من الحشد إلى التنظيم: محاور لقاء (سودان بكرة)

محاور (لقاء سودان بكرة، 29 اكتوبر 2021) – سلسلة الحراك الثوري
“من الحشد إلى التنظيم”، قصي همرور (استضافة حسام عثمان محجوب)

(1)
الوضع الراهن ومقدّماته باختصار:

  • المحاولة الانقلابية الجارية لم تكن مفاجئة، فهي إحدى السيناريوهات التي كانت متوقعة منذ سبتمبر 2019، والتي تفضي لنتيجة واحدة: انهيار الشراكة الهشة وغير المعقولة، فتلك الخلطة العسكدنية كانت كقلعة رمال بنيت على شاطئ بحر. كلا طرفي الشراكة كان منذ البداية يتربص بالآخر، باعتبار التناقضات الكبيرة بين الطرفين وباعتبار التناقضات الداخلية عند كل طرف، بجانب اعتبار ديناميكيات العوامل الداخلية الأوسع والعوامل الخارجية كذلك.
  • الشراكة كانت فاشلة منذ البداية لعدة أسباب، بيد أن أهمها هو أن الجهة التي فوّضتها قوى الحراك الثوري الذي تبلور في ديسمبر 2018 واستمر حتى يوليو 2019، كانت إجمالا صاحبة منظور “إصلاحي”، ولم تكن قوى ثورية – أي ليست ساعية لتغييرات جذرية في بنى المجتمع السوداني وقوام الدولة السودانية – الأمر الذي أثمر بطبيعته ضعفا فكريا وحركيا أدّى إلى مساومة غريبة مع العدو أفضت إلى شراكة في الحكم لا تشبه أدنى طموحات التغيير، أي أدّى إلى تغيير شروط التفويض نفسها (من الجماهير لقحت)، ففي حين فوّضت الجماهير قحت لترتيبات استلام السلطة، غيّرت قحت معالم التفويض، بوصاية غير شرعية على الحراك الثوري، إلى تخفيف أذى بقايا النظام البائد عن طريق إعطائهم ما يريدون.
  • يضاف لذلك، فإن ما ورثته السلطة الانتقالية، على تناقضاتها الداخلية الواسعة والعميقة، دولة سودانية ليس لها من تعريف الدولة سوى إسم ورسم، كما أنها موبوءة بروابط الفساد التي تحتاج لعمليات جراحية جريئة وقوية لمعافاة منظومة الدولة منها، وهذا طرح تحديات أساسية أمام الشق المدني من السلطة الانتقالية، وهي أنه ليست هنالك آليات ولوجستيات متوفرة لتنفيذ وعود التغيير، حتى لو توفّرت عوامل الإرادة السياسية الوافية والكفاءات المقتدرة على التخطيط والتنفيذ والموارد المادية المعقولة، فما بالك بأن أيّا من هذه العوامل لم تستطع أن تتوفر بما يكفي.
  • بعد سنتين، ينبغي الاعتراف أن التوجّه الاقتصادي للسلطة الانتقالية، لم يكن عالي التكلفة فحسب وإنما كان ضعيف الدعم الشعبي أيضا، ذلك بينما جموع الشعب هي التي دفعت تلك التكلفة، وذلك مما زاد إحباط الجماهير ونقمتها على الأوضاع الانتقالية. الأنكى من ذلك، أن المشروع الاقتصادي الذي تم تبنّيه علنا اتخذ عنوان “الدولة التنموية الديمقراطية”، بينما عمليا لم يكن كذلك، لأن الدولة التنموية تمتاز بعنصرين أساسيين من تدخل الدولة في الاقتصاد: تنظيمها لآليات السوق (عبر عدة سياسات، أهمها السياسات الصناعية) وريادتها لمشاريع تنموية كبرى (flagship projects) باعتبار أن قدرة الدولة على الاستثمار الكبير، طويل المدى والهادف تنمويا، أكبر من قدرة القطاع الخاص، خاصة في البلدان النامية وفي الأوضاع السياسية الحرجة مثل الفترة الانتقالية. كانت هنالك خيارات متوفرة بخصوص التوجه الاقتصادي، والسلطة الانتقالية اختارت منها، والاختيار مسؤولية لا تحال لجهات مجهولة أو عوامل غير محددة.

(2)
السيناريوهات الآن متعددة، لكن مرصودة، وتم الحديث عنها في لقاءات سابقة (من أبرزها لقاء “سودان بكرة” مع د. بكري الجاك، اكتوبر 2021، وكذلك متوفرة في كتابات ومحاضرات متعددة لمحمد جلال هاشم في السنوات الأخيرة)، لكن سأستغل وقتي معكم اليوم للحديث عن نقطة أخرى، وهي موجهات العمل العام الآن (أيّا كانت السيناريوهات):

  • الأوضاع المذكورة أعلاه لم تؤد إلى وأد الثورة، لكن أدّت إلى انحرافها لبعض الوقت، وذلك الانحراف كلّف المزيد من الثمن والزمن. لكن طاقة الحراك الثوري لم تنضب، إنما فقط أعادت ترتيب نفسها (بوتيرة بطيئة قليلا لكن مستمرة) كما حاولت الاستفادة من مساحات الحراك والعمل التي توفّرت في السنتين الماضيين (باعتبارها مكاسب للحراك الثوري في طريق تطوره وليست عطية من أحد). هنالك خبرات وبناءات استراتيجية تراكمت في السنتين الماضيتين ينبغي اصطحابهما في عملية استكمال الثورة.
  • من الدروس المهمة: وجوب الانتقال من الحشد إلى التنظيم. كان كوامي توري، الناشط السياسي المنتظم في الحركة الأفروعمومية، يقول دوما الجماعات المضطهدة والمهمشة، في أي مكان في العالم، لا يمكنها خدمة قضاياها بصورة فعالة إلا عن طريق العمل التنظيمي. ذلك العمل التنظيمي لا يعني الأحزاب بالضرورة وإنما يشملها (ومنها أيضا النقابات والهيئات الشعبية وبعض منظمات المجتمع المدني، وحتى الحركات المسلحة)، فجميع الحركات والمنظمات ذات الأجندة المتماسكة والهيكل التنظيمي القادر على إصدار قرارات وتفعيلها وتعهدها لفترة مستدامة وبأدوات موضوعية، هي تنظيمات. الحشد، في الجانب الآخر، ليس كذلك، فالحشد عادة ما يستثمر إحباطات أو غضب الجماعات كيما يتبلور في حدث معيّن أو أحداث محدودة – مظاهرة، مسيرة، حملة، اعتصام عام، إلخ – لها في الغالب مطالب محدودة تسعى لدفعها، أو أحيانا لديها تطلعات عامة تريد التعبير عنها ولكنها لا تملك أجندة وهياكل لتنفيذها. عمليات الحشد ليست سهلة في الواقع…. لكن إذا نظرنا لتاريخ حالات التغيير في المجتمعات الحديثة، في عموم العالم، سنجد أن التغييرات الحقيقية، المستدامة، كانت وما زالت وراءها تنظيمات وليست حشود.الاستثمار في التنظيم أجدى وأدوم، والخجل من التنظيم أو نبذه واعتباره تقييدا غير مجدي، اتجاه غير مستدام.
  • من الدروس المهمة: فرز الكيمان. “لا بد من تمايز الصفوف بين من يريدون تغييرات محورية في بنية الدولة والاقتصاد السياسي السوداني وبين من يريدون توفيقات سطحية تحافظ على قوام الأوضاع الراهنة كما هي (بامتيازاتها وتصنيفاتها).” المعروف كما قال أملكار كابرال، في تمديده لمقولة للينين، أنه رغم أن بعض الثورات قد تفشل مع استنادها على نظرية ثورية، إلا أنه ليس هنالك ثورات ناجحة بدون تنظير ثوري. والتنظير الثوري اتجاه للتغيير، والتغيير في أي سياق مجتمعي فيه مستفيدين وخاسرين. اتفاقات الحد الأدنى – مثل تشكيلة قوى الحرية والتغيير – مبنية على أماني عامة وليس على رؤى وخطط واضحة، تجنّبا للاختلاف، لكن الالتقاء على الأماني العامة لا يبني دولة. قوى التغيير بحاجة لأن تتذكّر دوما أن تكلفة التغيير الكبير دوما تكون تكلفة عالية، إما تم استيفاؤها بوعي وتخطيط وإما تم تحملّها رغاما. الحقيقة أن هنالك رؤى عامة مطروحة الآن في الساحة السودانية، وبعضها يتلاقى وبعضها يتنافر، وبعضها فيه تعميم كثير وبعضها فيه تفصيل لا بأس به، وينبغي الاختيار منها، إذ لا يمكن اختيارها كلها. بينما الفترة الانتقالية ينبغي أن تسعى لخلق أرض ديمقراطية قوية، تتفاعل فيها التيارات السياسية المتباينة بصورة دستورية توفّق بين ضمان الحقوق الأساسية للجميع وبين التداول السلمي للسلطة، إلا أن ذلك العمل ينبغي أن تقوده قوى متوافقة على سقف عالي، سقف ثوري، وهذا السقف لا تبلغه ولن تبلغه كل المكونات السياسية السودانية.
  • أخيرا، وحيث تلتقي جميع النقاط المذكورة آنفا: ليس هنالك محرك للتغيير الآن – على مستوى الدولة وعلى مستوى الاقتصاد وعلى مستوى الجهد الشعبي – أفضل وأقوى من محرّك التنمية. ينبغي أن تكون التنمية (المستدامة واشتمالية sustainable and inclusive ) لحمة التغيير وسداه، وفي مضمار التنمية، ليس هنالك محرّك أنجع وأمثل للسياق السوداني من العدالة الاجتماعية. وهذا ليس مجرد تبشير بل مبني على دراسات تنموية وتاريخية، أدلينا بدلونا فيها بصورة موضوعية وبحثية وتفصيلية واستقرائية في كتابات مسبّقة وملتحمة بواقعنا (مثل الكتب “حوكمة التنمية: قضايا وأطروحات” و”السلطة الخامسة: نحو توطين التكنولوجيا” و”ممكنات السودان: الأسطورة الوطنية وثقافة العمل” وورقة “لماذا نحن بحاجة إلى سياسات صناعية“). من  ميزات التنمية، كمحرّك، أنها ميدان “براكسس praxis” عالي (اي التنظير والتطبيق المستند على التنظير، أي التطبيق المنهجي)، فهي ميدان يمتزج فيه الفكر والقول والعمل، بقوة ووفق غايات سامية وجامعة. التنمية مشروع وطني جاهز.

وللحديث شجون…. لا يمكن استيفاء كل المسائل في هذه السانحة، فقط نرجو أن تكون مساهمنا مفيدة وغير ثقيلة.  

 

أضف تعليق