في مناسبة ذكرى تأسيسها الـ120: جامعة (حداثة) الخرطوم

ننظر لجامعة الخرطوم (وكلية غردون) باعتبارها المؤسسة التعليمية الكبرى في السودان الاستعماري وما بعد الاستعماري، فهي المؤسسة التي مرّ عبرها عدد كبير من الأفندية المحليين (أو البرجوازية الصغيرة) – ومعلوم ان أغراض الاستعمار من تأسيس مثل هذه الصروح التعليمية كان تهيئة فئة أفندية تعين الحاكم المستعمر في شؤون إدارة دولة الاستعمار وترساناتها، لكن الأمور لم تمض بالتحديد كما شاء لها المستعمر، كما أوضح والتر رودني في كتابه “كيف قوّضت أوروبا نماء افريقيا” (1972) الذي كتبه ونشره بينما كان أستاذا في جامعة دار السلام –  ثم إن هؤلاء الافندية خرج منهم أناس خدموا البلد خدمات جليلة وحاولوا ما بوسعهم ان يرتقوا بأرضهم وشعبهم، وخرج منهم كذلك أناس أضرّوا بمسيرة البلد ضررا كبيرا. كلا المجموعتين مرّت عبر نفس المؤسسة، ليس لشيء في المؤسسة نفسها بالضرورة، وإنما لأنها الصرح التعليمي الحداثي الأكبر (أي صاحبة أعلى نموذج للتعليم الحداثي الموروث من الاستعمار)، وذلك النموذج – شئنا أم أبينا – هو مناط معرفة إدارة الدولة الحديثة/العصرية، بمؤسساتها وتروسها وبالتكنولوجيا الداعمة لها–مما فصّلناه في كتاب “السلطة الخامسة” (2021، دار جامعة الخرطوم….للمفارقة). ليس غريبا جدا، وفق ذلك، أن ينتشر خريجو جامعة الخرطوم في أذرع الدولة وفي قطاعات المجتمع الحديث (المجتمع المدني والقطاع الخاص) وبالتأكيد في أنشطة الشأن العام كالسياسة بشتى تمظهراتها.

ولا شك أن الانتماء لمؤسسة حداثية كهذه، في محيط عام تسود فيه فرضيات ونزاعات ومؤسسات مجتمعات ما قبل الحداثة، سيؤدي لنوع من شعور “القبيلة” وسط المنتمين لها، نظرا لتشابه وتزامن تجاربهم مع الواقع خارج أسوار الجامعة بمجرد أن يصبحوا من أهل الجامعة [لم اختبر ذلك الشعور مباشرة، باعتباري لم أدرس بجامعة الخرطوم، لكن شهدته بصورة غير مباشرة في حياتي الاجتماعية كطفل لخرّيجين من الجامعة – هندسة وطب – أي أني، بصورة ما، ثمرة من ثمار الدوائر الاجتماعية لتلك الجامعة، لدرجة أني كنت في طفولتي أشعر بالتمييز بين السودانيين الذين تخرجوا من جامعة الخرطوم والذين لم يتخرجوا منها؛ كما أن والداي حاولا ربطي بها بصور مختلفة منذ ولادتي]. وهذا الشعور نفسه يُمكن أن يستعمل استعمالا حميدا، ينفع من حولهم، كما يمكن أن يُستعمل استعمالا غير حميد، يثير حفيظة من حولهم؛ وقد كان. 

وهذا الأمر لا يتعلق بجامعة الخرطوم كحالة خاصة، بأي حال من الأحوال، بل بجميع المؤسسات الشبيهة لها في الحقبة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية. مثلا، كتب والتر رودني عن رأيه في الأجواء الاكاديمية وزملائه في جامعة ويست انديز، فرع كنقستون جامايكا، في أواخر الستينات (وقد كانت وما زالت جامعة على مستوى عدة بلدان في منطقة الكاريبي التي كانت مستعمرات بريطانية سابقة): “…جيلنا كذلك يضيف حصّته من استمرارية العُقم المرعب للمجتمع العام. الحياة خارج حرم الجامعة  مكسب كبير بالنسبة لي [ويشمل الحرم سكن الأساتذة كذلك]، إذ قلّلت من اتصالي مع المثقفين….في ذلك الحرم. أشك في أن الأوضاع [هنا] تنذر بأي انفجار قريب، وأشك في أني سأبقى هنا لمدة كافية لشهود انفجار؛ لكن، كموقف يتعلّق بالتزام النزاهة، عليّ أن أٌقيم نفسي في مواجهة ذلك السؤال ما دمت موجودا هنا. بخلاف ذلك فما الذي سيميّزني عن سدنة القديم؟”

ليس الغرض من هذه المقالة الصغيرة سوى لفت النظر لأمر مهم، وهو أن جامعة الخرطوم، بشتى مميزاتها وكذلك بشتى مشاكلها (التي ذكرها كثيرون، وما زالت واضحة ومستمرة) والتي تجعل الموقف الشعبي العام منها يزداد سوءا مع الأيام (بحق وبغير حق)، إلا أن ورطتنا مع هذا الصرح هو أن علينا اصطحابه معنا في عملية التغيير وبناء دولة عصرية متوطنة في أرضنا وليست ظلا للاستعمار–أي أن عملية التغيير لن تقفز في الغالب على جامعة الخرطوم وإنما ستحتاج لأن تحوّل جامعة الخرطوم إلى مكان آخر، لا يشبه المكان الحالي (وإن احتفظ ببعض معالمه). 

هنالك نماذج يمكن تدبرها في ذلك–ليس من أجل تقليدها وإنما الاستفادة منها، وليس باعتبار تلك النماذج ناجحة تماما ولكن لها رصيد المحاولة الجادة والدروس الحقيقية. جاء في كتاب “سعاة افريقيا” (2020)، في الفصل الثالث بعنوان “افريقيا من التحرر إلى التنمية”، في فقرة بعنوان “إصلاح دراسات التنمية في افريقيا” (الصفحات من 235 إلى 239): 

“في حقبة السبعينات كانت جامعة دار السلام، بتنزانيا، خلية نحلٍ فكرية فيما يخص قضايا التحرر والتنمية في أفريقيا (وهي نفس الحقبة التي كان فيها من طلاب الجامعة شخصيات أخرى أصبحت معروفة لاحقا، مثل جون قرنق وعيسى شفجي، (وكذلك يوري موسفني)، كما كان فيها من مدرّسيها آفروعموميون كبار، مثل والتر ورودني وهوريس كامبيل). كانت تنزانيا وقتها بنظام حكم حزب واحد لكن كان فيها مساحة للتعبير المعارض لسياسات الحكومة، وكانت مركزا لحركات التحرر الوطني  في البلدان التي كانت ما تزال تناضل الاستعمار والفصل العنصري. وفي ظل تلك الظروف، تحركت مجموعة من هيئة التدريس في الجامعة نحو تغيير مناهج التدريس في العلوم الاجتماعية والإنسانيات في الجامعة بحيث تكون مواكبة أكثر لأولويات تنزانيا والمنطقة من حيث تطلعات وأولويات التنمية. يحكي أندرو كولسون، أحد الأساتذة الأجانب وقتها،  أن مجموعة كافية من هيئة التدريس، من الأساتذة اليساريين، اتفقوا على أن التقسيم الجامعي الكلاسيكي للتخصصات، والموروث من النظام الجامعي الغربي، غير عملي للوضع التنزاني والبلدان المجاورة. ففي حين يقوم ذلك التقسيم على التمييز بين دراسات الاقتصاد، والعلوم السياسية، والجغرافيا، والسوسيولوجيا، والتاريخ…إلخ، في أقسام منفصلة، تتقاطع فقط بصور متنوّعة مع الاحتفاظ باستقلاليتها ومنحها للشهادات التخصصية من داخلها، اتفق أولئك الأساتذة أن الواقع التنزاني يتطلب قوى عاملة مؤهلة، فكريّا ومهنيّا، في تنوّعات من تلك التخصصات كيما يخدموا أجندة التنمية والتقدّم بصورة جديرة. بناء على ذلك اقترحوا دمج هذه التخصصات بصورة مدروسة لتخريج أشخاص في مساقات أدائية مثل التخطيط التنموي، والتخطيط الصناعي، وتقييم الموارد، والإدارة العامة، ومساقات أخرى. بذلك فإن كل مساق يتم تصميمه من دراسات تدخل في المجالات الأكاديمية المتنوعة أعلاه وتكون سلطة تصميم وتدريس المنهج لدى الإدارات التنسيقية لهذه المساقات لا لدى الأقسام الجامعية الكلاسيكية. 

اشتغل الأساتذة هؤلاء على تصميم هذا المنهج الجديد لمدة عامين تقريبا، وبقيت خطوات التصويت التي تفعّله. لكن ظهرت مشكلة جديدة في تلك الأثناء، إذ يحكي كولسون أنه خلال تلك السنتين جاء للجامعة جيل من الأساتذة التنزانيين الذين حصلوا على شهادات الدكتوراة في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانوا أقل يسارية من الأساتذة الأقدم منهم وأكثر محافظة، وبالنسبة لهم فإن تغيير الحال الكلاسيكي للأقسام الأكاديمية التقليدية في الجامعة بدا وكأنه لا يتواءم مع مصالحهم الوظيفية على المدى البعيد (لأن تقسيم الأقسام الكلاسيكي فيه ترقي وظيفي مبني على التخصص والأداء المنحصر في الأنشطة الأكاديمية نفسها فقط). إضافة لذلك فقد كانت مجموعة الأساتذة اليساريين، الذين دفعوا هذه الأطروحة الجديدة لتغيير منهج التعليم، يتكوّنون من نسبة عالية من الأساتذة الوافدين expatriates غير التنزانيين، وكان منهم والتر رودني. ورغم أن هؤلاء الأساتذة اليساريين كانوا أكثر خبرة، إلا أن والتر رودني كان له رأي متميّز في هذه المسألة. كان رودني متفقا طبعا مع اتجاه تغيير المنهج الدراسي، بل كان فاعلا في ذلك الاتجاه، ولكنه استرجع مسألة مهمة: أن جامعة دار السلام جامعة تنزانية في آخر المطاف، والسلطة المستمرة فيها يجب أن تكون في كفة الأغلبية من أعضاء هيئة التدريس التنزانيين، وان اتجاه تغيير المنهج هذا لو لم يحظ بتأييد الأغلبية من الأساتذة التنزانيين، فهو، حتى وإن كان على صواب نظريا، لن ينجح عمليا كما سيكون عرضة للمساءلة أخلاقيا. لذلك قرر رودني رغم تأييده الفكري لاتجاه تغيير المنهج أن يضع صوته مع الأغلبية التنزانية؛ ولم ينجح التصويت من أجل تغيير المنهج، وفقط تم التراضي على نسخة أضعف بكثير من النسخة التي كانت مطروحة، احتفظت فيها الأقسام الكلاسيكية بعموم سلطتها الأكاديمية. في سرد تلك الحكاية يقول كولسون إن رودني وقف في الجانب الصحيح من التاريخ مرتين في موقف واحد: حين أيّد التغيير نظريّا ولكن رفض تطبيقه عمليا بدون دعم الأغلبية التنزانية له. 

الغرض من سرد هذه القصة القديمة الإشارة لأن فكرة إصلاح دراسات التنمية في أفريقيا  ليست فكرة جديدة، فقد انتبه لها الكثيرون من قبل، لكن للأسف حالت معوّقات كثيرة دون تطبيقها بصورة واضحة، لكن تلك المعوّقات ليست دائمة ويمكن تغيّرها مع الزمن واستحصاد التجارب. ثم الغرض الذي يلحق ذلك أن نقول اليوم إن العودة لتلك المحاولات أمر مطلوب، وبشدة. مناهج التعليم ومساقات الأكاديميا academia إنما هي تصميمات بشرية اتصلت بالظروف والغايات التي كانت وراءها، ومن الواضح جدا في أحوالنا هذه أن هذه المناهج والمساقات بالطريقة الموروثة من الاستعمار غير مناسبة ولا مستدامة لتحقيق طموحات التنمية والتحرر في أفريقيا.  الأوْلى إذن مراجعة هذا الأمر بجسارة أدبية وابتكار فكري وتطبيقي. وهذه المراجعة، من منظور الآفروعمومية، إنما ينبغي أن تنضوي ضمن الأطروحة العامة للانتقال من “التحرر والتنمية” إلى “التنمية والتحرر”، كما ذكرنا آنفا.”

أضف تعليق