حفّزني لهذا المكتوب أمران، أحدهما تعليق من عماد الدين عيدروس، كتبه مؤخرا في صفحته في فيسبوك، حيث قال، “حفظ الفلسفات لا يجعلك يساري فالشرط الانساني المسبق هو الحساسية ضد الاستغلال والقهر والوقوف مع المضطهدْ زي ما حفظ الأحاديث والقرآن لا يجعلك مؤمنا عند الصوفي، فالشرط المحبة. والماعندو محبة ما عندو الحبة”؛ وثانيهما عبارة كتبتهما كذلك قبل فترة بسيطة في نفس الاتجاه، في فيسبوك، قلت فيها، “من المشاكل والتعقيدات، دلائل غياب توطّن المفاهيم بتاعة الديمقراطية والمؤسسية، وغيابها حتى عند جمعٍ من أصحاب الأقلام والأعلام (بما يشير لمسألة قيلت كثيرا في كتابات التاريخ والفلسفة: الفهم والاستيعاب عملية معقدة لا تأتي من الاطّلاع وحده ولا تأتي من الممارسة وحدها، بل وحتى المزيج بينهما قد لا يكون كافيا حسب الملابسات والاعتبارات الذاتية والموضوعية).”. بعد قراءة ما كتبه عماد تذكرت العبارات السابقة، ورأيت أن الظاهرة ربما تستحق كتابة مسهبة أكثر.
[وقبل المواصلة، أحب أن أؤكد أني أتناول الظاهرة هنا بمنظور عام، ولا أقصد أشخاصا معيّنين، في سياقنا الحالي، لأني حقا أخذني التفكير إلى حيث الصورة الكبيرة والسلسلة التاريخية الطويلة والمتفرعة للظاهرة، فهي لا تخص أقواما معيّنين ولا فئات/مذهبيات معيّنة.]
في الاكاديميا، مثلا، هنالك أساتذة في فلسفات اليسار، لا يمكن لأحد أن يصفهم بالجهل في ذلك المضمار، ثم هم غير يساريين لا في مواقفهم النظرية ولا العملية، بل يخدمون بإنتاجهم المعرفي والتدريسي الاوضاع الراهنة وعلاقات القوى المتصلة بها. بعضهم ربما كان يساريا سابقا ثم تحول عن اليسار ١٨٠ درجة (تقريبا)، وكتبوا كتابات في نقد كل ما هو يساري (نظريا وممارسة) بدون ان يدّعي احد انهم جهلاء بالموضوع ولكن ربما لديهم تصفية حسابات (لا ينكرونها احيانا). على سبيل المثال، هنالك كاتب وأستاذ معروف في التاريخ الاقتصادي، اسمه كارل وِتفوقل (Karl Wittfogel) وهو معروف اليوم بوصفه ناقدا كبيرا للماركسية ولسرديتها التاريخية حول تطور الاقتصاد البشري، إذ لديه أطروحات مغايرة تفيد بان ماركس كان ضعيف المعرفة ومخطئ الحدس بخصوص ما سماه “نمط الإنتاج الآسيوي”، الأمر الذي انعكس بدوره على عموم خلاصات ماركس من التاريخ والتي على أساسها بنى المنهج المادي التاريخي. لدى وِتفوقل أطروحة تسمى “الإمبراطوريات الهيدروليكية”، وفقها يقول إن نظام الدولة المركزية، الهرمية، بنظم إدارة متقدمة، ظهر قبل الدولة الأوروبية الحديثة/العصرية بفترة طويلة، وكان أثره على أنماط الإنتاج وعلاقات الاقتصاد واضحا منذ تلك البداية، وذلك النظام بدأ وتطور حول محور أساسي واحد: إدارة المياه في المجتمع. الأطروحة مثيرة للاهتمام (وقد مررت عليها أثناء الدراسات العليا ضمن بحوث الاقتصاد المؤسسي وقضايا التنمية المستدامة)، فلتراجع في موضعها.[I] كارل وِتفوقل كان شيوعيا نشطا في الحزب الشيوعي الألماني، وكان أحد مثقفيه المعروفين، وقد سُجن في زمن النازية ثم أطلق سراحه وانتقل لبريطانيا، وحسب ما هو وارد فقد بدأ تحوله عن الشيوعية جراء استيائه من ممارسات شمولية للاتحاد السوفيتي، أدّت لاحقا لمعاداته للماركسية نفسها.
كذلك هنالك كرستوفر هيتشنز (Christopher Hitchens) والذي كان أحد أعلام كتّاب وخطباء اليسار في الغرب، في الثمانينات والتسعينات (وكان ناشطا يساريا منذ السبعينات)، وكان يسمي نفسه اشتراكيا ديمقراطيا، وماركسي المذهبية ومناهضا للشمولية، إلى أن بدأ بالتحوّل تدريجيا نحو معسكر اليمين، ثم صار أحد أبواق النيولبرالية والإمبرالية الجديدة، حيث كانت قمة تحوّله في تأييده لغزو العراق (وهو عكس موقف اليسار الغربي تماما) وقبله كان يؤيد ظاهرة “الحرب على الإرهاب”، ما بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001، التي كانت واجهة غربية لممارسات ومطامع إمبريالية واضحة اصطحبت كذلك الموجة الكبيرة التي تركّزت على نقد الإسلام كديانة واتهامها بأنها ديانة عنيفة ورافضة للتعايش في أساس بنيتها العقدية والتشريعية (أي المشكلة في الإسلام نفسه وليست في مجموعات ومدارس مسلمة بعينها). رحلة هيتشنز من اليسار لليمين إحدى أشهر الحالات الحديثة وقد لقيت تسليط ضوء كبير لأنه كان أحد أهم أصوات اليسار ثم انتقل ليصبح أحد أهم أصوات اليمين، واحتفلت به الآلة الإعلامية اليمينية أيّما احتفال.
نعوم تشومسكي لديه كتابة حول هذه الظاهرة الواسعة في الاكاديميا الغربية على سبيل المثال. ونيريري وتشومسكي اتفقا على أن معظم المنتمين لشريحة المثقفين، في أي مجتمع حديث، يتمحور عملهم ومسارهم المهني حول خدمة الأوضاع القائمة كمقابل للمكانة الاجتماعية والاقتصادية المناسبة لهم في ذلك المجتمع. لا يُستثنى من ذلك إلا مثقفون ثوريون، أو غير ثوريين بالضرورة لكن لديهم بوصلة أخلاقية نادرة وإخلاص شديد لمجالات بحثهم/إبداعهم وحسب. في حين كان أملكار كابرال يركّز على أن البرجوازية الصغيرة (ومعظم المثقفين في البلدان النامية ينتمون لهذه الفئة) لا مجال لهم ليلعبوا دورهم التاريخي المهم، في المجتمعات التي تمر بمراحل التحرر الوطني وما بعد الاستعمار، إلا بعد ارتكاب “الانتحار الطبقي” [أو العبور الضميري] الذي وفقه يحرقون مراكب مصالحهم المعتادة و”يخونون نداءهم الطبقي التلقائي” كما وصفه إبراهيم (فرانز) فانون. يقول تشومسكي إن المثقف عموما، والاكاديمي بشكل خاص، في الغرب، سرعان ما يجد أن من الأسهل له أن يقدّم خدماته المعرفية للأنماط السائدة في السلطة والثروة، فذلك يعطيه وضعا اجتماعيا واقتصاديا أفضل من المعارضة وكذلك يضمن له حظوة إعلامية وحياة مهنية أكثر استقرارا، بل ربما يحالفه الحظ ويصبح من ضيوف موائد البرجوازية وكبار السياسيين، أي أصحاب السلطة والثروة في المجتمعات الغربية.[II]
والنماذج كثيرة، كما أن الحركة ليست اتجاها واحدا، بل طريق باتجاهين، إذ هنالك أيضا حالات لمثقفين وباحثين كانوا في طرف اليمين ثم تحركوا نحو اليسار. إحدى النماذج اللطيفة في هذا المضمار أن فيدل كاسترو، المحامي الكوبي ذو الحماس الكبير، كان في بداية حراكه السياسي قومي التوجه ومتبنّيا للرأسمالية، ثم تدرّج في خط المعارضة إلى أن صار حامل سلاح ضد السلطة، ولم يتحوّل لليسار تماما إلا بعد أن صار صاحب السلطة في كوبا، وبتأثير أخيه وصديقه: راؤول كاسترو وإرنستو “تشي” قيفارا.
والظاهرة أيضا ليست محصورة في محور اليسار-يمين، فكذلك هنالك باحثون غير مسلمين البتة، لكنهم باحثون جادون في تاريخ الاسلام وتراثه، أو كانوا مسلمين في الماضي ثم تحولت نظرتهم وغاياتهم، تجدهم يحفظون من النصوص ويعرفون من خبايا ومظاهر التراث الاسلامي ما لم يبلغه إلا مسلمين قلة نذروا حياتهم لمثل ذلك (أي للاستزادة من محتويات النصوص والتراث، مع معرفة وتأمل عميق أو بدونهما). بعض الباحثين المستشرقين مثال على ذلك. وكذلك فظاهرة “علماء السلطان” معروفة، وهي لا تقتصر على المسلمين فحسب وإنما موجودة في كافة الأديان تقريبا. و”السلطان” في هذا السياق يعني أصحاب المنعة والشوكة في المجتمع والسياق التاريخي المعني.
إذن فهي ظاهرة بشرية عامة، تاريخية ومعاصرة، اجتماعية ونفسية، ومفادها أن مراكز القوى في أي مجتمع (خصوصا السلطة والثروة) لديها من النفوذ والصيت ما تستطيع به جذب أصحاب مهارات متميزة في المجتمع، مثل المثقفين، يبذلون لتلك المراكز خدماتهم، ومقابل ذلك يحظون بامتيازات متنوعة: مثل الرضا الواسع، والاحتفاء، والصيت، وبعض الضمانات الاجتماعية والاقتصادية، وربما كذلك يجدون بعض التلبية لطموحاتهم السياسية.
وخلاصة تلك الظاهرة أنها إحدى تجسيدات “المراهنة على الأقوى” في أي نزاع تاريخي، ليس لأنه بالضرورة صاحب الحق (إذ ربما يكون على حق وربما لا يكون) وإنما لأنه الأقوى. بعض المثقفين لا يحتملون ولا يصبرون على أن يستثمروا ثقلهم ومجهودهم في جانب “القضايا الخاسرة” (lost causes)، أي القضايا التي تبدو العوامل المتضافرة ضدها أكثر وأكبر، وإن كانت أكثر نبلا وتماسكا في جوهرها.
بعض الناس لا يريدون أن يكونوا “مثقفي قضايا خاسرة”، فذلك عندهم يعني الضمور والبقاء دوما في طريق موحش،[III] لا يؤمه إلا قلة من الذين ليست بأيديهم مفاتيح الحاضر وإنما يعملون للمستقبل أكثر، ويعيشون دوما في ظل احتمال أن يموتوا قبل أن يروا أي ثمار ملموسة لمجهودهم حولهم. والحق أن ذلك مفهوم، فالوقوف في صف القضايا الخاسرة يأخذ أكثر مما يعطي (ماديا واجتماعيا)، وإن أعطى فهو غالبا ما يعطي في صورة استثمار في المستقبل المجهول ورضا في الضمير الخاص، وهذه “ما بتأكّل عيش” ولا تستوفي طموحات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة.
وللإنصاف، فبعض الناس كذلك مؤمنون صدقا بالقضايا الرابحة، ويرون الأشياء بمنظارها، وبأن الحاضر وكذلك المستقبل في صفها. ذلك رغم أن سيرورة التاريخ تقول إن من الراجح كثيرا أن القضايا الرابحة في المستقبل تأتي من رحم القضايا الخاسرة اليوم أكثر من القضايا المتوائمة مع الحاضر ومع الأنماط السائدة، وأن القضايا الرابحة اليوم إذا لم تتجدد دماؤها بصورة كبيرة، من داخلها، اليوم، فإنها ستقهقر مستقبلا أو تضطر لذلك التجدد اضطرارا من خارجها.
والحق أن كلا الطرفين (إذا بسّطناهم لطرفين فقط) ليسوا كُمّلا، أي لدى كل طرف جزء من الحق وجزء من الباطل؛ وذلك أظهر ما يكون في الممارسة كذلك، فبعض أهل اليسار يرتكبون أخطاء مزعجة ومؤلمة في حين بعض أهل اليمين لهم نصيب من المواقف الصحيحة والنبيلة أحيانا. وهذا من ديدن ناموس الكون، فالبشر يخطئون ويصيبون، وكذلك فالمذاهب والمدارس تصيب وتخطئ، لكن ذلك لا يعني أن جميهم سواء، فهنالك أناس يقفون في الجانب الصحيح من التاريخ والمستقبل وهنالك أناس يقفون في الجانب الخاطئ، وهنالك قضايا نبيلة ومتماسكة أكثر من قضايا أخرى، وهنالك مذاهب أكثر مضاء واحتراما من مذاهب، وهنالك مساعي تريد خير الناس بينما هنالك مساعي تلتحف مسميات الحق والخير بينما هي في أصلها محاولة ترسيخ وإعادة إنتاج للأوضاع الراهنة وخدمة المستفيدين منها على حساب البقية.
من الأشياء الطريفة، والعميقة في نفس الوقت، وكمثال فقط لصورة أكبر، أنه في زمن ماركس كان هنالك فيلسوف ومنظّر لبرالي يميني معروف، اسمه هيربرت سبنسر، كان صاحب صيت أوسع وحظوة أكبر في زمنه [بينما كان ماركس مغمورا نسبيا، إذ كان معروفا في دوائر محدودة]. عند الموت، صار ماركس وسبنسر جيرانا في مقبرة “هايقيت” بلندن، لكن الآن، بعد عقود من وفاتهما، فإن صاحب الصيت الأكبر بين الاثنين بلا منازع هو ماركس، بل إن قبره صار معلما للمقبرة كلها، وصار ملء السمع والبصر، بينما لا يكاد أحد يتذكر سبنسر هذه الأيام. كذلك نحن اليوم نتذكر أسماء شهداء القضايا الخاسرة في زمانهم، وننشغل بهم وبهن حتى اليوم، في حين ننسى أو نكاد ننسى أسماء وصفات أولئك الذين تسببوا في شهادتهم، سواء كانوا حكّاما أو منافسين، أو مثقفي قضايا رابحة في زمانهم.
لذلك فربما عبارة “القضايا الخاسرة” تحتاج لمراجعة أعمق. ربما القضايا الخاسرة هي تلك التي لا تلتحم بقوى المستقبل فتخسره وتخسر منظار التاريخ كذلك، وربما القضايا الرابحة هي تلك التي تلتحم بقوى المستقبل وتشدّ الحاضر نحوها، فتخسر جولة الحاضر الآني وتربح معركة التاريخ الواسع.[IV] ربما القضايا الرابحة هي الخاسرة، والخاسرة هي الرابحة.
[I] يمكن مراجعة كتاب وتفوقل “الجبروت الشرقي: دراسة مقارنة حول السلطة الشاملة” (Oriental Despotism)، 1957، للاطلاع على الأطروحة؛ حيث يرى الكاتب أن مورد المياه كان تقريبا أهم مورد للحضارات البشرية الأولى، المبنية على الزراعة والاستقرار، ولذلك كانت هنالك حاجة ملحة لتنظيم عملية توزيع وإدارة الموارد المائية، وبصرامة، الأمر الذي تولدت عنه سلطات مركزية بطرق إدارة حازمة وقاسية هي التي أنجبت الحضارات القديمة كالامبراطوريات الآسيوية (وحضارات أخرى كالمصرية القديمة). وسيجد القراء هنالك كذلك استهلال الكاتب لكتابه بهجوم شرس على الماركسية والتجربة الشيوعية في روسيا أوروبا. كارل كان متحمسا جدا في عدائه للماركسية والتجربة الشيوعية، ووارد أنه صرح أن ذلك بالنسبة له تصفية حساب مع أخطاء ماضيه (أي حين كان ماركسيا).
[II] على الجانب الآخر من ميول معظم المثقفين في المجتمع، هنالك أمثال مريم ماكيبا، التي قالت، “إذا كنت قد خُيّرت بين اثنين فحسب، فإني على التأكيد كنت سأختار ما أنا عليه الآن: إحدى أعضاء المجموعة المقهورة، لا إحدى القاهرين.”
[III] رغم أنه قد قيل في الأثر، “لا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه.”
[IV] يقول الاستاذ محمود محمد طه، “حاضر المجتمع البشري، في أي لحظة من لحظات تطوره، إنما يصنعه تفاعل وتلاقح بين قوى المستقبل وقوى الماضي.. هذه القوى التي تجيء من المستقبل، هي التي تعين على تطوير الماضي، وتحفّز وتوجّه خطوات التغيير فيه.”
هذه كتابة عميقة وبها من الجدة والابداع ما بها…ارى ان الفيصل الحاسم ليست سعة المعارف ولا اختيار الموقف الذى يتبدى صحيحا استناد على رافعته الايدلوجية التى تدعى الحق او الحقيقة وانما فى ما هو اعمق والذى هنا وفقا للرؤية الاسلام العامة هى الاستقامة او الاتيان بقلب سليم او قوة الضمير كما فى المصطلحات المعاصرة اما مثالى المناسب للقضايا الخاسرة التى كسبت المستقبل فهو ثورة الامام الحسين عليه السلام وخروجه على يزيد فقد كانت قضيته خاسرة ولكنها كسبت المستقبل فها هو الامام الحسين يعيش يوميا مع الفقراء ومع ناشدى الحرية والكرامة ويجد موقعه فى ابداعات المبدعين عالميا شعراء ومسرحيين ومفكرين ومقاومين بينما يزيد الرابح فى ذلك الوقت نسيا منسيا تتناوشه اللعنات من كل حدب وصوب.
شكرا عماد
شكرا همرور