رجاء منها. ومؤخرا فقد صار هذا الضرر مستعلنا وشديد الخطر على حاضرنا ومستقبلنا أجمعين.