الشريكان المتربّصان، وخضم الثورة

[تم نشر هذه المداخلة، في الوسائط، في 29 أغسطس 2019، ونرى أنها إحدى المساهمات التي حاولت لفت النظر لأهمية قراءة عناصر التفاعل والاحتقان السياسي-اجتماعي حينها والتي كانت تستخلص مآلات المستقبل؛ ليس فقط من أجل انتظار تحقق تلك المآلات، إنما من أجل التهيّؤ لها حتى لا تأخذنا على حين غرّة.]
 
طرفا الاتفاق، كلاهما يتربّص للآخر.
[المقصود بالطرفين: قوى الحرية والتغيير، والمجلس العسكري الانتقالي، واللذين اتفقا على الشراكة في الحكم للفترة الانتقالية في السودان بعد أن أسقط الشعب السوداني نظام الحكم الذي ترأسه عمر البشير منذ يونيو 1989 حتى أبريل 2019، وقد كان ذلك الاتفاق باعتبار أن قوى الحرية والتغيير مفوضة من الجماهير لاستلام السلطة بينما المجلس العسكري كان في مجمله بقايا القيادات العسكرية التي ظلت بجانب البشير وشاركته جانبا كبيرا من مسؤولية الجرائم التي تمّت في عهده، ثم قاموا بتنفيذ ترتيبات عزله بعد أن صار جليّا أنه لن يستطيع الاستمرار وعيّنوا أنفسهم قادة جدد لملء فراغ الحكم.]
 
أما تربّص قحت للمعجا فكلنا معه،
وأما تربّص المعجا لقحت، فهو مكان البلبلة الحاصلة بين قوى التغيير عموما
[قحت اختصار شعبي سوداني لقوى الحرية والتغيير، والمعجا للمجلس العسكري]
 
لا شك أن المعجا يتربّص لقحت أن لا تقدر على لم شمل قوى التغيير بما يكفي، وأن تنخفض أسهمها مع الأشهر القادمة حين تظهر المشاكل في تعاملها مع ملفات الحكم المتعددة وحين تخفق في تحقيق مستويات تطلعات الشعب في حزمة التغيير الأساسية (وهي: تحسين الأوضاع الاقتصادية وإنجاز مقتضيات العدالة لضحايا النظام البائد ومكافحة مكامن الفساد، والوصول لوصفة معقولة لإيقاف النزاعات المسلحة، وطبعا تحقيق المشاركة السياسية الواسعة التي وُعِد بها الشعب، لا احتكار مناصب الحكم وتوزيعها على الدوائر المقرّبة). كلما تفشل قحت في تحقيق الحدود الأدنى من هذه المسائل كلما تخسر المزيد من مساحات التفويض الواسع التي حظيت بها في الشهور الماضية؛ وبذلك تخسر المزيد من شرعيّتها الانتقالية. ومع خسرانها ذلك تنفتح السيناريوهات المضمَرَة للشعب قبل نهاية الفترة الانتقالية.
 
والمعجا لا يتربّص لقحت في هذه المسائل لأنه ذكي، بل لأنها مسألة بديهية، فقحت منذ بداياتها كانت عبارة عن طيف واسع لا يلتقي إلا على أرضية هلامية. فأنت حين تأتي بجماعات تقدمية (لنقل مستواها 7 أو 8 من عشرة في أجندة تغيير الأوضاع الراهنة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا) وتؤلّف بينها وبين جماعات محافِظة (لنقل مستواها 2 أو 3 من عشرة في تلك الأجندة) ليلتقوا على أرضية مشتركة، فمن الطبيعي أن تحصل تنازلات من الطرفين لتحقيق هذا الائتلاف، ولو كان مؤقتا: والأرضية المشتركة ستكون متوسط ما بين الاثنين (أي بين 4 و 5 من عشرة تقريبا). فإذا نظرنا لحجم التضحيات الشعبية، والمثابرة، والتطلعات، وحجم البؤس الموجود في الأوضاع الراهنة مما يحتاج لتغييرات، فإن قيادة قحت للثورة لا يمكن أن تؤدي لتغييرات جذرية، أي التغييرات المستوفية لتضحيات وتطلعات الشعب. وهذا في أفضل الأحوال، أي إذا افترضنا وجود همّة كبيرة وجادة في تنفيذ تلك الأرضية المشتركة، وليس مجرد حماس لحظي وكلام سرعان ما تتلاشى طاقته أمام تحديات ومغريات الحكم. وصحيح أن قحت حاولت، وستحاول، احتواء هذا الأمر عن طريق نشر الخطاب الذي يقول بأن وحدتها – أي وحدة قحت – هي صمّام أمان التغيير، وأن من يعمل في خلاف خط تعضيد هذه الوحدة إنما يعمل ضد الثورة نفسها، لكن يصح القول لقحت أن “التسويه بإيدك يغلب أجاويدك”. لا يمكن تخويف الناس، لوقت طويل، ليشاركوا في وهمة جماعية مفادها أن الفسيخ شربات. لو كان ذلك ممكنا لنجحت فيه الإنقاذ 1، وهي التي وجدت من الزمن والموارد والتمكين أكثر بكثير مما وجدته وستجده قحت.
 
من جهة أخرى، فالمعجا يتكوّن حاليا من مكوّنين متمايزين بصورة عامة: من جهة، قوّات نظامية منهكة من آثار حكمٍ غير وطني وغير استراتيجي دام لثلاثة عقود، فأورث قاعدة من الجنود والضباط الصغار ذوي الأوضاع الاقتصادية المتعبة جدا والفهم السياسي الذي يندر أن يكون عاليا (أو حتى متوسطا) وسط تلك القاعدة، مع رصيد كبير من التورّط في قهر وقتل وتشريد المواطنين أنفسهم بدل حماية أرض الوطن ومكتسبات أهله؛ إضافة لقيادات عسكرية (من كبار الضباط) متورطين أخلاقيا وعمليا في جرائم النظام البائد وشبكات مصالحه. ومن الجهة الثانية، قوات موازية ليس لديها عقيدة قتالية مرتبطة بصيانة الدولة وسيادتها، بل وليس لديها حتى مقوّمات الولاء الكافي للهيكل القيادي، إذ العلاقة في الأصل عقد عمل بشروط اقتصادية مغرية (مرتزقة)، أي متى ما ترهّلت تلك الشروط ستظهر هشاشة تنظيم تلك القوات (وخطورتها كذلك)، وهي لا بد مترهّلة، عاجلا أم آجلا، لأن الارتزاق مهنة سوقها متموّج دائما، ولا يزدهر إلا في حالات الفوضى والنزاعات السياسية، وبالتالي فهذه القوات تميل بطبيعتها لتفضيل أوضاع عدم الاستقرار، حتى لو قامت بحفزها أو خلقها بنفسها؛ وعليه فقوات كهذه لا يمكن أن يُتوقّع منها أن تستثمر في مساعي تحقيق الاستقرار السياسي والسلام العام (وإن تظاهرت بذلك لبعض الوقت)، إذ بمجرد نضوب مصادر الدخل الحالي ستسعى إما لتمديدها أو خلق مصادر دخل أخرى من أجل بقائها. هذان المكوّنان في المعجا كلاهما متوتر ومتوجس تجاه الآخر، وتجاه الشعب الثائر عموما، وتجاه حركات المقاومة المسلحة (خصوصا تلك التي لديها قوة عسكرية حقيقية وعقيدة قتالية مستدامة)، ولا غرو.
 
فالسؤال الجدير هو، إذن، ليس “هل سينجح هذا الاتفاق؟” هذا احتمال ضئيل جدا، يجوز تجاوزه في التحليل السياسي. السؤال الجدير هو “متى وكيف سيفشل الاتفاق، وعن أي السيناريوهات البديلة سينبثق؟” ثم يمكن أن نضيف قائمة أسئلة أخرى من شاكلة: هل ما زالت لدينا الآن فرص في توجيه الأوضاع نحو سيناريوهات نحن أكثر استعدادا لها؟ وهل لدينا من الفهم والأدوات الحالية ما يتيح لنا ذلك؟ وكيف نستثمر إيجابيات الثورة وامتداداتها الآن، في سبل التنظيم والابتكار والصمامة التي بنتها قطاعات الشعب، رغم كل ما جرى من سلبيات تحريف الثورة عن مسارها الأصلي؟ وكيف وكيف…

[نُشرت المساهمة أدناه، في نفس الموضوع، في الوسائط، في 18 يونيو 2019، بلغة الكلام السودانية]
 
باعتراف قحت الصريح، في مؤتمرها الصحفي بالأمس، وعلى لسان الأصم، انتقل الحراك الآن لديهم من الثورة إلى التسوية. والثورة والتسوية نقيضان لا يجتمعان.
 
وهذه التنازلات لـ”معس” (المجلس العسكري الانقلابي) (وهو بصريح عبارة قحت إنما هو نفسه اللجنة الأمنية لنظام الإنقاذ 1) لن تجعله يستجيب لمطالب الثورة، بطبيعة الحال. من يظن ذلك إنما يعبّر عن سذاجة غريبة أو محاولة مستميتة لإنكار الواقع. معس سيتجرّأ أكثر، وسيرى أن كسر ممثلي الثورة ممكن وينبغي المزيد منه، حتى يسرقها كاملة ويستفرد بالسلطة (وهو مبتغاه الأول منذ البداية).
 
ربما تظهر حكومة تسيير قريبا، يشكلها معس، مع وعود بانتخابات قادمة. وربما لا تظهر. لا يهم. المهم أن معس كلما عاملته قحت كشريك محتمل في الحكم كلما أدرك أكثر أنه قادر على اللعب بهم وإكمال سرقة الثورة.
 
الأمور دي عاوزة ليها خجة تانية الظاهر، أو ثورة تصحيحية مستقبلية. الله يستر، لكن التاريخ بيقول أنه الثورات حين تقف في منتصف الطريق وتساوم فقد تكون نتائجها أسوأ من الأوضاع السابقة لها؛ (أسوأ على الأقل من سيناريو مواصلة الثورة بصور مختلفة على مدى أطول، أي تمديد الجولة بدل خسارة المعركة كلها). وهذه الثورة جاءت والسودان أمام منعطف أن يكون أو لا يكون. بالتالي، فالثورة إما تخففت من المتخاذلين، بطريقة أو بأخرى، أو استسلمت للسرقة. من يظنون أن خيار التسوية خيار ثالث لا يُحسَدون على تلك السذاجة (أو ربما هو الإرهاق؟ إذا أحسنّا الظن)… غايتو.
 
 

أضف تعليق