عن الدين والوكالة الإنسانية

كيف يعيش الإنسان الدين؟ أو للتدقيق، كيف يعيش تعاليمه في واقعه الفردي والمجتمعي؟

الإجابة المباشرة هي عن طريق فهمه واستنطاقه الخاص لمصادر هذا الدين (بتنوعها)؛ بمعنى أن الوكالة الإنسانية ليست مرفوعة، ولن تكون يوما مرفوعة، عن الدين في تنزلاته لأرضنا هذه.. هذا فحوى ما بلـّغه الأستاذ محمود محمد طه بقوله إن “العبرة ليست بالنصوص، إنما بفهم النصوص” وهو أيضا ما أشار إليه الإمام علي بن أبي طالب حين قال عن القرآن إنه “لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال”.

ولهذا المعنى أيضا، حين نسير لنهاياته المنطقية، فإن الدين، من حيث هو دين، نبت في الأرض اولا، ثم التحقت به أسباب السماء فهذبته (وكيفية ومصداقية التحاق السماء هي دوما محل النزاع بين مجاميع الناس، بمختلف عقائدهم وتصوراتهم، اما منبت الدين من الأرض فشواهده مبذولة ومطوية في بنية وعينا بصورة واضحة، لكن طبعا هناك من لا يحب هذه العبارة لأسباب عقائدية مفهومة في إطارها).

عليه فإن من غير المجدي أن تدور حواراتنا حول تسليم الإرادة البشرية للنص الديني أم لا، فهذا النص أساسا لا يأخذ طابعه وفحواه إلا عن طريق وكالتنا (عن طريق فهمنا)، ولا سبيل له للتنزل في واقعنا إلا عبر هذا المسار.

ولهذا فإن مخاض أي فهم جديد للدين لا يكون إلا في رحم التجربة الإنسانية، بكافة عواملها البيئية والاجتماعية وبكافة كمالاتها ومناقصها (وأي فهم ديني موجود اليوم في الأرض قد كان جديدا في يوم من الأيام).. محك أي فهم للدين (او فهم غير ديني) يمكن أن يقنع الناس بصورة كافية هو المحك العملي، فإن استطاع هذا الفهم أن يحقق مستوى مقبولا من الاستقرار الداخلي والخارجي لمعتنقيه فهو أولى بهم وهم اولى به، في أي حقبة زمكانية كانوا (كقول النبي الكريم “الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو اولى بها”)، وكذلك فإن استمرارية هذا الفهم الديني في رفد حوائج الناس وتطلعاتهم، الفزيولوجية والنفسية، مرهونة بقدرته على استمرار رعايته للتطور الإنساني الدائم نحو المزيد من الرقي المادي والمزيد من ازدهار حياة الفكر والشعور (وهي الحياة الغاية وراء كل وسيلة).

لهذا فإن تنوع الرؤى حول مسارات ومنافذ تطبيق تعاليم الدين في الحياة الاجتماعية ليس أمرا محبذا فقط، بل لا مفر منه، ما دامت واسطة الدين للتجسد في حياتنا هي نفس عقولنا وعواطفنا هذه، بتنوعاتها الموروثة والمكتسبة.. يبقى الحـَـكـَم في هذا الصراع هو مدى تجاوب الناس مع هذه الرؤية الدينية (أو غير الدينية) أو تلك، على المديين القصير والطويل.. لكل واحد منا حق أن يختار الموقف الذي يتناغم مع وعيه ووجدانه ويقدر على الدفاع عنه بالوسائل المتاحة الكفيلة بالتأثير على وعي ووجدان الآخر (كما للآخر نفس الحق).

إن سعي معظم ناشطي حقوق الإنسان اليوم ليس في مجابهة القوانين الدينية عموما (أو القوانين المستمدة من الفهوم الدينية، للتدقيق)، بل في بناء إطار معايشة يسمح لكافة الناس بأن تتداول أفكارها في سبل الحكم والاجتماع والتنمية في مناخ متكافئ، حتى لا تفرض مجموعة من الناس أفكارها فرضا على الآخرين بوسائل القهر والتسلط والوصاية ووسائل تعتيم المعلومة الوافية المعينة على اتخاذ الموقف السليم، إذ أن من أوكد تطورات التاريخ اليوم أن عهد الوصاية قد ولـّى، واستقبلنا عهد الحرية والمسؤولية في مواقفنا، أمام أنفسنا وأمام المجتمع وأمام القوى الميتافيزيائية العليا التي نستشعرها جميعا ونسعى لخلق علاقة معها بصورة من الصور.

_________
قصي همرور
مشاركة في سودانيزأونلاين، يوليو 2009، في خيط بعنوان
The Stoning of Soraya

أضف تعليق