رجال الدين، والتلغراف والخيّالة

يمكن القول إن رجال الدين، في معظم الأديان السابقة والمعاصرة، لعبوا في الماضي دور علماء الاجتماع والقانون والإدارة في زمانهم، إذ في تلك الأزمان لم تكن هنالك نظم إدارة أو دراسات قانون أو اجتماع أو اقتصاد، إلخ، سواء للتدريس أو الممارسة، مستقلة عن عقيدة الجماعة وعن مذهبية من في السلطة. أيضا يمكن استيضاح أن تطوّر وتعقّد الكتابات والمدارس والمجادلات الفقهية إنما كان تبعا لتطوّر وتعقّد المجتمعات مقارنة بالمجتمع المؤمن الأول، التأسيسي. لذلك ففي المجتمع المؤمن الأول – وخاصة المصاحبون للنبي المؤسس للديانة – ليست هنالك حاجة كبيرة للإسهاب والتفصيل والتدوين والتفرّغ للشرعيات واللاهوتيات، فهي في مجملها جزء لا يتجزأ من حياة المجتمع المؤمن ومن مجمل معايشه وتوجهاته. هذه المسائل تظهر وتتراكم لاحقا، مع تبدّل شكل الحياة وتوسّع مساحة المجتمع المؤمن الأول وزيادة تعقدات المشهد، من مجتمع بسيط لإمبراطورية تبتلع مجتمعات وحضارات وثقافات متعددة، وتقارع أيضا امبراطوريات مماثلة في عدة جبهات. تعقيد المجتمع يستدعي فحوصات وقرارات اجتماعية مكافئة لذلك التعقيد، فتظهر فئة من فئات المجتمع تتولّى هذه المهمة—بحق أحيانا وبغيره أحيانا، المهم أن ظهور هذه الفئة وتطوّرها وتشعبها هو نتيجة لزيادة تعقد المجتمع لا زيادة تعقّد الدين نفسه. 

فقط المشكلة في تلك المجتمعات طبعا أن علماء الاجتماع والقانون، حين يشتغلون من داخل الخطاب الديني، تصبغ خلاصاتهم تلك قداسة، مستمدة من قداسة الدين، وكذلك من رهبة السلطة، فتتثبّت في الأذهان وتتراكم كـ”علوم شرعية” متصلة بالدين نفسه بدل اتصالها بالمجتمع والتاريخ أكثر. 

واليوم، هنالك معضلة أكبر، زادت تعقيد المسائل تعقيدا آخر، إذ هنالك نقلة فلكية حصلت في شكل التجمع البشري، وبسطت تلك النقلة نفوذها على مجتمعات الكوكب كافة – بطرق مختلفة بعضها طوعي وبعضها غير طوعي، لكن هذا ما حصل – والآن يندر جدا أن ينادي البعض بالعودة بالتاريخ للوراء، مهما كانت سوءات الحاضر، على أي حال. الدولة العصرية والتكنولوجيا الحديثة، والمجتمعات المعاصرة التي تشكلت معها، خرجت بصورة فائقة الوضوح عن استيعاب قضايا الاجتماع والقانون والاقتصاد والثقافة والإدارة والتكنولوجيا والأعمال، إلخ، داخل جلباب ما يسمى بالعلوم الشرعية، فهذا تعقيد للمجتمع فاق كل إمكانات الاستيعاب عند ذلك الفضاء الذي احتكره رجال الدين. مثلا، بينما كان هنالك “فقه المعاملات” كقاعدة لفحص وتقرير ممارسات التجارة والإدارة والعمل، إلخ، في المجتمعات المسلمة في المرحلة التاريخية السابقة، صار هذا المجال في المجتمعات المعاصرة لا يمكن أن يستوفيه أناس درسوا “علوم الشريعة” فحسب، فحتى لو كانت لهم آراء وموجّهات قد يؤخذ بها أو لا يؤخذ (حسب طبيعة السلطة ومذهبيتها) إلا أنه في كل الأحوال يخرج معظمه عن مستويات درسهم وفحصهم وتوصياتهم. نفس الشيء يقال عن مواضيع مثل العلاقات الدولية، والعسكرية، والأحوال الشخصية، والضرائب، والتعليم، وحقوق وواجبات المواطنة، وحتى بعض المسائل السلوكية والتقديرية بخصوص مراعاة موجّهات دينية وأخلاقية عامة في تحديات الحياة المعاصرة التي تختلف كثيرا عن الحياة في الأزمان السابقة، إلخ. ذكر أحد الأصدقاء أن سؤال الربا مثلا سؤال قد يبدو ظاهره “شرعيا” في المجتمعات المسلمة اليوم لكنه في الواقع المعاصر يحتاج لخبراء اقتصاد واجتماع أكثر من “فقهاء” (بمعنى التمكن من اللغة وعلوم التفسير والحديث)، فقديما كان من السهل توسيع مفهوم الربا على اقتصاديات الخراج بعد الفتوحات لكن الآن يصعب بشدة توسيعه في ظل اقتصاديات ما بعد الاستعمار و الرأسمالية، فحتى القيمة العامة المقررة بخصوص الفوائد البنكية وفوائد القروض الصغيرة والكبيرة – وهي قيمة نتفق على أنها سلبية – إلا أن عكس تلك القيمة على الواقع يحتاج لأدوات ومعارف في إدارة الاقتصاد الحديث غير متوفرة للفقهاء؛ فأقل مقارنة مثلا أن الربا قديما كان يُعدّ كابحا للتطور الاقتصادي الإنتاجي داخل بنية الاقتصاد الاجتماعي القديم لكنه حاليا مشتبك في مجمل مفاصل النظام الاقتصادي والمصرفي العالمي بحيث أن نزع الفائدة من ذلك النظام يعني إعادة صياغة الاقتصاد الرأسمالي كله من جديد نحو نظام اقتصادي آخر (أو نظم أخرى).

لكن، وكعادة كل أصحاب مهنة تجاوز الزمن مهنتهم، فإن من كانوا يسمّون رجال الدين قديما يحاولون اليوم الإبقاء على “مجالهم” محفوظا ومرعيّا بسطوتهم، فيقولون كلاما من شاكلة “إن من لا يعرف العلوم الشرعية لا ينبغي أن يتكلم في قضايا الدين، لأن لكل تخصص أهله، فهل ترضون أن يتحدث من لم يدرس الهندسة في الهندسة، أو الشخص العادي في المسائل القانونية أو الفيزيائية دون أهل الاختصاص؟”. لوهلة، قد يظن البعض إن مثل هذه الحجة تنهض، لكن علينا أن نسترجع ونستدرك أن هؤلاء ليسوا “علماء دين” او “علماء شرعيات وعقيدة” وإنما هم معادل خبراء الاجتماع والقانون والإدارة، إلخ، في زمن كانت تعقيداته مختلفة اختلافا أساسيا مع تعقيدات هذا الزمان. فتجاوز من يسمون برجال الدين قد حصل لنفس الأسباب التاريخية التي ظهروا بسببها: التعقد والنقلات الاجتماعية. أما الدين، فهو نسيجٌ كبير، تجده حاضرا في ثقافات الناس وفي قيمهم وفي مؤسساتهم الاجتماعية التاريخية وفي سلوكياتهم وفي طموحاتهم (الخاصة والعامة)، وذلك ليس لأن الدين يذوب ذوبانا في كل هذه الظواهر بل لأنه كنسيج قادر على أن يفصّل للناس أثواب حياة وفق مقاسات خليط الظواهر الأخرى هذه ويفصّل مرة أخرى كلما مرّت الأزمان والأحوال بالناس؛ وهو بذلك يؤثر في كل تلك الظواهر مثلما يتأثر خطابه بها. النسيج (القماش) واحد، والأثواب تتمايز مقداريا حسب الظواهر والتعقيدات الأخرى—وهذا أحد أسباب كون الأديان حقول متجاوزة للثقافات والجغرافيا والأزمان واللغات أكثر من معظم الحقول الأخرى. لكن هذا الذي يقال عن الدين لا يقال كذلك عن رجال الدين وعن دورهم الاجتماعي وسياقهم التاريخي.

ومن حيل رجال الدين لتقوية مكانتهم في المجتمع، استعمالهم لنصوص دينية وعقائد معيّنة ليجعلوها تتحدث عنهم هم. في الدين الإسلامي مثلا، هنالك الحديث “العلماء ورثة الأنبياء”، وهنالك “من يرد به الله خيرا يفقّهه في الدين”، واللذان يستعملهما رجال الدين كثيرا على أساس أنهما يتحدثان عنهم، أي أنهم هم “العلماء” وهم “الفقهاء” المقصودين، في حين هذه الأحاديث في سياقها لا يمكن أن تقصد “مهنة” رجال الدين، إذ لم تكن هنالك مهنة كهذه في المجتمع المؤمن الأول ولم تكن هنالك حاجة لها، وتبعا لذلك كان فهمها وإداراكها مختلفا في المجتمع المؤمن الأول (وهو المجتمع الذي لديه أصالة وأسبقية عليهم لا ينكرها رجال الدين)؛ إذن فالمقصودون بالعلماء والفقهاء في تلك الأحاديث أقرب في الفهم لأن يكونوا أصحاب “العلم” الموروث دينيّا (أي بالمنهاج الديني) وليس بالتحصيل الفقهي مثلا (والذي في زمانه كان يشبه التحصيل الأكاديمي الجاد في زماننا)؛ والفرق بين المنهاجين شاسع، إذ الأول سلوكي وأخلاقي وأسلوب حياة، أيّا كانت المهنة وسبيل كسب العيش، أما الثاني فهو تحصيلي في مجمله ويقترب للمهنة أكثر من السمت (أو صفة الخلُق). هذه الطريقة من طرق استعمال سلطة النصوص الدينية لتوطيد حقل معيّن من حقول النشاط الإنساني الاجتماعي ليست طريقة جديدة على الديانة الإسلامية، فقد استعملها رجال الدين في الديانات الأخرى والسابقة للإسلام كذلك.

ويبدو أن للأنبياء رأي واضح يمكن الاستعانة به في فهم هذه المسألة. للنبي عيسى المسيح قصص مشهورة مع “الفريسيين”، وهم باختصار رجال الدين اليهودي في زمانه، قال لهم في إحداها، كما ورد في الكتاب المقدس، “ويلٌ لكم أيّها الكتبة والفريسيّون المراؤون! لأنكم تُغلِقون ملكوت السماوات قُدّام الناس، فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون. ويلٌ لكم أيّها الكتبة والفريسيّون المراؤونن! لأنكم تأكلون بيوت الأرامل، ولعّلةٍ تطيلون صلواتكم، لذلك تأخذون دينونة أعظم.” (إنجيل متّى، 23). فإذا نظرنا لهذه القصة، ونظرنا إلى قرائن أخرى من شاكلة الحديث الشريف عن النبي محمد، صلى الله عليه وسلّم، “لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ”؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال: فَمَن؟” (رواه الشيخان) لاستطعنا استنتاج أن رجال الدين المسيحي ورجال الدين المسلمين إنما هم في مجملهم تكرار الفريسيين اليهود. وهذا ليس تعميما لا يحتمل الاستثناءات، بل الاستثناءات موجودة وتحظى بالاحترام والتقدير، باعتبار سياقها وباعتبار بذلها في ذلك السياق، أما الصورة العامة فهي هذه.

لكن هنالك مساحة للتفهم، ففي الماضي القريب مثلا كانت هنالك أعمال ومهن جمّة الأهمية للمجتمع، وكان لأصحابها تقدير كبير ودور مهم في سير الأمور، حتى صارت جزءا من هويّتهم ومن نظرتهم للعالم من حولهم. على سبيل المثال، كان هنالك “التلغرافيون” الذين كانوا مهمين جدا لنظام الاتصال العالمي كله حتى عقود قريبة، وكان هنالك “الحواسيب” (computers) – وهؤلاء كانوا بشرا حتى وقت قريب، وكانوا في غاية الأهمية (لدرجة أن الاختراقات التكنولوجية الكبرى في القرن السابق، مثل الوصول للفضاء الخارجي ومثل سبر أغوار المحيطات بالغواصات، ما كانت لتتم بدون هؤلاء الحواسيب) –  وفي الجيوش كان “الخيّالة” حتى وقت قريب من أهم فئات الجيش وأرفعها شأنا. كل هذه المهن، والتي كانت ذات شأن ومكانة عالية في وقتها، وذات تعقيدات ومعارف ومهارات وتراكمات مقدّرة، لم تعد موجودة اليوم لأن الزمن تجاوزها؛ فقط صارت جزءا من التاريخ وربما ذابت بعض مهاراتها ومعارفها في المهن والحرف التي خلفتها وتجاوزتها. لكن أصحاب تلك المهن، الذين عاصروا فترة الانتقال واضمحلال المهنة، لم يقبلوا الموضوع ببساطة بل نافحوا كثيرا واعترضوا كثيرا، لكن في النهاية تلاشوا. فما يفعله اليوم المنتمون لفئة “رجال الدين”، بشتى مسمياتهم المعاصرة، مفهوم، وغير غريب على الطبيعة البشرية. فقط المشكلة تظهر أكثر في هذه الحالة لأن الحقل الذي يدّعون الفهم الحصري له والسلطة الزائدة فيه هو حقلٌ خطير جدا ومهم جدا للكينونة البشرية، وهو حقل الدين.

فالدين في واقعنا ليس مناطه عند رجال الدين، وهو أكبر من ذلك وأوسع وأدق بكثير، إنما يرجح انه عند أهل عصرهم هذا، المتعلمين بعلومه والمرتبطين بتعقيداته والمتشربين من تراكمات التاريخ بدون الانحباس في مراحله، والفاعلين في مجالات حياته المنتجة والمبدعة. والدين أيضا فيه مناط متوفر عند جميع أهل هذا العصر، لأنه في موجّهاته الأساسية ومكوّناته الأساسية إنما هو حقلٌ يعاش أكثر مما يُدرَس، بل إن دراسته (أي التعمّق فيه) مدخلها معيشته—ففئة “رجال الدين” إحدى مغالطاتها التاريخية أنها تسمّت بأسماء لا تعكس دورها الحقيقي في المجتمع، أيّا كان رأينا في ذلك الدور وأيّا كان مستوى أداء بعضهم فيه، لأن الدين ليس حقل تخصص بالمعنى الذي به حقولٌ أخرى حقولُ تخصص، بل يصح أكثر القول إن كل شخص متديّن، ذكر أو أنثى، هو “رجل دين”. هؤلاء أولى بالدين من رجال الدين، وهذا أمرٌ ليس لرجال الدين فيه يدٌ أو إذن؛ فتجاوزهم قد قضى التاريخ فيه مسبقا، وكل ما هنالك أن ذلك القضاء يأخذ مفعوله في الزمن.  

أضف تعليق