حول الاقتلاع والموت الطبيعي

[كُتبت هذه المقالات، في بدايتها، للمشاركة في دوائر محدودة فحسب، وعبر منصات محدودة، لكنها مع نشر المقال الأول والثاني تجاوزت تلك الدوائر، وتناولتها مقالات أخرى عامة بالرد، فصارت عامة، رغم تخطيط الكاتب. نقدمها هنا وفق تسلسلها الذي صدرت به، ووفق تواريخ نشرها]


حول الاقتلاع والموت الطبيعي (1)

من الأنماط الملحوظة هذه الأيام أن عددا غير قليل من الجمهوريين – تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه – يفكرون ويحللون وفق ظنونهم وأمانيهم المتعلقة ببعض نصوص الأستاذ، وخاصة بعض نبوءاته أو قراءاته لسير الأمور في مستقبل السودان. مثلا، يتخذ الكثير منهم موقف تصوير الحرب القائمة هذه الأيام أنها بين الجنجويد والكيزان، وان الكيزان يملكون منظومة القوات المسلحة كلها امتلاكا تاما بينما الجنجويد قوة تمردت تمردا حقيقيا على الكيزان الذين صنعوها، وتنوي هذه القوة فعلا استئصال “الكيزان والفلول”. عبر هذا الموقف تستقيم لبعض الجمهوريين نبوءة الأستاذ، المتواترة، التي تقول إنهم “سوف تنتهي فتنتهم فيما بينهم، وسوف يُقتَلعون من أرض السودان اقتلاعا”؛ بالنسبة لهؤلاء البعض لا بد أن هذا هو المقصود، أي أن لا بد أن هذه هي أيام الفتنة والاقتلاع. وفق ذلك لا يتبقى سوى أن يتوقعوا خسارة الجيش (وهو “جيش الكيزان” ببساطة بالغة) ويستثمروا في تلك الخسارة المرجوة بالترويج وبــــ’التحليل’، ثم يكون لنا مع الدعم السريع شأن آخر، بل ربما يمكن إصلاح قواته وجعلها تمضي فعلا في ركب التحول الديمقراطي كما تقول قيادتهم (نفس القيادة التي نقضت عهودا سابقة معروفة). وبالتالي فهم عمليا يتوسمون في الدعم السريع (الجنجويد) أن يخلصهم من الكيزان (والفلول؟). هذه السردية للأحداث، ومثيلاتها (أو قريباتها)، تجعل مجمل المعتقدين فيها عمليا يوفرون غطاءً شرعيا مهما للجنجويد، وعمليا يوفرون تبريرات لجرائمه وعمالته عن طريق ‘تذكيرنا’ دوما بأن الكيزان اسوأ من الجنجويد ، وعن طريق التلميح إلى أن الكيزان من سوئهم لن يُقتلَعوا إلا بمثل هذا.

ربما على هؤلاء الجمهوريين أن يتذكروا أن فهومهم وظنونهم العامة المتعلقة بأقوال الأستاذ (خصوصا تنبؤاته المستقبلية) أثبتت من قبل أنها قاصرة (أي تلك الفهوم والظنون)، وأنها لا تقيد مدى رؤية الأستاذ. ومن أقرب النماذج تأكيدهم في العقد الماضي على أن جنوب السودان لن ينفصل سياسيا، وأنه سيحصل ما يمنع ذلك الانفصال قبل حدوثه، لأن الأستاذ قال إن الشمال والجنوب لن ينفصلا. فانفصل الجنوب سياسيا، وطفقوا بعد ذلك يحاولون إعادة تفسير نبوءة الأستاذ. كان أغناهم عن هذا من البداية أن لا يقرروا المستقبل وفق فهمهم هم لما رآه الأستاذ، وأن يتعاملوا مع معطيات الواقع المبرهنة وفق منهجية ومبادئ، ووفق استخلاص سيناريوهات مستمدة من تلك المعطيات والمنهجية، وليس وفق توقعات تبسيطية مسنودة على نصوص غير مفصّلة. لقد اتضح أن الأستاذ يتحدث في مستويات وأبعاد زمنية أكبر وأعمق من تعجل معظم الجمهوريين.

حاليا، لا يبدو أن تيار استعجال النبوءات سابقا استوعب الدرس الآن، فبيننا الآن من لا يعلمون حيثيات “الاقتلاع” الذي سيحصل، ولا حجم الفتنة وأبعادها، ولكن لا يتمهلون؛ إذ ربما هم الآن يساهمون في تمدد هذه الفتنة عن طريق جهلهم بطريقة “الاقتلاع” واتخاذ جهلهم هذا موجّها لهم بتحكيم حدسهم العام بغير عمق. ربما هم الآن يؤخرون ساعة الاقتلاع الحقيقية عن طريق منح الكيزان المزيد من الوقت في السياسة السودانية، وبتكلفة عالية، بينما لو كانوا اتخذوا مواقف أكثر اتساقا (ورافضة للحرب فعلا عن طريق رفض ومقاومة جميع عناصر الدمار للشعب والأطماع الضيقة في موارده، ومنها الأطماع والتدخلات الخارجية التي صارت مؤخرا معلنة وموثقة تماما) لاتضح للشعب أن لا مكان للكيزان بعد الآن ولا حجم لهم، وبذلك يكون الاقتلاع الفعال–أي انتهاء تأثير خطابهم وانهزام السرديات التي تجعلهم فاعلين في المشهد العام.

(ومن الصعب جدا، حتى إذا سلّمنا جدلا بأن الكيزان أسوأ من الجنجويد، أن نجادل بخلاف أن الجنجويد أقرب للكيزان في السوء من أي جهة أخرى، في السودان أو في المنطقة، فهم يتنافسون مع الكيزان في المركز الأول في السوء، فإن لم يحصلوا عليه فهم في المركز الثاني بلا منازع، وذلك يجعلهم أقرب للكيزان في كل شيء وأبعد عن بقية المجتمع السوداني في كل شيء. فإن قال شخص إن الجنجويد من أبناء السودان، وليسوا بعيدين عن المجتمع السوداني ولديهم حواضن اجتماعية، ولا يصح أن يقال عنهم ذلك – رغم أنه صار موثقا ومعلوما تجنيدهم للسودانيين ولغير السودانيين في صفوفهم – فكذلك الكيزان جاؤوا من المجتمع السوداني، من شتى فئاته وأطرافه. معظم معارضي الكيزان يعرفون أن أسرهم نفسها فيها كيزان وحلفاء كيزان، بل إن بعض معارضي الكيزان كانوا أنفسهم كيزان في فترات سابقة من حياتهم – أي هم أنفسهم وأهلهم تلك الحواضن الاجتماعية للكيزان – فأين يكون الخط الفاصل بين الكيزان وبين بقية المجتمع السوداني حتى يحصل “اقتلاع” الكيزان، بهذا الفهم؟ كما أن كل هذا في جانب، وفي الجانب الآخر لدينا مستوى طريقة التعامل، فالكيزان أصحاب حركة سياسية-ايدولوجية تجمعها أفكار وعلاقات تنظيمية، ومثل هذه الحركات في مجمل التاريخ لا تُقتَلع بالحروب – قد تُهزَم في بعض المعارك ولكنها لا تُقتلَع – أما مليشيات الجنجويد فهي لم تتأسس وفق أفكار ولم تنظم نفسها بنفسها، كما أنها ليست بحركة مقاومة مسلحة ذات قضية سياسية إنما هي صُنِعت صناعة بواسطة السلطة كمجموعة تقتل وتنهب وتثير الرعب، وتُستأجر أحيانا، مقابل أموال وامتيازات، أي مرتزقة بالمعنى المباشر الصريح، وينضوون تحت لواء أسرة معلومة، مثل الإقطاعية، وهم بالتأكيد تطوروا الآن، وتضخموا في المال والعتاد والعلاقات الدبلوماسية – خصوصا في الفترة الانتقالية – ولكن في نفس الخط الذي صنعوا وجُعِلوا فيه. وبينما الحركات المسلحة التي قامت ضد حكم الكيزان قامت وفق قضايا سياسية معلومة، وعندما كانت تسيطر على مدينة من المدن تحاول أن تجعل الحياة المدنية فيها تعود لطبيعتها في أقرب وقت، نجد أن الجنجويد كلما دخلوا مدينة تعاملوا مع ما فيها ومن فيها كغنيمة حرب).

لو كان هنالك موقف “لا للحرب” حقيقي وسليم في هذه الحرب، فكان العشم أن يكون موقف الجمهوريين، باعتبار أن مدرستهم هي التي أسست للتغيير اللاعنفي وبناء السلام، تأسيسا فكريا وسلوكيا، في السودان. والموقف الأكثر اتساقا مع هذه المدرسة أنه حين يحصل اقتلاع الكيزان من أرض السودان فإنه يكون عن طريق “اقتلاع” لأسباب تفشي تأثيرهم وممارساتهم في البلاد وليس اقتلاعا ماديا/جسديا شاملا لفئات معيّنة من الناس (وهو الأمر الذي لا توفر دروس التاريخ نماذج مقنعة له) وكأنهم من طينة أخرى غير طينتنا كبشر أولا وكسودانيين ثانيا.

لقد بدأ الاقتلاع فعليا للكيزان عبر حراك ثوري شعبي، لاعنفي، نادر في التاريخ، وتراكم من نضال الشعب وتضحياته ودروسه عبر سنوات حكم الكيزان، كما قد بدأت الفتنة فيما بين الكيزان منذ ما قبل ديسمبر 2018، وبوضوح، واستمرت في التوسع؛ وقد حقق ذلك الحراك الثوري خطوات كبيرة ولم يفرغ من مهامه بعد لأنه واجه تحوّرات واختطافات، لن ندخل فيها في هذا المقام – لكن من المهم أن نذكر أن القوات المسلحة والجنجويد والكيزان ساهموا بقوة وبالتساوي في اختطاف ثمار ذلك الحراك – لكنه لم يتوقف إنما استمر في التطور والتبلور عبر الدروس الصعبة والتضحيات النبيلة، فالخط المنطقي والأكرم للتغيير هو أن يتمم ذلك الحراك مشواره، ولو بعد حين، ويقوم هو بالاقتلاع، بالصورة الموصوفة آنفا، وليس أن يوكِل تحقيق تلك الخطوة النبيلة، في طريق تحرر الشعب، إلى جهة أخرى غير نبيلة، ملطخة بدماء الشعب وإذلاله كذلك، وشاركت الكيزان في أسوأ أفعالهم وأكثر حقبهم ظلاما وبطشا، ثم نتصور أن هذا أمرٌ يمكن أن يكون محمود العواقب. (بينما لو مدّدنا الخيال المفعم بدروس التاريخ – أي ليس مجرد الخيال المفتوح – لما استبعدنا أن الأمور في السودان يمكن أن تمضي إلى ما هو أسوأ حتى من الذي يجري الآن، جراء اتخاذ الخطوات غير الحصيفة أو وقوف المواقف نصف المدروسة الآن).

ألم يقل الأستاذ كذلك “ازرعوهم في أرض الحوار، يموتوا موت طبيعي”؟

لذلك نرى أن من أكبر شرور الكيزان المشهودة حاليا أنهم سلبوا الكثير من معارضيهم إمكانية التفكير المستقل والتحليل المتعقل للأحداث بدون أن يطوّق ‘بعبع الكيزان’ على تفكيرهم. هنالك فرق بين أن ندرك أن آثار جرائم الكيزان في الشعب وآثار إفسادهم لمؤسسات الدولة (ومنها القوات المسلحة) ما زالت تؤثر في الواقع بنتائج كارثية (ومنها أسوأ صنائعهم: الجنجويد) وبين أن نتحدث وكأن للكيزان سطوة كبيرة وواسعة وقوة تنظيمية عالية باقية وتعمل باستمرار بارز حتى الآن (لدرجة أن ينطلي على الناس تبسيط مخل، واضح الخلل، يقول إن الكيزان مسيطرين تماما على القوات المسلحة ومنذ البداية، بينما الكيزان أنفسهم هم من أنفقوا على الجنجويد أكثر من الجيش، في العتاد وفي التدريب وفي الرواتب، في السنوات الأخيرة، ومن مال الدولة، ليكون الجنجويد حماية لهم، فممّن يحميهم إذا كان الجيش فعلا ملك كامل لهم ولا يخافون منه بعد ما فعلوه فيه؟).

الاقتلاع آت ولو بعد حين، وهو كذلك الموت الطبيعي (بل إن الموت الطبيعي لأقوى اقتلاع)، لكن من أكبر اسلحة العدو أن ينجح في تضخيم قدراته في أذهاننا، فكونه عدو خبيث وليست لديه حدود أخلاقية لا يعني انه دائما قوي جدا ومخطط ماهر الإحاطة، أو أنه كامن وراء كل حدث لا يعجبنا وبوعي كامل منه. وعندما نعطي مثل هذا العدو أكثر من قيمته في الواقع فإننا نمدّد من عمره ونجعله فاعلا في الأحداث فوق قدره.

قصي همرور
5 يناير 2024


حول الاقتلاع والموت الطبيعي (2)

هنالك نقاط عامة تولّدت من النقاش المحدود الذي جرى على المقال المعنون “حول الاقتلاع والموت الطبيعي”، الذي خرج في 5 يناير 2024، شحذت عندي بعض الاستطرادات والتعقيبات. وبطبيعة الحال هو شيء متوقع، فأصحاب الرأي المختلف، بالنسبة لي، في هذا الأمر، يستندون كذلك على زوايا تفكير مختلفة (كما يستندون على انطباعات قوية، وربما أنا كذلك استند على انطباعات قوية). أدرك مسبقا أن هذه القضية مثار جدل وسط الجمهوريين لأني أعرف أني لست الوحيد بين تلاميذ الأستاذ الذي يرى ما أراه في هذا الأمر، مثلما هنالك من يرون أمرا مختلفا جدا، ومثلما هنالك من ليسوا بالضرورة على موقف مشابه جدا أو مخالف جدا (لذلك فأي نقد لحديثي بأنه اتهام للجمهوريين، أو نقد للجمهوريين، هكذا جملة، مردود عليه، إلا لو كان أولئك الذين يقولون هذا الأمر يرون أنهم هم فقط الجمهوريون وغيرهم ليس مستحقا للوصف؛ ولا أعتقد أنهم يرون ذلك). في الواقع فالجمهوريون يختلفون حتى في قضايا أقل تعقيدا من هذه (وهذا أمر صار واضحا ومعلنا بمستوى لا يمكن إنكاره أو مواراته)، بينما هذه القضية من أكبر القضايا التي نشهدها في عمرنا صعوبة، ومن أكبرها أثرا على المدى القريب والبعيد. ربما ليس في حيلتنا (أو حيلة معظمنا) الكثير جدا إزاء أحداث ضخمة كهذه، لكن من بعض حيلتنا تحريك الآراء والأفكار بطريقة معقولة وقابلة للأخذ والرد، عسى أن يحدث ذلك فرقا ما؛ وهذا فقط طموحنا المتواضع.

< حول القانون الظالم والفوضى >

هناك عبارة أخرى، ذات صلة، منسوبة للأستاذ محمود محمد طه، هي “القانون الظالم أفضل من الفوضى”، وقد استشهد بها بعض تلاميذه مؤخرا وبعض المهتمين بإرث الأستاذ (من أصدقاء الجمهوريين ومن المفكرين السودانيين) للإشارة إلى الحرب الحالية. وأحببت أن أسرد فهمي لهذه العبارة.

فهمي لها هو أن القانون الظالم يتيح فرصا أكبر لمقاومته، بينما الفوضى تضيق فرص مقاومتها. لذلك فالقانون الظالم أفضل من الفوضى. فالأفضلية هنا ليست في أصل الوضع – فالوضعان سيئان، وينبغي مقاومتهما، على تفاوت وتمايز بينهما – وإنما في الظروف التي يوفرها أحد الوضعين للعمل لخلق أوضاع أفضل.

الشعوب تستطيع مقاومة القوانين الظالمة، والأنظمة الظالمة، وتغييرها، عن طريق التنظيم المدعوم بفكر ومنهجية، واكتساب الخبرة وتراكمها وتوريثها في الفعل المقاوم المستمر (مثلما فعلت المقاومة السودانية، بجناحيها اللاعنفي والمسلّح، مع نظام الكيزان). بينما الفوضى التي تقوم بتسييل المجتمع الحديث ونظمه (كالدولة والبنية التحتية ودواليب العمل والتجارة، إلخ) تجعل عملية المقاومة للأوضاع، أو حتى دحر الفوضى، عملية أشق وأكثر تعقيدا ومجهوليات (uncertainties). لكن ذلك لا يعني أن الفوضى إذا حلّت فلن يكون هنالك مخرج منها، فقط الأرجح أن المخرج منها سيكون أعلى تكلفة (في شتى الأصعدة) وأطول زمنا. مثلا الصومال تأثرت كثيرا بفترة الفوضى الجامحة، لكنها الشعب الصومالي استمر ويستمر في عملية إعادة شروط المجتمع الحديث في أرضه وإسترداد مسار التنمية والاستقرار السياسي، وهم الآن أفضل حالا مما كانوا عليه في تسعينات القرن الماضي، لكن بتكلفة عالية جدا وفي طريق ما زال صعبا. إذن ففي كلا الحالين – القانون الظالم والفوضى – تستمر المقاومة ويستمر العمل من أجل واقع أفضل. فقط هنالك أوضاع أكثر استراتيجية للمقاومة من أوضاع أخرى.

< دروس التاريخ لفهم الواقع المعاصر >

هنالك كذلك نماذج تاريخية توضح كيف أن بعض المنعطفات التاريخية تضع الشعوب في خندق واحد مع أعداء قدامى، ولا يعنى ذلك أن أولئك الأعداء صاروا حلفاء فجأة، بل هم ما زالوا أعداء، إنما فقط قضت تحركات التاريخ وديناميكاته بظهور تهديد أكبر لمصالح الجميع—مثل مشكلة التغيّر المناخي مثلا، والتي لا تجعل جميع من في الأرض حلفاء فجأة ولكنها تهديد يضعنا كلنا، كبشرية في خندق واحد، شئنا أم أبينا.

مثلا، من المؤكد أن الشعوب المستعمرة كانت تناضل الاستعمار وتكرهه، فهو عدو صريح لها. لكن أثناء نضال شعوب افريقيا وآسيا ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي والبرتغالي (والامريكي كذلك، بصورة غير مباشرة)، ظهرت الحركة الفاشية ثم ظهرت بعدها بفترة بسيطة الحركة النازية، وتحالف الفاشيون والنازيون (فهتلر تلميذ موسوليني كما قال الأستاذ)، وصاروا هم أيضا قوة استعمارية جديدة ولديهم طموح لنظام عالمي استعماري جديد يشبههم. لم تقل حركات التحرر الوطني، المناهضة للاستعمار البريطاني والفرنسي والبرتغالي، إن “عدو عدوي هو حليفي” فينبغي إذن أن ننضم إلى الفاشيين والنازيين في حربهم ضد البريطانيين والفرنسيين، بل عبر تحليل بسيط ورؤية سياسية حصيفة خلصت معظم حركات التحرر الوطني أن الفاشية والنازية خطر جديد وأكبر، وأنهم أنفسهم نتيجة من نتائج النظام الاستعماري الرأسمالي وأسوأ مواليده، وبالتالي يجب الوقوف ضد النازية والفاشية ودحرهما بقوة. وعبر هذا الموقف وجدت حركات التحرر الوطني نفسها تحمل نفس الهدف الذي تحمله دول الاستعمار البريطاني والفرنسي والبرتغالي، رغم أن هذه النظم الاستعمارية هي عدوتها الأولى والقديمة أصلا.

بعد التخلص من خطر النازية والفاشية، استمر النضال ضد الاستعمار ولم يتوقف. بل إن من الواضح أن ظهور هتلر، ثم سقوطه، ساهم في إضعاف القوى الاستعمارية الأوروبية عبر الحرب العالمية الثانية، وذلك هيّأ الأوضاع أكثر لحركات التحرر الوطني – في افريقيا وآسيا – كيما تضغط لنيل استقلال بلدانها، بالسياسة أحيانا وبالسلاح أحيانا؛ وبعد الحرب العالمية/الأوروبية الثانية تولّد مناخ عالمي أكثر قدرة على التعامل مع مطالب الاستقلال بانفتاح. وفق ذلك فإن صعود النازية في ألمانيا، وما تلى ذلك من تواصل وتراكم، خدم مآرب لحركات التحرر الوطني ولقضايا استقلال شعوب افريقيا وآسيا، بل وحتى قضايا الأقليات في جهات أخرى في العالم. هذه قراءة موضوعية، ثم من غير المنطقي أن تعني أن علينا أن نشكر هتلر أو ألمانيا النازية، أو نتخندق معها باعتبار “عدو عدوي هو حليفي”، بل من الواضح أن النازيين لو كانوا انتصروا على الحلفاء لكانت أوضاع العالم إجمالا ستمضي إلى مراحل أكثر ظلمة وأكثر صعوبة في المقاومة والتحرر للشعوب المحتلة/المستعمرة. علاوة على أن الحرب بين الحلفاء والنازيين/الفاشيين لو كانت طالت فإن أكبر من يدفع الثمن في الخسائر كانت الشعوب، خاصة الشعوب المستضعفة مسبقا في المناطق المستعمرة، في افريقيا وآسيا.

وهكذا، لعدة أسباب، وبينما عداوة واحتراب حلفاء الأمس، وعدوّينا الاثنين، قد تضعفهما الاثنين، وذلك قد ينفعنا لاحقا، لكن التكلفة العالية التي يدفعها الشعب الآن من حرب الوكالة التي يقوم بها الجنجويد لا تجعلهم أخيارا فقط لأنهم يقولون إنهم يحاربون “الكيزان والفلول” (بل من المعروف أن هياكلهم موجود فيها كيزان قدامى معروفين، وربما تحوّلوا ولكن تحوّلهم لمصالح استراتيجية وليس تغيّرا في المواقف الإنسانية أو في طبيعة سلوكهم الكيزاني). الجنجويد يقومون حاليا بحرب على الشعب السوداني نفسه، وعلى مستقبل الدولة السودانية، ويتعاملون مع أرض السودان وشعبها جملة كغنيمة حرب، بصورة تؤدي أفعالهم المدعومة من الخارج إلى فوضى وتقويض كامل لبنيات المجتمع الحديث الباقية في السودان وتقود إلى انتكاسة في مشروع بناء الدولة العصرية بحيث نكاد نعود إلى عهد المشيخات والإقطاعيات، ونموذج صومال التسعينات. (ولا عبرة أبدا في أن يقول البعض إن الدعم السريع وقّع على الاتفاق الإطاري، فمن السذاجة الواضحة أن نتعامل مع ذلك التوقيع بجدية بينما لدينا شواهد قريبة جدا على نقضهم للعهود، عشناها جميعا في السنوات القليلة الماضية. كما أن رصيدهم العملي خير حجة على خواء ما يقولون. يقول جيمس بولدون، في اختصار هذه المسألة: “لا أصدق ما تقوله، لأني أرى ما تفعله”). أما الجيش، فعلى سوئه الذي نعرفه جيدا – وكتبنا عنه منذ وأثناء كانت قحت ومشايعوها يروجون لنجاح الشراكة مع العسكر ويقولون لنا إن عهد سيطرة الكيزان على الجيش انتهى – وعلى معرفتنا أن لدينا معركة قديمة ومستمرة معه (أي الجيش)، حتى يستردّه الشعب (أي يحقق هدف “العسكر للثكنات”) ضمن مؤسسات دولته المنهوبة، إلا أنه حاليا بالنسبة لنا وجد نفسه يحارب نفس العدو، ليس لأنه انضم لصف الشعب وإنما لأن عدوّنا الشرس (الجديد نسبيا) هذا صار عدوّه الشرس كذلك.

وللتوضيح أكثر – لتقليل احتمالات إساءة الفهم، ما أمكن من تقليل – فليس في الحديث أعلاه أي “دعم للجيش” أو مناصرة له، كما تحاول المواقف المغايرة دوما اختزال موقفنا ليسهل عليها نقده. لم نكن يوما من دعاة “مناصرة الجيش”، لا الآن ولا في السابق. دائما قلنا إننا في صف الشعب، وهو حاليا يختلف كثيرا من معسكر مناصرة الجيش كما يختلف تماما من معسكر محاباة الجنجويد (أو توفير الغطاء السياسي لهم). بيد أنه لا بد أن نرى مجريات الأمور الحاصلة أمامنا بحيث نستوعب أن التركيز الأكبر حاليا يجب أن يذهب في تعرية أي غطاء سياسي للجنجويد وفي مواجهتهم كخطر مباشر.

(وإذا قال لنا البعض، إن هذا الكلام يشبه كلام الكيزان أو يصب في مصلحتهم، نقول لهم إن هذا ما عنيناه بأن يسيطر الكيزان على تفكيرنا، بحيث صرنا نقيس مواقفنا ليس بمعاييرنا وبالمبادئ والخلاصات المنهجية التي تنبع منّا، واتساقنا معها، إنما صرنا نقيس مواقفنا بما يقوله الكيزان حتى نقف عكسه، فيصبح تفكيرنا وقولنا غير مستقل وإنما هو ردة فعل لتفكير الكيزان وأقوالهم، أي أننا هكذا نعتمد الكيزان كمرجعية، سواء كانوا يعنون ما يقولون أو لا يعنون، أو يقصدونه أو يقصدون تضليل الناس به. بالنسبة لنا فما يقوله أو يفعله الكيزان في هذه الأيام لا يشغلنا أكثر من حجمهم في الصورة الكبيرة، فهم أورثونا كوارث متعددة ومن أكبرها الجنجويد، وعلينا الآن أن نتعامل مع هذه الكوارث برشد وباستقلالية وبحرص، وفق فهمنا نحن لتعقيدات الوضع وأولوياته…. ذات مرة، قيل لنعوم تشومسكي إن نقدك للاتحاد السوفيتي وللإرث اللينيني فيه تشابهات مع ما يقوله اللبراليون/الرأسماليون عنهم، فقال لهم ما معناه: فليكن، لأن خلاصاتي ليست مستمدة من اللبراليين وإنما من مواقعي الفكرية المستقلة والمتعاملة مع الموضوع وفق هذا الاستقلال، كما أن مواقفي ضد اللبراليين أكبر ومعروفة وموثقة).

لا نتعامل مع الجيش حاليا، بأي حال من الأحوال، باعتباره جيشا وطنيا، وأي شخص يقرأ كتاباتي في الشأن السوداني منذ 2019 لا يمكن أن يخلص لهذا (بل في كتابات موثقة ومنشورة منذ أغسطس الماضي ذكرنا بوضوح أن أكبر الأخطار على السودان حاليا هو الضابط الذي يقبع في قمة هرم القوات المسلحة السودانية). إنما يعني موقفنا أن المسخ الذي تولّد قريبا وصار يهدد الجميع تهديدا غائرا ينبغي مواجهته كأولوية فرضتها تطورات الواقع، ثم عند تجاوز هذا التحدي – بأي صورة تحقق هدف “الجنجويد ينحل” – فلن تكون نهاية النضال والمقاومة ولن تكون غاية عملية إعادة بناء سودان أفضل للجميع، إنما ستكون فقط خطوة مهمة في الدرب الصحيح، الصعب، الطويل.

قصي همرور
6 يناير 2024


حول الاقتلاع والموت الطبيعي (3)

نواصل، هنا، بعض الاستطرادات والتعقيبات، التي تولدت عبر النقاش الذي حصل جراء المقال الأول، وعبر الردود والتعليقات المتعددة والمتباينة التي تناولت المقالين الأول والثاني، بنفس العنوان أعلاه. ومثلما جاء الخط في المقال الثاني فسأحاول أيضا هنا أن تكون الاستطرادات معنية بالموضوع والنقاط العامة، بينما تندرج فيها ردود نسبية على ردود بعض من يهمنا أمرهم وموقفهم، من دائرة الاخوة الجمهوريين ومن الدائرة الأوسع من المهتمين.

حتى الآن، هناك 4 أجزاء لهذا المقال، وربما تزيد، حسب الظروف.

< وضوح التباينات وأهمية الإقرار بها >

جاء في المقال الثاني إن الواقع يُظهِر أن الجمهوريين يختلفون حتى في قضايا أقل تعقيدا من هذه القضية، موضوع النقاش، بينما هذه القضية من أكبر القضايا التي نشهدها في عمرنا صعوبة، وبالتالي ليس هنالك مجال لأن يزعم فريق بأنه يمثل موقف “الجمهوريين”، هكذا تعميما، كما لا يستقيم أن يوضع المخالف في الرأي في موضع أنه “ينتقد الجمهوريين”، هكذا جملة. كما قلنا منذ البداية، فهنالك عدد غير قليل من الجمهوريين لديهم مواقف، في هذه الحرب، أردنا أن نتناولها بالنقد، وبصورة موضوعية وصريحة.

ومن جملة ما جاء من تعليقات وردود متعلقة بالمقالين السابقين، تأكد هذا الأمر، أي تأكد أن هنالك تباين واختلافات واضحة بين الجمهوريين حول المواقف المعقولة أو الصحيحة من هذه الحرب ومن تعريف طبيعتها، كما تأكد أنه حتى من يبدون كأنهم يتفقون على خلاصة واحدة حول طبيعة الحرب وأطرافها لا يتفقون حول السردية التي تصل بهم لتلك الخلاصة. ونكرر إن هذا طبيعي – ولعله خير – ومن الخير أكثر أن نقرّ بهذا الواقع – واقع التباينات – ونتواضع على أن نرافع عن مواقفنا نحن وليس نيابة عن مجموعة كبيرة لسنا متأكدين من تمثيلنا لرأيها.

< التسلسل التاريخي لتطور الدعم السريع >

من التباينات الواضحة أن بعض التعليقات أشارت إلى إن عامل الزمن كان السبب وراء تأسيس المليشيات، بواسطة حكم الكيزان، إلى أن تتم عملية تحويل جميع ضباط الجيش إلى أتباع تنظيميين لهم، بينما آخرون يقولون إن الكيزان رغم سيطرتهم على الجيش لم يكونوا ضامنين تماما لمحاولات انقلاب مضادة فأسسوا المليشيات لإضعاف احتكار الجيش للقوة المسلحة الكبرى في البلاد. ومن ناحيتنا نرى أن من الواضح أن مليشيا الجنجويد استقوت وتلقت المزيد من التمويل والصلاحيات في أواخر سنوات الكيزان وليس في بداياتها، كما أن الدعم السريع (وهو امتداد واضح للجنجويد لا يمكن تخفيفه) تم التعامل معه تدريجيا كقوة موازية للجيش، أي عمليا كجيش موازي.

البدايات البسيطة كانت في 2007 بعشرة ألف مقاتل، ثم في 2013 صارت قوات بحجم 30 ألف، مع زيادة في العدة العتاد، ومع دخولها في أنشطة اقتصادية محتكرة كتنقيب الذهب واليورانيوم في دارفور. ومع سنة 2017 صار حجم تلك القوات حوالي 50 ألفا، واتجهت الحركة الإسلاموية الحاكمة وقتها ليس إلى تقنين الدعم السريع فحسب وإنما منحه صلاحيات أكبر (بحيث أن صلاحيات جندي الدعم السريع تفوق أحيانا صلاحيات ضابط القوات المسلحة). وفي قانون 2017 تم تتبيع قوات الدعم السريع إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولعل هذا ما يجعل البعض يصف ذلك القانون بأنه تبّع الدعم السريع للقوات المسلحة، لكننا ننسى أن نفس القانون وضّح حقيقة الأمر، وهي أن “القائد الأعلى للقوات المسلحة” هو رئيس الجمهورية. فالدعم السريع تم تتبيعه لرئيس الجمهورية مباشرة وليس كوحدة من وحدات القوات المسلحة، كسلاح المشاة أو سلاح البحرية أو سلاح الطيران، مثلا. ووفق ذلك القانون فالرئيس (البشير) هو الذي يعيّن القائد العام للدعم السريع، وهو الذي يشكل مجلس تلك القوات ويرأسه (وطبعا لم يتم إنشاء أي مجلس، وكان واضحا منذ البداية أن السلطة الشاملة على الدعم السريع في يد حميدتي وحده، وحميدتي يتبع للبشير وليس لوزير الدفاع أو القائد العام للقوات المسلحة). هذه النقطة مهمة، لأن الذين يخلطون هذه المسألة يقولون لنا إن الدعم السريع تم تتبيعه بصورة رسمية وقانونية للقوات المسلحة، بينما الذي حصل في الحقيقة أن قانون الدعم السريع أسّس لقوة موازية للقوات المسلحة، أي صار لدينا عمليا جيشان في دولة واحدة، أحدهما هو الجيش النظامي المعروف، والثاني مليشيا موازية تأتمر بإمرة شخص واحد، يأتمر هو بإمرة رئيس الجمهورية فحسب. وهنا قد يجد الناس التفسير الكافي لتسمية البشير لحميدتي “حمايتي”، ولحماس الكيزان في برلمانهم الصوري لقانون الدعم السريع. وإمعانا في هذا الأمر فإن مهام الدعم السريع أحيلت في القانون إلى ما يكلفه بها رئيس الجمهورية.

(من أجل التوثق جيدا من المعلومات، وبتفصيل أكثر، والاطلاع على نصوص القوانين، ننصح بقراءة كتاب سلمان أحمد سلمان، “قوات الدعم السريع: النشأة والتمدد والطريق إلى حرب 2023″، الصادر في يونيو 2023 عن مركز أبحاث السودان؛ وهو كتاب بحجم 100 صفحة ومتوفر الكترونيا مجانا في الانترنت).

أما تعديل القانون في 2019 – أي بعد سقوط البشير وتشكّل المجلس العسكري – وهو تعديل قامت به رئاسة المجلس العسكري (أي البرهان وحميدتي باختصار)، فذهب أكثر في تأكيد وجود الدعم السريع كجيش موازي. ففي يوليو، أي بعد شهر من جريمة فض الاعتصام، ومع ظهور احتمالات تشكيل حكومة انتقالية مدنية عقب عودة المفاوضات بين قحت والمجلس العسكري، قام المجلس العسكري بإصدار تعديل لقانون الدعم السريع، وفيه نقل صلاحيات القائد الأعلى للقوات المسلحة إلى القائد العام للقوات المسلحة. وهذا التعديل، الذي تم بالاتفاق مع حميدتي، كان غرضه سحب السلطة من رئيس الوزراء (أو رئيس الجمهورية) القادم، باعتبار أنه ليس عمر البشير، حتى لا يصبح الدعم السريع تحت سلطته الشرعية إذا أراد حلّه أو تفكيكه. قبل الدعم السريع بهذا، بطبيعة الحال، كأخف الضررين، فالبرهان حليف بينما الرئيس المتوقع غير معروف. وللتدليل على ذلك فقد توسعت مهام الدعم السريع في ذلك التعديل، خاصة وأن الدعم السريع صار وقتها لديه أعمال ومصادر دخل أخرى واضحة، كعملية الخرطوم مع الاتحاد الأوروبي وكحرب الارتزاق في اليمن (التي شاركت فيها القوات المسلحة كذلك ولكن كانت أغلبية المشاركة من الدعم السريع). كما أن قوات الدعم السريع بدأت تأتي من دارفور إلى الخرطوم بكميات كبيرة وتستقر في أماكن متفرقة بسماح الجيش (والذي منذ ذلك الوقت ظهرت أصوات داخلية فيه – أي الجيش – تعترض على هذه الخطوة). واستمر تجنيد الدعم السريع حتى وصلت قواته إلى حوالي 70 ألف مقاتل في 2019. أيضا، في ذلك التعديل، تم إلغاء مجلس قوات الدعم السريع (الذي لم يتشكل أصلا ولم تحصل أي خطوات في تشكيله) ونقل صلاحيات المجلس لقائد الدعم السريع مباشرة، وهو كما نرى تأكيد لتبعية الجنجويد لحميدتي مباشرة. كما منح التعديل صلاحيات قرار لحميدتي تدخل في الشؤون الخارجية (وتجعله يتعامل مباشرة مع الجهات الخارجية المعنية بحرب اليمن وعملية الخرطوم).

ثم جاء التعديل الثاني للقانون، في نفس الشهر، وفيه ألغيت المادة 5 من قانون الدعم السريع والتي تفيد خضوع الدعم السريع لقانون القوات المسلحة 2007 في حالات الطوارئ (وهي كانت مادة مسنودة مسبقا بكون القائد الأعلى للقوات المسلحة – أي رئيس الجمهورية – هو الذي يقرر في هذا الشأن، فصار ينبغي إزالتها لمصلحة الدعم السريع بعد أن لم يعد رئيس الجمهورية هو صاحب القرار، كما أن قيادة الدعم السريع لم تكن مرتاحة لهذه المادة منذ البداية). كما تم إسقاط كلمة “الدمج” من القانون بإلغاء سلطات رئيس الجمهورية. ومن الواضح أن هذا التعديل الأخير أكّد حقيقة أن الدعم السريع عبارة عن جيش موازي للجيش النظامي، أي ميليشيا موازية (paramilitary group) بقدرات جيش، وبصلاحيات سياسية واقتصادية في يد شخص واحد ومن حوله (ومن حوله هؤلاء هم طبعا أعضاء أسرته وعشيرته، الذين عيّنهم في مواقع مفصلية في مليشيا الجنجويد وفي إقطاعياتها الاقتصادية وأذرعها الإعلامية). وبهذا فقد صارت صلاحيات وسلطات حميدتي في الدعم السريع وتفرعاته أكبر حتى من سلطات البرهان في القوات المسلحة النظامية للدولة، خاصة في الأمور المالية والإدارية ومسائل التجنيد والعمليات، والتي هنالك قوانين ولوائح بخصوصها تحد من سلطات القائد العام للقوات المسلحة، بينما لا توجد داخل الدعم السريع.

لا ننسى كذلك، أن حميدتي حصل على ترقيات سريعة، متتالية، غير مسبوقة في تاريخ الجيش، فمن لواء في 2017 إلى فريق في 2019. ومع اندلاع حرب أبريل 2023، كان حميدتي فريق أول. فلو كانت قوات الدعم السريع وحدة نظامية جديدة تضاف للقوات المسلحة بصورة قانونية واضحة لكان من الصعب جدا تبرير هذا الأمر، لكن استشرى هذا العبث وهذا الباطل حتى اعتاده الناس، ثم ما لبث حتى صار الكثير يتعاملون معه كشيء طبيعي ولا يستدعي المساءلة.

عبر تلك التعديلات، غير الدستورية، وفي تلك الفترة، امتدت يد حميدتي للتعامل مباشرة مع الإمارات، كما توثقت شراكته مع شركة فاغنر الروسية وتعاونا في التدريب وفي التنقيب عن الذهب (فصار تصدير ذهب دافور إلى الخارج مباشرة “بزنس” خاص يتبع لآل دقلو، بدون وجه حق وإنما بوضع اليد ومباركة السلطة المستبدة. وتمددت قواته في العدد والعتاد وفق إرادته (فقانون الدعم السريع يعطيه حق التمدد والزيادة بدون موافقة أي جهة خارجية) فصارت متساوية في الحجم مع الجيش النظامي.

والآن ما زالت قوات الدعم السريع تتبع لشخص، ومعه أسرته التي عيّنها في مواقع قيادية عليا في قواته وفي الشركات التابعة لها، أي أن الدعم السريع ليس مؤسسة دولة وإنما إقطاعية (حسب تعريف الإقطاعيات في عهود ما قبل الدولة العصرية). تأتمر تلك القوات جميعا بأمره كشخص (ومن بعده أعضاء أسرته الذين يحتلون المواقع الكبرى)، والانضمام لها لا يكون وفق التزام سياسي إنما كوظيفة ذات عوائد مجزية، ومنه تأتي رواتبها وامتيازاتها، وهذا الشخص صعد هيكل السلطة في الدولة بصورة لا تشبه أي شخص آخر في تاريخ السودان الحديث، وبدون مؤهلات متكافئة مع ذلك الصعود (غير مؤهلاته الأساسية في النجاح الكبير في تلبية أوامر الكيزان مسبقا في التنكيل بمواطني دارفور وقتلهم، والتنكيل بالمتظاهرين المدنيين، ومحاربة حركات المقاومة المسلحة، ذات القضية السياسية الحقيقية ضد الكيزان، بكفاءة). وهذا الشخص مستمر الآن في إيفاء قواته بمستحقاتها بينما لا تأتي تلك المستحقات من خزنة دولة السودان، ولا تأتي إمداداتها العسكرية من داخل السودان أو من حواضن اجتماعية سودانية محلية ذات رؤية سياسية واضحة ومعبّر عنها. كل ذلك يأتي من الخارج، ووفق مقابِل بالتأكيد، فما الذي تبقى لكي نصف هذه الحالة الجنجويدية بما تستحقه، وهو أنها الآن مليشيا-إقطاعية تخوض حرب وكالة على السودان وشعبه؟

< القوى المدنية وتوفير الغطاء الشرعي للجنجويد >

الجدير بالذكر أن التعديلين في قانون الدعم السريع، في يوليو 2019، كانا فاقدين للدستورية بصورة أوضح، فالمجلس العسكري استلم السلطة بعد سقوط البشير بصورة تلقائية وليس بأي صفة شرعية، ثم شرع يفاوض قوى الحرية والتغيير في ما كان يفترض أنه عملية تسليم للسلطة للمدنيين وقوى الثورة. لكن المجلس العسكري ماطل، ثم قام بجريمة فض الاعتصام، ثم عادت قحت للتفاوض معه، ثم قام بتلك التعديلات تحسبا لما سيأتي.

بيد أن قحت أعطت تلك التعديلات شرعية لا تستحقها، وذلك عبر توقيعها وإقرارها للشراكة والاستمرارية للمجلس العسكري. ولذلك فعندما نقول إن مسؤولية قحت والحكومة الانتقالية المدنية كبيرة فليس لأنها هي التي أنشأت الجنجويد وإنما لأنها منذ ذلك الحين لم تقف الموقف الصحيح وتركت هذه المسائل الخطرة تتمدد تحت نظرها، بل وفّرت لها غطاء شرعيا أكثر من مرة.

ثم في الفترة الانتقالية، وتحت عين الحكومة المدنية وقيادة القوات المسلحة، توسع الدعم السريع في السودان كله، وزادت قواته حتى أصبحت في حجمها تساوي قوات الجيش (مع ارتفاع الفوائد المادية والصلاحيات الرسمية لمنسوبي الدعم السريع مقارنة بمنسوبي الجيش، وبصورة واضحة)، وتمددت الإقطاعية الاقتصادية والإعلامية لآل دقلو، بصورة لا تحصل في أي دولة على قدر بسيط من احترام المؤسسات واعتبار العواقب الخطيرة لمثل هذه التطورات. تم كل ذلك تحت مرأى ومسمع، بل ومباركة، السلطة الانتقالية، بشقّيها المدني والعسكري، بل إن بعض الساسة المدنيين استمرأوا التقرب من حميدتي وفتح العلاقات معه. وليس لأن حميدتي صار فجأة رجل مدنية وسلام، ففي نفس تلك الأيام كان الدعم السريع مستمرا في ارتكاب الانتهاكات الموثقة حول السودان، وبصورة تشبه تاريخه الدموي واسترخاصه لأرواح الناس وأعراضهم من أجل تمدد السلطة والثروة.

وهذا الأمر بعيد السوء، وكبير الجريرة على المدى المتوسط والبعيد، ولا يمكن تبسيطه أو اختزاله في أن القوى المدنية إنما كانت قليلة الحيلة أو كانت تريد حقن الدماء، فلو كان هدف القوى السياسية المدنية حقن الدماء عن طريق الخنوع للباطل الواضح ولتمدد القهر لكان الأفضل الإبقاء على البشير وتوفير الدماء والتضحيات التي قامت لإسقاط نظام الكيزان، وليس الطلوع على ظهر الثورة بعد نجاحها عالي التكلفة للانتكاس بها مرة أخرى عبر التقرب والخنوع لقياصر جدد لا يقلّون بشاعة وخبثا عن سابقيهم، بل هم في الأصل صنعة النظام الوحشي الساقط وورثته وتلاميذه النجباء.

من الملفت للنظر أن بعض الكتابات التي جاءت في الرد على مقاليّ السابقين، كانت خير نموذج على ما ذكرناه من أن هنالك خطابا مقلقا وسط أناس نحترمهم ونحبهم، وهو خطاب يلخص الحرب على أنها بين الكيزان والجنجويد، ومن ثم يقول إن الجنجويد أقوى موقفا من الكيزان، وبالتالي يوفر غطاء شرعيا واضحا للجنجويد في هذه الحرب. وهنا يكمن حديثنا عن خطورة اختزال هذه الحرب على أنها حرب بين هذين الطرفين باختصار، لأن هذا الاختزال يمهّد لمواقف خطيرة كهذه.

وبينما ما زال هنالك بيننا من يحاول تخفيف خطر الجنجويد، بصورة محزنة، لدرجة الإشارة إلى أن قيادة الجنجويد خلقت علاقات جيدة بين آل دقلو وبين زعماء قبائل وإدارات أهلية، وزعماء صوفية، كما قال آخرون في الفترة الانتقالية إن قائد الجنجويد منح بعض النقابات أموالا، وأن بعض الناس حوله يشيدون بشخصيته، إلخ، من قبيل الأشياء المعروفة بحملات العلاقات العامة (PR campaigns) والتي يقوم بها حتى أشرس زعماء المافيا والسلطويين الشموليين (حتى البشير نفسه كان يفعل مثل هذا) في نفس الوقت الذي يواصلون فيه ممارساتهم الوحشية وأهدافهم الضارة في جهات أخرى، صارت حتى الجهات السياسية الخارجية تؤكد جرائم الجنجويد. بل إن تلك الجهات الخارجية لم تؤكد على أن حرب الدعم السريع يخوضها بدعم مباشر من الإمارات فحسب (أي حرب وكالة)، بل صار الكونقرس الأمريكي نفسه يوجه إدانة للإمارات في تدخلها هذا، ويضغط على الرئاسة الامريكية لاتخاذ موقف أقوى بهذا الشأن، بعد أن صارت التقارير العالمية موثقة تماما لجرائم الجنجويد ولقيام تلك الجرائم بالدعم العسكري واللوجستي والمالي والدبلوماسي الخارجي. ولا نقول إن موقف الكونقرس والإعلام الأمريكي مرجعية بالنسبة لنا، لكن نقول إن حتى هؤلاء صاروا غير قادرين على مجافاة هذه الحقائق.

ومن المعتاد مؤخرا أن يقول من هم في خط قحت إنهم ثابتون “في إدانة الطرفين” (أي الجيش والجنجويد)، لكن تلك الإدانة لا تلبث كثيرا حتى تتكشف أحيانا كمرافعة عند مقارنة حميدتي كشخص مقابل البرهان كشخص (بينما الاثنين خطرين على السودان وشريكين في الجرائم حتى وقت قريب، وبينما نحن لا نتحدث عن مقارنة بين شخصين سيئين هنا ولا تهمنا تلك المقارنة أصلا) وتصديقا لبهلوانياته السياسية غير الجديدة أحيانا أخرى، وتصديقا عاما لإعلام الجنجويد، بحيث يصعب في الخلاصة أن نضع أيدينا على تلك الإدانة للطرفين. كون أن حرب الجنجويد هذه حرب على الشعب السوداني وعلى مستقبل الدولة – أي الصفة الفعلية للحرب وليس الوصف الإعلامي لها – صار أمرا واضحا، ويتضح أكثر كل يوم، بحيث أن الكثير من مجموعات الشعب توثقت منه وحتى الجهات الخارجية تؤكده، وهو موثّق بصورة لا تترك مجالا لكذب الجنجويد وتضليلهم بالفنيات الإعلامية وحملات العلاقات العامة. نشير هنا مرة أخرى إلى العبارة السهلة الممتنعة لجيمس بولدْوِن (والتي تعبّر عن المنهجية المتينة التي علّمتنا لها المدرسة الجمهورية): “لا أصدق ما تقوله، لأني أرى ما تفعله.”

ومن مشايعي قحت (ومنهم أساتذة بالنسبة لنا، ونحبهم ونحترمهم) من برّروا نسبيا للدعم السريع جرائمه وحربه بأن الحروب هكذا تكون، وأن الدعم كحركة ذات سلاح تفعل ما تفعله أي حركة ذات سلاح في حالة الحرب، ولذلك فالمشكلة ليست في الدعم السريع وإنما في الحرب نفسها. نفس هؤلاء المبررين لا يمكن أن يكونوا غافلين عن الفروقات الكبيرة بين الدعم السريع وبين الحركات السياسية المسلحة في تاريخ السودان الحديث، فالجنجويد لا يشبهون الحركات المسلحة لا في نشأتهم ولا في تكوينهم ولا في طريقة خوضهم للحرب. ومن المعروف والموثق أن الحركات المسلحة السودانية، في حروبها التي خاضتها ضد السلطة المركزية (خصوصا ضد نظام الإنقاذ) كانت عندما تجتاح مدينة وتنتصر فيها على الجيش، تعمل على أن تعود الحياة المدنية اليومية فيها خلال فترة وجيزة، وفي العموم لا تعتدي على الناس وعلى ممتلكاتهم بل تقدم لهم خطابها التحرري من السلطة المركزية وتحاول إدارة شؤونهم كحكومة مناطق محررة. من المسيء جدا لسيرة تلك الحركات المسلحة أن نقارنها بالدعم السريع. وهذه الحركات نشأت عبر تخلقات شعبية من حواضن اجتماعية ظلمتها السلطة المركزية، وتبلورت لها رؤية سياسية تعمل على تحقيقها بالعمل المسلح والعمل السياسي معا. أما الدعم السريع، فأنشأه الكيزان، وسلّحه الكيزان، وأطلق يده في الشعب الكيزان، والوحيدون الذين صفقوا له وهللوا له هم الكيزان، ثم إنه مارس الآن نفس ما مارسه تحت غطاء حكم الكيزان: لا يدخلون مدينة أو قرية إلا ويبدأ الانتهاك والنهب، وترويع المدنيين بالصورة التي تؤدي إلى نزوح كبير في أيام معدودة (تماما كما كانوا يفعلون في دارفور تحت حكم الكيزان، وبمباركة الجيش وتدريبه). وللأمانة فالجنجويد متسقون في طريقتهم وفي طبيعة مليشياتهم، لكن المتذبذبين هم من يحاولون توفير غطاء سياسي لهم، على حساب الشعب ومستقبل الدولة، وفق سرديات تخفف من خطورة الجنجويد عن طريق وصف ما يفعلونه، باختصار، أنه فقط حرب “ضد الكيزان والفلول”.

إن موقف القوى المدنية – التنظيمات والأفراد – الذين يوفرون غطاء شرعيا واضحا للدعم السريع، يذكرنا بقصة من أزانيا (جنوب افريقيا). ديزموند توتو، الشخصية ذات الرصيد النضالي الكبير وأحد رموز لاهوت التحرير حول العالم، في السنوات الأخيرة شنّ نقدا قويا على حكومة المؤتمر الوطني الافريقي، والتي تضم الكثير من رفاق النضال سابقا ضد نظام الأبارتيد. في واحدة من هجماته، قال توتو إن حكومة المؤتمر الوطني الافريقي أسوأ من حكومات الأبارتيد. بطبيعة الحال كان تصريحه ذلك صاعقا للجميع. أردف توتو: لأن حكومات الأبارتيد فعلت ما هو متوقّع من نظم شمولية مثلها، بينما الحكومة الحالية هذه نحن قدّمنا تضحيات كثيرة وبذلنا طاقات كبيرة من أجل أن تأتي وتعمل ما نتوقعه منها (أو تجتهد في سبيله بصورة ملموسة)، ثم جاءت هي وتصدت علانية لمهمة تحقيق أهداف النضال، ثم خذلتنا شر خذلة.

قصي همرور
9 يناير 2024


حول الاقتلاع والموت الطبيعي (4)

كما جاء في المقال الثاني، فالجنجويد (الدعم السريع) يمثلون الفوضى في مقابل القانون الظالم، وذلك لا يعني المقارنة بينهم وبين الجيش (أو الكيزان)، فهذه المقارنة تقوم فقط في أذهان الذين يختزلون هذه الحرب إلى مواجهة “بين الكيزان والجنجويد” أو “بين الجيش والدعم السريع” (عندما يقولون، في اختزالهم الآخر، أن الجيش ليس سوى قوة تابعة للكيزان). لكن نحن منذ البداية قلنا إن هذا الاختزال خاطئ وخطير، بل إن أساس مقالاتنا هذه نقد هذا الاختزال. والأسوأ من هذا الاختزال أن يتم “اختزال الاختزال” لتصبح المقارنة فقط بين حميدتي والبرهان، كأشخاص، والحكم على الأمور من تصرفاتهم كأشخاص.

عندما أشرنا إلى عنصر الفوضى أشرنا إلى تقويض الجنجويد لما تبقى من مقوّمات مستقبل الدولة ومقومات المجتمع الحديث في أي منطقة يجتاحونها (وذلك بخلاف ما تفعله الحركات المسلحة التي قاتلت الكيزان عقودا من الزمن)، وهذا ما يجعل الجنجويد ممثلين للفوضى، أو انهيار مقومات المجتمع الحديث. وفي نفس الخط ذكرنا نموذج الاستعمار والفاشية فقد استعملناه لتوضيح أن بعض الديناميكات التاريخية تأتي لك بخطر جديد يأخذ الأولوية ولا يعني أن أعداء الأمس (الجيش والكيزان) صاروا حلفاء اليوم وإنما الجنجويد خطر جديد وماحق.

وجِماع الهدف من هذه المقالات ليس المرافعة عن وجهة نظر معيّنة، ومن زاوية معيّنة، فحسب، إنما مساءلة ذلك الاختزال الخطير تحديدا. فعندما يصبح فهم طبيعة هذه الحرب، وفهم تعقيداتها ومآلاتها، فهم أفضل، يمكن أن تكون هنالك عدة مقترحات وخطوات ممكنة، او قابلة للتداول، في كيفية إيقافها والتخلص من مسبباتها. لكن الفهم الاختزالي وغير السليم لا يمكن أن نبني عليه اقتراحات وخطوات سليمة.

المشكلة الكبرى في اختزال الحرب انها بين الكيزان والجنجويد، أنها تبسّط مشهدا معقدا وتقود، من ثم، إلى مواقف مختزلة وغير سليمة، أهمها أننا عندما نتعامل مع الجيش ببساطة باعتباره جيش الكيزان، فهذا يدفعنا نحو موقف تخفيف خطر الجنجويد وتقليله عن طريق مقارنتهم بالكيزان فحسب، وهذا اختزال آخر خطير جدا، فبدل أن نتعامل مع الجنجويد كأحد أكبر تجسدات شر الكيزان، وامتدادا من امتداداتهم وكوارثهم، وكقوة تشتغل حاليا وفق دعم وتوجيه خارجي لديه مطامع تضرنا جميعا، نتعامل معهم ببساطة كقوة أخرى دخلت في حرب مع “الكيزان والفلول”. خطورة الاختزالية هنا أنها تقود لمواقف قليلة الحكمة وضعيفة النظر للمدى البعيد للأمور.

في هذه المقالة، نعود للحديث عن تعقيدات الوضع، عن طريق الاستطراد فيما يخص القوات المسلحة السودانية، ثم العودة لمشكلة تضخيم بعبع الكيزان.

(ملحوظة: في هذه المقالات، استعملنا مفردة الكيزان للإشارة لجماعات “الاخوان المسلمين”، ورأى البعض أن هذه تسمية غير مناسبة في هذا السياق. هنالك جدل حول هذه المسألة، ونحن لم نحسم موقفنا فيه بعد، لكننا بدأنا هذه المقالات باستعمال المفردة وسنواصل فيه، لاتساق اللغة والمصطلحات في سلسلة المقالات، ثم ننظر في الموضوع مستقبلا)

< القوات المسلحة السودانية كخطر قديم يواجه في مستواه >

من ضمن ملاحظاتي الخاصة، أني في كل مرة أتناقش بالتفصيل مع أي من الذين يتبنون موقف “الجيش جيش الكيزان”، أجد أنهم لا يتفقون على الحيثيات التي تقودهم لتلك الخلاصة. مجمل من ناقشتهم في تبيان هذا الأمر، أو من كتبوا بأنفسهم يوضحونه، يقدمون سرديات متباينة وغير متسقة فيما بينها، ثم يخلصون إلى نفس العبارة، أو، كما يقول البعض مبالغة، إن الجيش “مليشيا تتبع لتنظيم المؤتمر الوطني”. في كل مرة – حتى الان – دخلنا فيها في التفاصيل، نجد أن هذا الموقف الواثق لا يسند نفسه بالأدلة الكافية.

من المفهوم والمقبول أن الكيزان مؤثرين في الجيش بصورة كبيرة ولديهم ضباط كبار في الجيش (سواء كانوا أنفسهم كيزان أو مرتبطين معهم أكثر من غيرهم بشبكة مصالح قوية)، لكنه يختلف كثيرا عن تضمين المؤسسة كلها تحت الإمرة التامة للكيزان، كما ذكرنا من قبل، فهنالك تعقيدات مهمة للصورة الكبيرة في هذه الحرب.

القوات المسلحة كمؤسسة أقدم من جملة الأحزاب التي استغلتها في الانقلابات (إذ أصلها قوة دفاع السودان، ولم تتغير هيكليا أو ثقافيا كثيرا بعد خروج المستعمر) وهي كمؤسسة لم تكن يوما بالضرورة مؤسسة وطنية، حتى قبل الكيزان بكثير، فقد بدأ الجيش تقتيل المواطنين السودانيين المدنيين منذ خمسينات القرن العشرين، في جنوب السودان، تحت حكومة المحجوب الديمقراطية. ورغم أن أي نظام حكم أتى حاول استمالة ضباط القوات المسلحة ايديولوجيا إلا أنه لم يحصل ان كانت يوما طوع بنان أي نظام حكم بصورة كاملة، ولهذا بقيت مستودعا للانقلابات المضادة (الأمر الذي يفسر سعي الكيزان لإضعافها ولصنع بدائل تحميهم منها). لكنها كذلك لم تمانع يوما ان يتم استخدامها كمخلب لنظام الحكم لقهر الشعب السوداني نفسه أو فئات منه (لأنها كما قلنا ليست مؤسسة وطنية بعد، بل تركة استعمارية في تكوينها وفي محركاتها).

أيضا من المهم الإشارة إلى المعلومة الموثقة وهي أن اختراع المليشيات الموازية للجيش ليست بدعة نظام الإنقاذ (الكيزان)، إنما فعلتها حكومات سودانية سابقة (منها حكومات ديمقراطية)، في حروبها مع حركات المعارضة المسلحة، وساهم الجيش في مباركتها واعتمادها وتدريبها كما ساهم في تدريب الجنجويد. فمشاكل القوات المسلحة السودانية أقدم من الكيزان، إذن، وذلك ليس غريبا، فإن صعود الكيزان أنفسهم للسلطة كان نتيجة لضعف الممارسة الديمقراطية والحوكمية في السودان، منذ أيام سيطرة الطائفية على الحكم. الكيزان أكبر وأسوأ تجلي لفشل الصفوة السودانية – وريثة الحكم الاستعماري – في عملية بناء الدولة السودانية العصرية. لكن القوات المسلحة السودانية، حالة أعمق ضمن تلك الصورة الكبيرة الفاشلة، لأنها ذات خصوصية، إذ هي مناط احتكار القوة الإجبارية للدولة الوطنية (العصرية)، لكنها لم تتحول لمؤسسة وطنية في مجمل هيكلتها بعد الاستقلال السياسي، لأنها حافظت على هياكل وتقاليد عسكرية عقيمة، وشبكات مصالح وأولويات معزولة عن المجتمع الذي تنبع منه ويفترض أنها تنتمي له.

و⁠رغم محاولات الأدلجة والاستمالة، ظلت القوات المسلحة قادرة على أن تصبغ المنضمين لها بصبغة عامة حتى لو جاؤوها من خلفيات مذهبية متباينة، وهذا مفهوم في علم الاجتماع بأن المؤسسات القديمة لديها ثقافتها الداخلية وقوالبها ومصالحها الداخلية التي تصبغ جملة أعضائها مع الزمن. لذلك فبعد أكثر من عشرين سنة من حكم الكيزان قاموا بإنشاء مليشيا قوية العدد والعتاد ومصروف عليها بصورة عالية (مرتب جندي الدعم السريع يفوق مرتب الضابط المتقدم في الجيش)، وصارت من الناحية القانونية والهيكلية بمثابة جيش ثاني في نفس الدولة؛ ومن المعروف في علم السياسة أن أي دولة بها جيشين متوازيين إنما هي تتهيأ لحرب داخلية، لأن وجود جيشين متوازيين هيكليا في دولة واحدة لا يمكن أن يؤدي إلى استقرار سياسي، بل هو بداية حرب ستشتعل ولو بعد حين. لا يمكن تجاوز هذه الحقيقة، ولا يمكن تفسيرها إلا بأن الجيش والكيزان ليسا جهة واحدة – بحيث لا يصح أن نقول إن الجيش جيش الكيزان، أو أنه مليشيا تتبع للمؤتمر الوطني – لكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال تبرئة الجيش. لذلك من المهم اصطحاب الصورة الكبيرة المعقدة.

من الواضح، والموثق، كذلك، أن تناقضات كثيرة داخل الجيش ظهرت للسطح، في الأخبار الموثقة، عبر حكم الكيزان وفي السنوات الأخيرة وحتى أثناء هذه الحرب. بينما يمكن وصف الضباط في هرم الجيش بأي وصف كيزاني (فهم إن لم يكونوا كيزان فلديهم شبكات مصالح قوية مع الكيزان) لا يمكن أن نصف الجيش كله، كمؤسسة، بجملة أعضائها ورتبهم وهياكلها، بأنه تبع الكيزان. والشواهد على ذلك كثيرة، منها الغبن المتصاعد من ضباط الجيش الصغار وضباط الصف تجاه الدعم السريع (ففي أيام الكيزان حصلت مناوشات موثقة بين وحدات من الجيش وبين الدعم السريع في دارفور، وعندما اعتدى الدعم السريع اعتداءات مهينة على بعض كبار ضباط الجيش لم يُحاسَبوا–هذا في زمن الكيزان أنفسهم، ويفسر الكثير)، ومنها حصول حالات متعددة من خلافات داخل الجيش، ظهرت للسطح وتوثقت في الأخبار، وقضت بتحويلات ونقولات في المناصب في زمن الكيزان وأثناء حكم البرهان (ولا ننسى الضباط الذين حاكمتهم القوات المسلحة – أو بالأصح قيادة القوات المسلحة – لوقوفهم مواقف تختلف من أوامر قيادة الجيش تجاه الثوار، في 2019، فبعض الضباط انحازوا عمليا للثوار في لحظات متعددة، فهل هؤلاء كيزان؟ خصوصا وأنهم ضباط صغار أي دخلوا الكلية الحربية في زمن قبضة الكيزان). بل حتى قبل هذه الحرب خرجت الكثير من التوثيقات على استياء الكثير من الضباط من قيادة البرهان، والضغط عليه لوقوف مواقف أقوى تجاه توغل الدعم السريع واستشرائه وتضاعف أعداده، ثم أثناء الحرب كذلك ضغطت عليه (وسنعود لموضوع البرهان بعد قليل). ومؤخرا صار بعض الضباط يخرجون تسجيلات وفديوهات مباشرة تعبر عن موقفهم المغاير لموقف قيادة القوات المسلحة، فهل كل هؤلاء الضباط كيزان وتحت تنظيم سياسي واحد؟ ألم يمروا جميعا بالكلية الحربية التي يقول البعض انها ومنذ زمن لم تعد تقبل إلا أعضاء في الحركة الإسلامية؟

[ومن المعروف كذلك أن الدعم السريع به عدد كبير من ضباط القوات المسلحة، الذين شاركوا في تدريب جنود الدعم السريع، بانتداب من الجيش، ثم بقوا بعد ذلك مع الدعم السريع، أي انضموا له، وحصلوا على امتيازات أكبر في الانضمام له، وبعضهم استمر مع الدعم السريع في هذه الحرب، فهل هؤلاء أيضا كيزان، باعتبار أنهم تخرجوا من الكلية الحربية في زمن سلطة الكيزان؟ ناهيك عن الكيزان المعروفين الذين كانوا منذ البداية في صفوف الدعم السريع، في مناصب استراتيجية ومؤثرة، واستمروا فيه، الأمر الذي يجعل الدعم السريع نفسه مليء بالكيزان والفلول الذين يزعم أنه يحاربهم].

ومن الغبن الكبير الذي تراكم عند الجيش إجمالا تجاه الكيزان، ان الجيش بعد انتهاء حرب الجنوب، باتفافية السلام الشامل، كان متعبا ومثخنا وبحاجة لإعادة تأهيل كبيرة، في العدة والعتاد والدعم العام لجنوده وضباطه؛ لكن الجيش وجد أنه ومنذ تلك الفترة فقد التفت الكيزان ووجهوا مواردهم واهتمامهم الأكبر إلى المليشيات في دارفور وتسليحها وتدريبها وإثراء قياداتها.

أما البرهان، باعتباره رأس الجيش حاليا، فهو نموذج على هذه الأزمة المعقدة داخل الجيش. فحتى لو افترضنا أن البرهان نفسه كوز (وهو في نظرنا يستحق أي وصف سيء وربما زيادة) فسيكون من الواضح أن تململ العديد من الضباط منه، وصراعات السلطة والسياسة داخل الجيش (والتي خرج الكثير منها للعلن مؤخرا) وفقدانه للسيطرة الكاملة على الجيش، وعمله مع حميدتي طيلة السنوات الماضية على إعلاء شأن الدعم السريع على حساب الجيش، إنما هو دليل على أن الجيش ليس مجموعة صماء ومتوحدة وتتبع تنظيما سياسيا واحدا. في مجمل الأحوال لا يمكن اختزال تعقيدات الجيش حاليا، وأنه هو نفسه في ورطة كبيرة حاليا، إلى أنه يتبع للكيزان باختصار. ما يحصل للجيش حاليا هو حصاد سنوات من التصحير والإضعاف على يد الكيزان، الذين رغم توغلهم فيه لم يثقوا فيه تماما، وهو كذلك حصاد المشاكل الهيكلية الموروثة في المؤسسة العسكرية منذ ما قبل الاستقلال وحتى الآن، وهو أيضا إحدى نتائج التخديرات التي أصابت الجيش من جرائمه العديدة تجاه الشعب السوداني في أطراف البلاد، عبر العقود، ومنها جريمة مشاركته في تدريب وتأهيل الجنجويد. لذلك قلنا، في مقالة بعنوان “مشروعية المرافعة عن مؤسسات الدولة ومشروعية مساءلتها معا”، بتاريخ 27 أغسطس 2023، “ولنلاحظ هنا ملاحظة مهمة، وليست عابرة، أن القوات المسلحة ما زالت حتى الآن تحت إمرة الضابط الذي ربما لعب الدور الأكبر بعد عمر البشير في تقوية وتعزيز وتمدد قوات الدعم السريع، وهذا تناقض سافر لا يمكن استسهاله، فوجود هذا الضابط في هرم قيادة القوات المسلحة حتى الآن خطر على القوات المسلحة نفسها، دعك من الشعب، لكن المشكل الهيكلي المتجذر في القوات المسلحة يجعلها تقبل بهذا الوضع بكل ما فيه من تهديد وإهانة لها.”

في نفس المقالة المذكورة عاليه، قلنا إن “مشكلة الجيش (القوات المسلحة) مشكلة هيكلية، بينما مشكلة مليشيا الجنجويد (الدعم السريع) مشكلة وجودية. الجيش بحاجة لإعادة هيكلة (تحدثنا عنها منذ ما قبل انتصار الثورة [كما تحدثنا عن أننا في إطار الدولة العصرية حاليا لا نستطيع الاستغناء عن قوات مسلحة تابعة للدولة، وإذا فعلنا فخيارنا الثاني هو أن نكون عبارة عن محمية تابعة عسكريا واستخباراتيا لقوة كبرى، مثل كوستاريكا مثلا والتي تتبع عسكريا واستخباراتيا للولايات المتحدة، ووضعنا سيكون أسوأ من كوستاريكا بالتأكيد]) بينما الدعم السريع بحاجة لأن يزول من الوجود (بحيث لا يصبح هناك شيء اسمه الدعم السريع، أو مسميات ومنظمات وارثة للدعم السريع أو مشابهة له، لا في مؤسسات الدولة ولا في قوى المجتمع المدني أو البزنس) [لأن طبيعة إقطاعية آل دقلو ومليشياتها منافية لطبيعة القوات النظامية وحتى الشركات الخاصة في الدولة العصرية]. هذه النقطة يعرفها الثوار منذ صدحوا:
“السلطة سلطة شعب، والعسكر للثكنات، والجنجويد ينحل”

مرة أخرى: لا نتعاطف مع الجيش، لأنه ما زال عقبة أمام التغيير الثوري الديمقراطي. موقفنا كان وما زال أن الجيش ليس وطنيا ومتورط في محاربة التغيير الديمقراطي وفي دماء الشعب، ولا نناصره (إلى أن يستعيده الشعب كأحد مؤسسات دولته، ويعيد هيكلته ويجعله مؤسسة وطنية فعلا)، لكن أيضا لا نتفق مع المقولة الاختزالية التي تقول إن الجيش جيش الكيزان، أو مليشيا مؤتمر وطني، فهذا وصف مختل وغير صحيح باختصار. وأي موقف يستند على هذا الوصف كعامل أساسي موقف غير سليم، بل قد يكون موقفا خطيرا في هذه الحرب لأنه يفتح الباب أمام مواقف أخرى تضر الشعب وتضر مستقبل الدولة. هذه المقولة الاختزالية خطرها في أنها تستعمل كشماعة في هذه الحرب تسهّل للكثيرين أن يتراخوا في الانتباه لخطر مليشيا الجنجويد على الشعب وعلى مستقبل الدولة، بل وتجعل تلك الشماعة بعضهم يطمئن في التعامل مع هذه المليشيا الدموية كمعادل موضوعي للجيش، بل وتجعلهم أيضا يوفرون غطاء سياسيا مهما للجنجويد عن طريق التعامل مع قيادة الدعم السريع كشخصيات سياسية تقود حركة سياسية مسلحة (مثلما فعلت قحت عمليا، وكذلك فعلت تقدم، وما تقدم إلا “قحت وزيادة”).

< عودة لمشكلة تضخيم بعبع الكيزان >

من المؤكد عندنا أن منسوبي جبهة الميثاق الوطني، أو مجموعة الاخوان المسلمين الذين عُرِفوا بهذا الاسم في منطقتنا، “يفوقون سوء الظن العريض.” لكن فيما نرى فإن البعض يحسن الظن بهم وهو يقصد إساءة الظن.

المعروف حول العالم أن التنظيمات الشمولية، أو الفاشية/القهرية، ذات التنظيم القوي والتخطيط الجيد، عندما تسعى لإحكام قبضتها على سلطة أي دولة، وتنجح في ذلك (عبر أي طريق)، فإنها بحكم قوة تنظيمها وتخطيطها تدير دولاب الدولة بصورة تخدم مصالحها واستمرارها بكفاءة، ومن تلك الكفاءة أن تكون دولتها – أي الدولة التي تحكمها – فعّالة في دواليبها وفي أداء ما يريدونه منها. مثلا، الحركات السياسية الفاشية، والنازية، عندما استولت على سلطة الدولة، أدارتها بكفاءة ناحية مصالحهم الداخلية والخارجية. أيضا، بين دول المنطقة، فالحركات القومية والبعثية، على ضيقها الفكري، تعاملت مع سلطة الدولة بجدية ومستوى من التخطيط والعمل الكفؤ عندما حازت على سلطة الدولة. صحيح أن النظم الشمولية لا تسعى لمصلحة جميع المواطنين، وإنما تكبّر من مصالح المنتمين لها والمؤيدين لها، وأنها في المقارنة ليست أفضل في إدارة دواليب الدولة من النظم الديمقراطية، لكنها من أجل أن تدير مصالحها السلطوية الضيقة، ومن أجل أن تمدد أهدافها الايدولوجية داخليا وخارجيا، تقوم بإدارة دواليب الدولة بمستوى جيد، ولو في الحد الأدنى، يعكس مستوى التنظيم والتخطيط داخل تلك الحركات والأحزاب السياسية. أما تاريخ نظام حكم الإنقاذ، فهو يوضّح أن الكيزان فاشلين تنظيميا وضعيفين تخطيطيا، حتى فيما يخص تحقيق أجندتهم هم وانضباط تنظيمهم هم. أولا تفّرقوا وتنازعوا وتحاربوا بينهم منذ بدايات الألفية، واستمر ذلك التنازع الحاد منذ ذلك الوقت، وثانيا فشلوا فشلا محققا في إدارة دواليب الدولة في المستوى الأدنى كما فشلوا في تحقيق أهدافهم الاستراتيجية التي زعموها (مثل إعادة صياغة المجتمع السوداني ومثل جعل السودان بؤرة للحركة الاسلامية العالمية). فشلوا في كل شيء ذي قيمة، وذلك لا يمكن أن يحصل مع مجموعة من الناس قوية التنظيم وعالية التخطيط، حتى لو كانت شريرة.

من حسن الظن الكبير بالكيزان أن نظن أنهم قادرون على تحريك عدة خيوط في حرب كبيرة ومعقدة كهذه – بعد أن خرجت أطرافها من سيطرتهم عدة مرات بوضوح، وبعد أن خسروا أمام عنفوان الشعب، وبعد تراكمات من غباء العمل والتخطيط من ناحيتهم – كيما يعودوا هم للسلطة، فهذه خطة شريرة تشبههم، لكن التنظيم والتخطيط والمتابعة المطلوبين لتنفيذ هذه الخطة ليست في قدراتهم (خاصة وأنهم متفرقون مشتتون مضطربون منذ سنوات). يمكننا أن نتفق على أن الكيزان ليس لديهم مانع في أن يحدثوا أي دمار وأي خسائر ممكنة في السودان (شعبا وأرضا) ليحصلوا على ما يريدون، لكنهم أضعف وأخس من أن ينظموا أنفسهم جيدا، ويخططوا وينفذوا جيدا، لتحقيق ذلك. ربما في فترة سابقة من فترات تطورهم كان لديهم شغل تنظيمي أفضل، لكن ذلك الشغل لم يصمد أمام السنوات والأحداث المتتالية، ففشلوا وتفرقوا، وأورثونا الكوارث في الواقع السوداني وفي مؤسسات الدولة من فرط ضعفهم التنظيمي والتخطيطي، (بله الضعف الأخلاقي البائن، الذي جعلهم يفسدون بسرعة مع السلطة، أسرع حتى من غيرهم من التنظيمات ذات التوجهات الشمولية والفاشية حول العالم). بثمارهم تعرفون مدى قدراتهم، ومن كانت هذه ثماره فمن حسن الظن به أن نظن أنه قادر على أن يخطط لجريمة كاملة ومنظمة جيدا لكي يعود للسلطة، حتى لو أراد ذلك.

[ومن الحجج الأخرى، الضعيفة، قول البعض إن زمرة من الكيزان أنفسهم أعلنوا عن كونهم المخططين لهذه الحرب وأنهم لن يوقفوها حتى يتخلصوا من قوى الثورة كافة. والعبث واضح في هذه الحجج، فمنذ متى صرنا نصدق الكيزان، وهم المعروفون بالكذب والخداع؟ ومنذ متى كان تضخيم العدو لنفسه ولقدراته في حملات إعلامية رخيصة، غرضها تكبير كومه، دليلا على ضخامته الفعلية؟]

ونحن نقول منذ سنوات إن ضعف نظام الإنقاذ كان بائنا فيهم منذ بداية الألفية، لكن ضعف المعارضة السودانية (تنظيميا كذلك وفكريا) غطى على ضعف الكيزان، فلولا ضعف المعارضة نفسها لظهر ضعف الكيزان سريعا. وربما حتى اليوم فإن ضعف القوى المدنية السودانية، وهشاشتها الفكرية والتنظيمية، هو الذي يجعلهم مشغولين ومهووسين بالكيزان للدرجة التي بها لا يستطيعون التفكير في الواقع السوداني باستقلالية عن “تروما” خوفهم الدائم من الكيزان. ولذلك قلنا أيضا إن الضعف الفكري والتنظيمي لقحت غطت عليه قوى الثورة بعنفوانها وصمامتها، فكانت نجاحات الحراك الثوري، حتى الآن، ليست بفضل قيادة قحت، وإنما برغم عثرات قحت وقلة تأهيلها.

والكيزان فعلوا في الجيش مثلما فعلوا بمقومات الدولة العصرية والمجتمع الحديث الأخرى في السودان، وبغباء (وليس دهاء) كبير. وفق كل ذلك، نعود إلى أن تأثير الكيزان على تعقيد الأمور الحالي لا يصح تضخيمه، لأنه ليس من مصلحة البلد. الكيزان ما زالوا أعداء للشعب، وهم من أورثونا هذه التعقيدات الكبيرة والكارثية، لكن تضخيمهم الآن، حاليا، في تفكيرنا وفي تحليلنا يجعل مواقفنا في هذه الحرب غير سليمة، ومن أكثر المواقف غير السليمة أن نوفر غطاء سياسيا شرعيا للدعم السريع عندما نقول إن هذه الحرب بين الكيزان والدعم السريع، بينما الدعم السريع يقود حربا ضد السودانيين جملة، وضد مستقبل أي دولة محترمة يمكن أن تقوم في هذه البلاد.

معركتنا مع الكيزان بدأت منذ عقود، وعملية اقتلاعهم بدأت (بدأها الشعب) وما زالت مستمرة، ومعركتنا مع الجيش كذلك ما زالت مستمرة، حتى تتم إعادة هيكلته وتصحيح ثقافة عمله وإرجاعه للثكنات. هذه معارك داخلية خبرناها كشعوب مجتمعات ما بعد استعمارية، وحققنا فيها الكثير من الانتصارات السابقة وسنبني عليها، وهي جزء من تخلّق الوعي الشعبي الجامع بطريقة إدارة شؤونه الداخلية، وتصفية الاستعمار، وصنع مشاريع وطنية جامعة ومتجاوزة لأي طموحات ضيقة. أما الجنجويد فهم أعداء للشعب كذلك، وهم خطر كبير ومباشر حاليا على الشعب وعلى مستقبل دولته. ما يسمى بقوات الدعم السريع إقطاعية ومليشيا ينبغي حلّها وتفكيكها، إذ لا مكان لها في مؤسسات الدولة العصرية ولا في اقتصادها ولا في كيانات الشعب المتنوعة والقابلة للتعايش، واستمرار هذه الإقطاعية يقوم على انهيار كل هذه العناصر في المجتمع السوداني الحديث.

قصي همرور
9 يناير 2024

 

رأي واحد حول “حول الاقتلاع والموت الطبيعي”

  1. التحايا والاحترام، في الجزء الأول أشار الكاتب إلى “نبوءة الأستاذ المتواترة” عن اقتلاع الكيزان من أرض السودان اقتلاعا، سؤالي هو هل ثبتت هذه المقولة في نسبتها للأستاذ محمود محمد طه؟ قرأت أكثر من مرة أنها لم تصدر عنه ولكن الكثيرين لا يزالون ينشرونها عنه، فهل لدى كاتب المقال قول فصل في ذلك؟ مع الشكر.

    رد

أضف تعليق