التكنولوجيا ومفترق الطرق: حالة الذكاء الاصطناعي

أحيانا يكون القلق نتيجة لقلة المعرفة أو الإلمام بالمسألة مصدر القلق، (باختصار، الجهل يمكن أن يولّد الخوف). لذلك نجد أحيانا أن جمهور الناس ربما يكونوا في حالة خوف من مسألة ما بينما الخبراء في تلك المسألة أقل قلقا وخوفا–على سبيل المثال، نجد أن قلق الجمهور تجاه الطاقة النووية –  وربطها تلقائيا بالكوارث – يقابله مستوى مختلف من خبراء الطاقة، إذ في جملتهم يرون في الطاقة النووية وأبحاث الطاقة النووية البديل المرشّح الأكبر لطاقة الأحفوريات (البترول والفحم والغاز الطبيعي) بالنسبة للحضارة الكوكبية المدمنة على الطاقة ويزيد إدمانها عليها كل يوم–فكأن المسألة هنا مقلوبة: الخبراء أكثر قلقا بخصوص عواقب ومستقبل الطاقة الأحفورية، وأكثر تفاؤلا بمستقبل الطاقة النووية (بشقيها–الانفلاق والاندماج) إذ أن إلمام الخبراء بتطور التكنولوجيا واحتواء التفاعل، وتزايد الحاجة لمصادر طاقة أكثر توفّرا وأعلى إنتاجا، يجعلهم في جانب مختلف من الجماهير المتأثرة جدا حتى اليوم بالإشارات العامة – التاريخية – التي تنطلق في أذهانهم عند ذكر الطاقة النووية (ويزيد الإعلام الجماهيري من ترويج تلك الإشارات)، وهي إشارات في مجملها متعلّقة بقرار استعمال التكنولوجيا وليس التكنولوجيا نفسها (كما سنرى المزيد أدناه).

بنفس القدر، أحيانا تكون هناك حالة ثانية–حيث تكون قلة الإلمام بمسألة من المسائل مصدرا من مصادر التعامل معها بأقل من القلق المطلوب (وأحيانا بتفاؤل عالي)، بينما الخبراء في المجال في حالة قلق وانشغال بالعواقب الممكنة لأنهم أكثر إلماما بالمسألة. هنا تكون زيادة المعرفة بالتفاصيل مدعاة للخوف (إذا صحّ القول)–ليس الخوف الذي يقود للشلل، وإنما الخوف الذي يدرك أن هنالك عوامل كثيرة ومتداخلة بحيث يمكن أن لا تمضي الأمور كما يتوقع عامة الناس. 

مثلا، كثيرون لا يعلمون أن السيارة الكهربية عمرها يتجاوز 100 عام، فهي كتكنولوجيا ليست جديدة، لكن حصلت قرارات اقتصادية أخّرت انتشارها لعقود – وعليه أخّرت فرص تطويرها طيلة تلك العقود – ولصالح سوق السيارات المشتغلة بالوقود الأحفوري؛ ثم هي الآن تعود للواجهة وفق شروط جديدة، ولكن لا تزال هناك محدوديات انتشار بخصوصها لأسباب متعلقة بالسوق كذلك ومتعلقة أيضا بأنماط الاستهلاك السائدة وبصراع القوى الجديد بين الغرب والصين (حيث الأخيرة صارت المسيطرة الجديدة على سوق السيارات الكهربية وتعيد تعريفه عالميا، رغم المقاومة الأمريكية-أوروبية). معظم الناس كذلك لا يشغلهم أن تكنولوجيا الأتمتة (automation) الصناعية، والتي أدّت لقفزات عالية في عمليات التصنيع عالية الكمية وأشكال التصنيع الدقيق، ظهرت نتيجة لتدخّل مباشر ومقصود من القطاع العام في الغرب، ولأغراض معظمها سياسية واستراتيجية وعسكرية (أي غير تجارية) – وهي أغراض انعكست في طريقة تصميم التكنولوجيا نفسها من بين عدة تصميمات كانت محتملة – بعد أن أثبت القطاع الخاص أنه غير مستعد لاستثمار المال والزمن في تطوير هذه التكنولوجيا، لكنه (أي القطاع الخاص) استغلّ نفس التكنولوجيا فور نضوجها لأسباب ربحية ضيّقة أدّت إلى مشاكل اجتماعـ/قتصادية وقعت على عاتق القطاع العام والمجتمع (من عدة نواحي). كثيرون كذلك لا يعرفون أن اختراقات طبية (‘حديثة’) كبيرة، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (وحتى بدايات القرن العشرين) حصلت نتيجة استغلال وتجريبات مؤلمة غير مشروعة وغير مبررة في أجساد النساء الزنجيات والرجال الزنوج، نتيجة لاسترخاص حياتهم ولظنون سائدة وقتها أنهم لا يشعرون بالألم والتروما كبقية البشر؛ ثم حاجج كثيرون لاحقا أن جملة تلك “التجارب” كانت في قسوتها متجاوزة حتى للمستوى الذي يمكن تبريره بأغراض الاستخلاص العلمي، إذ كانت هناك طرق أخرى للدراسة والتجريب ممكنة منذ ذلك الزمان، لكنها كانت أكثر انضباطا وأعلى تكلفة، بينما التجريب السادي غير المشروط على أجساد مجموعة من البشر – عن طريق تجريدهم من بشريّتهم – كان بلا محاسبة وبلا تكلفة تذكر. 

أيضا، يظن كثيرون أن لحظة اكتشاف المحرك البخاري كانت انطلاقة سعيدة لمجتمعات بريطانيا (ثم باقي العالم)، حيث تمّت بسرعة مضاعفة الإنتاج وتقليل تعب العمّال، بينما التاريخ يقول إن انتشار المحرك البخاري في اقتصاد بريطانيا كان بطيئا جدا (استغرق حوالي مائة عام) وعبر تلك الفترة وبعدها حصلت ارتجاجات اجتماعية كثيرة، أضرّت بالأغلبية الكادحة أكثر – ومنهم عمّال نساء وأطفال قليلا ما يُذكَرون اليوم – وذلك لم يكن بسبب التكنولوجيا نفسها وإنما بسبب إدارتها بطريقة سيئة–أي طريقة كان يمكن أن تكون أفضل بكثير (ليس بمعاييرنا اليوم فحسب وإنما حتى بمعايير ذلك الزمان). 

إدراك مثل هذه التفاصيل حول ظهور وتطور وانتشار التكنولوجيا، والسيناريوهات المتنوعة التي قادت ملابسات وقرارات سياسية واقتصادية إلى انتخاب إحداها في النهاية–هو إدراك يسوقنا لاستيعاب خطورة الملابسات والقرارات المتعلقة بالتكنولوجيا من خارج مجالها  (أي ليست قرارات وملابسات فنية-علمية)، وقدرتها على سوق أي مسار تكنولوجي إلى اتجاهات مختلفة جدا من مسارات أخرى ممكنة. وعندما نستوعب تلك الخطورة لن نستطيع التعامل ببساطة (أو استبساط) مع الحيثيات والسياقات المحيطة بتطور أي تكنولوجيا معاصرة، لنصبح فقط نتعامل مع التكنولوجيا المعنيّة بفرضية أن المسارات المتنوعة لا تتفاوت كثيرا في نهاية المطاف وأن الخلاصة تكمن في المحتوى التقني/الفني للتكنولوجيا نفسها وإمكاناتها الموعودة.

من أفضل النماذج المعاصرة على الحالة الثانية – حالة الحماس تجاه التكنولوجيا من جهة الجمهور المستهلّك مع القلق من جهة القلة الخبيرة – تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. فبينما من ناحية الجمهور هناك حماس عالي وتشوّق واسع وسط متبني التكنولوجيا و”مشجّعيها”، خاصة المبكّرين منهم والأغلبية المبكّرة ( early adopters and early majority)، وكذلك هناك سخط أو قلق متشوّش وسط الذين تهدد التكنولوجيا الجديدة مصادر رزقهم (وهو قلق مفهوم ومعتاد عبر التاريخ، وينبغي احترامه لأنه يرتكز على سوابق تاريخية)، نجد أن الأمر من ناحية الخبراء في الذكاء الاصطناعي مليء بالقلق والتوترات العميقة حول مسار التكنولوجيا المحتمل.

ما نشهده بخصوص الذكاء الاصطناعي أن جملةً من الخبراء لديهم دواعي قلق عالي بشأن المسار الذي تسير وفقه الأمور حاليا، فحتى الآن لا توجد أطُر وموجّهات عامة لجميع المطوّرين بخصوص ما يمكن فعله وما ينبغي الإفصاح عنه في عملية تطوير الذكاء الاصطناعي، وهذا يفتح الباب لاحتمالات كثيرة غير باعثة للتفاؤل–وهي غير باعثة للتفاؤل ليس بمعنى القلق حول أن يخرج الذكاء الاصطناعي من سيطرة البشر ويقوم باستعبادنا – مثلا، كما يتخيّل كثيرون (مع أن هذا السناريو ليس محض خيال، إذا ناقشنا عوامله بطريقة موضوعية وحساسة للزمن والتعقيدات، ولكنه على العموم ليس السناريو الذي يشغل الخبراء في المستوى الحالي من تطور التكنولوجيا) – وليس بمعنى النزوع إلى تعطيل التطور التكنولوجي للمجال (فالنزوع نحو المزيد من التطوير والاختراق التكنولوجي متوفر ومطلوب)، إنما الباعث للقلق أن الذكاء الاصطناعي، وفق المسار الحالي، يرجّح أن يكون تحت سيطرة بشر معيّنين، قلّة، ولفترة زمنية غير معروفة مسبقا لكنها كافية لإحداث آثار طويلة المدى على الناس والمجتمعات كافة؛ ذلك إذ أن أولئك القلة سيستخدموا تلك السيطرة وفق أنماط مجرّبة ومتوقعة في التاريخ البشري–أي ليس لتحسين أحوال البشرية إجمالا بالتكنولوجيا وإنما لزيادة امتيازات الأقلية المتنفّذة مع تعميق أسباب البؤس للأغلبية (أو ما صار يسمى بالإقطاعية التكنولوجية، كنظام عالمي جديد ليس شبيها بالرأسمالية فحسب إنما يتفوّق عليها في كل مثالبها)، ثم، إضافة إلى ذلك، ومع غياب نفس تلك الأُطر والموجّهات، وانفتاح التنافس بغير ضوابط ومعايير تحكم المجال، فإن الخطوط الأخلاقية المعنية بحماية المستهلكين وحماية الناس عموما سيتم تجاوزها بفظاظة وبطريقة تعمّق من سناريو مسارنا نحو ديستوبيا عالمية لا تسرّ أي شخص يحمل قدرا من الإنسانية. وبذلك – أي عبر مسار محتمل كهذا من ضمن مسارات أخرى – نكون قد حصلنا على أسوأ نسخة ممكنة، أو إحدى أسوأ النسخات الممكنة، من الذكاء الاصطناعي. 

الأمر أشبه بكوننا، الآن، أمام مفترق طرق، وعند هذا المفترق لدينا فرصة لتقييم الوضع والتمعّن في الاختيار، أي لوضع قواعد وموّجهات لتطوير المجال التكنولوجي. لكن إذا ما قمنا باختيار الطريق الذي يبدو أسرع وأقل تمحيصا – نتيجة حماس وجهل أو تجاهل للحيثيات المتعددة – فلن يكون من السهل لاحقا العودة إلى المفترق واختيار طريق آخر. ذلك ما يجعل هذه الأيام مهمة جدا، للحاضر والمستقبل معا، كفرصة لتفعيل الحكمة المكتسبة من تراكم الخبرات السابقة مع مسارات التكنولوجيا الأخرى (مثل الأمثلة التي ضربناها آنفا) بدل ارتكاب أخطاء مماثلة وكأننا لم نتعلم أي شيء من كل ما مضى.

(والأمر ليس صعبا على التخيّل، فلدينا رصيد كافي من التجربة مع التكنولوجيا العالية التي يمكنها أن تخدم البشرية ويمكنها أن تسبب لها الأذى البليغ–مثل الطاقة النووية، ومثل تكنولوجيا الملاحة الجوية. ومن الواضح أنه، في معظم الحالات، فإن كون التكنولوجيا تصبح مصدر خير أو مصدر أذى للبشرية يتعلّق بقرارات البشرية نفسها، حسب النظم السياسية-اجتماعية-اقتصادية وعلاقات القوى فيها، ومراكز صنع القرار وتمايزات الإلمام بمفاتيح التكنولوجيا المعنية؛ أي عوامل خارجة عن المحتوى الفني-العلمي البحت للتكنولوجيا نفسها).

وفقا ذلك نجد اليوم أصواتا واسعة بين خبراء الذكاء الاصطناعي، وبين المشغولين بإدارة نظم التكنولوجيا في المجتمع (‘النظم التكنوجتماعية’)، نادت وتنادي بأن هناك حاجة ملحة الآن لشغل تحضيري عام، فيه تمهل وتفكير في أطُر العمل وموجهاته، وأخلاقياته، على المستوى العالمي، قبل الاستمرار في الانطلاق المتحمس الجامح، بلا لجام، بحيث نكاد نجعل تراكمات الذكاء الاصطناعي تقودنا حيث تميل بدل أن نقودها نحن…. وللحديث شجون.


[الصورة: مجموعة من عربات النقل، بشحن كهربي، في بريطانيا، عام 1917. المصدر هنا]

أضف تعليق