مانديلا: القصة الواقعية أجدى من الأسطورة

ليست المشكلة أن يبالغ البعض في تعظيم مانديلا، فحب الناس مذاهب ولا يجوز أن يتسلط بعضنا على مشاعر البعض.. هذا علاوة على أن مانديلا فعلا إنسان جدير بالاحترام، وهو عموما نموذج طيب للمناضل الافريقي الملتزم.. لكن المشكلة هي الاستمرار في الترويج لنسخة غير صحيحة من التاريخ، فقط من أجل إبراز مانديلا كأسطورة فائقة، وكقصة نجاح نضالي كاملة مكتملة.

من المهم توضيح الآتي:

(1)
مانديلا لم يكن قائدا للمقاومة السلمية في أزانيا (جنوب افريقيا)، ولم يكن هو مؤسس المؤتمر الوطني الافريقي.. مانديلا تم تجنيده لكوادر المؤتمر الوطني الافريقي من جانب قيادات سابقة من مجايليه كان لهم باع أكبر في النضال ودرّبوه لفترة.. مانديلا لم يحتل موقعا قياديا كبيرا  في المؤتمر الوطني إلا عندما صار رئيس الجناح العسكري الجديد للمؤتمر (الجناح الذي سُمّي “رمح الأمة”).. هذا الجناح تم إنشاؤه بواسطة المؤتمر بعد أن اقتنعت قياداته، بالممارسة، بأن المقاومة السلمية ضد نظام الأبارتَيد (الفصل العنصري) لا جدوى منها.. رفع الجناح العسكري السلاح ضد حكومة جنوب افريقيا، وقام أيضا بأعمال “تخريبية” وتفجيرات داخل المراكز المدنية (أي نفس ما يسمى اليوم عموما، من جانب الحكومات، بالعمليات “الإرهابية”).. مانديلا شارك في تلك العمليات شخصيا، وكان صوت وصورة الجناح العسكري ذلك، داخل البلاد وخارجها (إذ سافر حول افريقيا للتدريب والتسليح العسكري وجلب التمويل اللوجستي).. حين تم القبض على مانديلا وحوكم كان ذلك هو السبب الرئيسي (والسبب الذي جعل المؤتمر الوطني يُصنّف كمنظمة إرهابية لفترة طويلة، ليس في جنوب افريقيا فقط وإنما حول العالم الغربي أيضا، حيث كان أصدقاء المؤتمر الوطني الوحيدون هم بعض الحكومات الافريقية وبعض الحكومات المحسوبة أيضا كـ”إرهابية” مثل حكومة كوبا).. مانديلا لم يعتذر يوما عن ذلك النشاط العسكري، حتى حين حوكم بسببه، ووقف وزملاؤه وقفة شجاعة أمام قضاء الحكومة العنصرية واستعدّوا لأسوأ العواقب (حكم الإعدام)، واستمر هذا النشاط العسكري لفترة بعد سجنه.. هذه الأحداث المتصلة المتعلقة بالنشاط العسكري ضد نظام الفصل العنصري هي الأحداث التي جعلت نجم مانديلا يسطع كأحد رموز النضال الافريقي، داخل أزانيا وخارجها، وجعلته محبوبا عند المضطـَّهدين.

(2)
تخلى المؤتمر الوطني الافريقي عن نشاطاته العسكرية بعد أن قام نظام الأبارتَيد بتقديم تنازلات، نتيجة ضغط المعارضة العسكرية والسياسية (والتي لم تكن بقيادة المؤتمر الوطني الافريقي وحده) ونتيجة الضغط الدولي.. أثناء فترة سجنه، كان نشاط المؤتمر الوطني خارج السجن حاميا، وكان نشاط شعوب أزانيا أيضا حاميا، وبرزت قيادات ميدانية وفكرية كبيرة غير مانديلا في تلك الفترة، منهم ستيف بيكو، ومنهم ويني مانديلا، زوجته، ومنهم كريس هاني، وآخرون (بخلاف القيادات القديمة المجايلة لمانديلا، حيث كان بعضهم مسجونا معه وآخرون يعيشون في المنفى).. كثير من الأحداث السياسية الكبرى التي شكلت محاور تاريخية في سيرة مقاومة الأبارتيد لم يكن لمانديلا دور فيها، وكان أبطالها أشخاص آخرون في الذاكرة الجمعية لشعب أزانيا، مثل روبرت سوبوكوي وستيف بيكو.

مانديلا بقي رمزا محبوبا أثناء سجنه، وقامت حركة عالمية تنادي بإطلاق سراحه وزملائه، وهي الحركة التي ضاعفت شهرة مانديلا عالميا، ولعلها نفس الحركة التي جعلت نظام الأبارتيد يقرر لاحقا أن يتفاوض مع مانديلا مباشرة – ويعزله عن بقية زملائه في النضال أثناء فترة المفاوضات الأولية – لأن اسم مانديلا صار هو الأكثر رواجا في نظر الرأي العام العالمي.. هذا علاوة على أن المؤتمر الوطني الافريقي صار أكثر تنظيم معارضة قابل للتفاوض مع نظام الابارتيد، وذلك لأن المؤتمر صار فيه الكثير من العضوية البيضاء والملوّنة المعارضة للنظام، بعد أن تحالف المؤتمر الوطني مع تنظيمات سياسية أخرى مثل الحزب الشيوعي الجنوب افريقي ومؤتمر النقابات الجنوب افريقية.. لاحقا، وبعد سنوات طويلة، صار مانديلا رئيس المؤتمر الوطني الافريقي عن طريق الانتخاب (وكان ذلك في أواخر أيام سجنه، حيث بدأت المفاوضات الجادة حينها مع نظام الابارتيد لإنهاء عهد الابارتيد).

من اليمين للشمال: ألبرتينا سيسولو، والتر سيسولو، ويني مانديلا، نيلسون مانديلا، ديسموند توتو

(3)
مانديلا لم يقم بالـ”عفو” عن عناصر نظام الابارتيد، أو عن عموم الأقلية البيضاء في أزانيا، عفوا شاملا، دون قيد أو شرط، وبكامل قدرته ورغبته كرئيس للبلاد.. الصيغة النهائية التي أنهت حكم الابارتيد، وأتت بالمؤتمر الوطني في الحكم عن طريق الانتخابات الديمقراطية – وبمانديلا رئيسا – كانت نتيجة مفاوضات كبيرة جرت مع نظام الأقلية البيضاء، تم خلالها توفير ضمانات لهذه الأقلية حتى تتنازل عن السلطة بدون الخوف على مستقبلها في جنوب افريقيا ما بعد الابارتيد.. خلال تلك المفاوضات تنازل المؤتمر الوطني، بقيادة مانديلا وعدد من زملائه، تنازلات كبيرة عن برنامج المؤتمر الأساسي الذي جعل الأغلبية الكادحة والمقهورة من شعب أزانيا تقف وراءه.. هذه التنازلات كانت مبررة، في نظر البعض، بإزاء النتيجة النهائية، وهي تغيير السلطة الغاشمة تغييرا ديمقراطيا، لكن آخرين يرون أنها تنازلات أكبر من اللازم وأتت في النهاية بنصر هزيل لم ينهض للحد الأدنى من مستوى طموحات الأغلبية المسحوقة في أزانيا.. حتى اليوم هناك نزاع، داخل وخارج جنوب افريقيا، حول ما إذا كانت تلك التنازلات التي قُدّمت مبررة.. بل إن عددا من قيادات المؤتمر الوطني الافريقي التي شاركت في تلك المفاوضات تقف اليوم موقف النادم على تلك التنازلات.

كثير من تلك التنازلات – بجانب العفو غير المشروط لكل الأفراد عن جميع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي جرت أيام الأبارتيد – تعلقت بمسائل إعادة توزيع الثروة، حيث أن الأقلية البيضاء كانت مسيطرة تماما على معظم موارد البلاد، من الأرض والصناعات والأعمال، وهي ثروة تم الاستيلاء عليها بالقوة والقهر وليس بمنافسة عادلة في مناخ سياسي محايد (إذا كان بعض القراء يؤمنون بوجود نظام رأسمالي يمكن أن يوصف بأنه يرعى المنافسة القانونية العادلة).. برنامج المؤتمر الوطني الافريقي السياسي كان واضحا في أنه سيعيد توزيع الثروة كونها كانت نتيجة توزيع ظالم وعنصري منذ البداية، وكان برنامج المؤتمر الوطني يعتمد سياستي إصلاح الأراضي (land reform) وتوطين الأعمال (business indigenization) لإعادة توزيع الثروة.. أثناء المفاوضات قدم المؤتمر الوطني تنازلات نظرية كبيرة عن هذا البرنامج، ثم كانت التنازلات العملية بعد الوصول للسلطة أكبر.

(4)
كل ما قيل أعلاه يقود للواقع الحالي في أزانيا (جنوب افريقيا)، وهو واقع يختلف، اختلافا حادا، عن الصورة المروّجة من جانب الإعلام العالمي.. هذا الإعلام يحب أن يتحدث عن تجربة جنوب افريقيا كنموذج ناجح ونهاية سعيدة لقصة سياسية مليئة بالمعاناة.. الواقع اليوم في تلك البلاد أن نظام الفصل العنصري لم ينته تماما، بل إن بقاياه واضحة في الهيكل الاقتصادي والاجتماعي.. يكفي القول إن خارطة السلطة الاقتصادية في جنوب افريقيا لم تتغير كثيرا حتى اليوم، خصوصا بالنسبة للأغلبية السوداء والملوّنة، بعد عشرين عاما من النهاية السياسية لنظام الابارتيد.. بل إن نسبة كبيرة صارت أوضاعهم أسوأ، بعد أن تبنت حكومة جنوب افريقيا الجديدة سياسات اقتصادية لبرالية  قحة.. بالنسبة للمتابعين لأوضاع جنوب افريقيا ما بعد الابارتيد، متابعة واقعية، فهم يستطيعون الشهادة على ذلك.. البلاد المسماة بجنوب افريقيا اليوم هي من أكثر بلدان العالم التي ترى فيها، رأي العين المجردة، تناقضات الثروة الفاحشة، في يد الأقلية، والفقر المدقع، والمعاناة التي تصحبه، عند الأغلبية (وكاتب هذه السطور من الشاهدين على ذلك، على مدى حوالي ستة أشهر من هذا العام 2013).. في بلد واحد، بل وفي مدينة واحدة، يمكنك أن ترى أناسا يعيشون “أعلى أعلى” مستويات الرفاه المادي الذي وصلت له البشرية المعاصرة، وأناسا يعيشون “أسوأ أسوأ” مستويات المعيشة المادية التي يعرفها عصرنا هذا ومعها جميع حزمة المهانة والمعاناة الاجتماعية.. الخطوط العرقية في هذا الواقع المتناقض جدا ليست مختلفة كثيرا عن واقع جنوب افريقيا أثناء حكم نظام الأبارتيد.. باختصار، فإن الكثير من المحللين المتابعين لمجريات الأمور في جنوب افريقيا واثقون من أن الوضع هناك إنما هو قنبلة مكتومة، ستنفجر عاجلا أم آجلا، لدهشة العالم، إذا لم يتم احتواؤها احتواءً حقيقيا، بدل الاستمرار في ترويج صورة مزيفة لذلك الواقع.

(5)
من المهم أيضا ذكر أن مانديلا، بصفته قائدا سياسيا، لم تكن له نفس المساهمة القيادية من الناحية الفكرية في بناء أدب النضال الافريقي ضد الاستعمار وسلالته.. مانديلا لم يشارك مشاركة فذة في رسم البرنامج الأيديولوجي للمؤتمر الوطني الافريقي، أو التنشئة الأيديولوجية النضالية لعموم شعب أزانيا (بله بقية شعوب افريقيا).. مانديلا انضم للمؤتمر الوطني الافريقي في وقت كان فيه الكثير من القيادات الفكرية المؤثرة فيه – بعضهم استمر في التنظيم وآخرون انشقوا عنه لاحقا لأسباب خلافات فكرية واستراتيجية، مثل روبرت سوبوكوي – ونال مانديلا شهرته أكثر كقيادي ميداني (تنفيذي) صاحب شجاعة وكارزما ومستوى تعليمي عالي.. هذه الحقيقة لا يؤثر فيها أن مانديلا كتب كتابات كثيرة مشهورة، وتحدث أحاديث مشهورة، تسير بها الركبان اليوم، ذلك أن معظم كتاباته المشهورة هي كتابات سيرة ذاتية وليست صياغات فكرية جديدة تحلل وتعالج مسائل اقتصادية واجتماعية وتنظيمية معيّنة في سياق بلاده الافريقية (كما فعل نكروما ونيريري مثلا، أو أملكار كابرال)، كما ان أحاديث مانديلا المشهورة، رغم جمالها، هي إعادة صياغة لغوية لمعاني وقيم وأفكار ليس فيها بصمة فكرية أصيلة.. لا أقول هذا من باب تطفيف ذلك الإنتاج، ولكن من باب التقييم الموضوعي العام.

لهذا فإن تدبيج مانديلا اليوم على أنه “أبو الأمة الجنوب افريقية” فيه نوع من المبالغة.. مانديلا نفسه، بتواضعه المعروف، كثيرا ما أقر بأنه تعلم كثيرا من القيادات الزميلة له في تاريخ النضال، من أعضاء المؤتمر الوطني الافريقي.. علاوة على ذلك فإن مانديلا نفسه صرّح كثيرا بأنه لم يكن ليعترض اطلاقا على استمرار قيادة المؤتمر الوطني بواسطة أوليفر تامبو (الرئيس السابق للمؤتمر قبل مانديلا) لأن الأخير، حسب مانديلا، كانت لديه كل المواصفات والرصيد النضالي المطلوب لقيادة جنوب افريقيا ما بعد الابارتيد.. هذا علاوة على أن تضحيات مانديلا العملية نفسها، في تاريخ النضال، لا تقف بصورة متميزة جدا عن تضحيات آخرين من قيادات النضال حينها.. والتر سيسولو، مثلا، الشخص الذي نجح في تجنيد مانديلا للمؤتمر الوطني وكان زعيمه لفترة طويلة، قضى نفس الفترة في السجن مع مانديلا، وبقي نشطا ومؤثرا في النضال، وعلى مانديلا نفسه، طيلة تلك الفترة.

أخيرا: مانديلا نفسه، على العموم، لم ينسب لنفسه معظم ما صار الناس ينسبونه إليه، فهو كان متواضعا وصادقا (ولهذا فقد كان قائدا حقيقيا)، وكان أيضا سياسيا براغماتيا في منعطفات مهمة، إضافة إلى أن كثيرا من مواقفه الشخصية – والموثقة في أقواله ولكن لم تجد فرصة التطبيق العملي – واضحة في وقوفها بجانب القضايا الأساسية للتحرر السياسي والاقتصادي للإنسانية جمعاء، كما في وقوفها بجانب قيم أخلاقية تحظى بكل الاحترام في المستوى النظري.. مانديلا أيضا لم يحاول التغطية على جوانب شخصيته وحياته الخاصة التي لم تكن دوما على اتساق مع الصورة الملائكية المرسومة له في مخيلة الكثيرين.. باختصار، مانديلا كان أكثر تصالحا مع شخصيته ومساهماته الحقيقية، بإيجابياتها وسلبياتها، من الصورة الأسطورية التي رسمها الإعلام له لاحقا وبأثر رجعي.. تلك الصورة الأسطورية، بقصد أو بغير قصد، خدمت غرضين غير نبيلين: أولهما أنها اختزلت نضال وتضحيات شعب كامل في شخصية واحدة، واختزلت تراكم قيادات ومساهمات فذة في قيادة ومساهمة واحدة، وذلك الاختزال غير صحي في تأسيس قاعدة أخلاقية وفكرية واسعة وبناء تاريخ أمة فخورة بنفسها كأمة.. ثانيهما أنها رسمت للعالم صورة مزيفة لأزانيا ما بعد الأبارتيد، فقدّمت بذلك نموذجا شائها وأملا كاذبا لطموحات التحرر البشري الحقيقي والنضال الذي ما زال مستمرا.. مانديلا جدير بالاحترام والذكرى الطيبة، لكن ليس من أحد جدير بأن نغيّر وقائع التاريخ أو نتجاهلها من أجله.

قصة مانديلا الواقعية أجدى من القصة الأسطورية، لأن فيها دروسا حقيقية مفيدة للسير قُدما في طريق الحرية الطويل، بعضها دروس لما يجب أن نستمر فيه وبعضها الآخر دروس لما يجب ألا نكرره.. أما القصة الأسطورية فهي لن تفعل أكثر من تخدير الأحاسيس لبعض الوقت، سرعان ما نفيق منها بصدمات الواقع الذي لا يكذب ولا يتخدر.

بعض المصادر (للمزيد من المعلومات):– حول تاريخ مانديلا السياسي: http://africanhistory.about.com/od/mandelanelson/a/bio_mandela.htm– تاريخ المؤتمر الوطني الافريقي:http://www.sahistory.org.za/organisations/african-national-congress-anc– شهادة قيادي من المؤتمر الوطني الافريقي حول أخطاء المؤتمر ونتائج ذلك في أوضاع ما بعد الابارتيد:http://www.theguardian.com/commentisfree/2013/jun/24/anc-faustian-pact-mandela-fatal-error/print– قصة روبرت سوبوكوي:http://www.sahistory.org.za/people/robert-mangaliso-sobukwe– قصة ستيف بيكو:http://www.sahistory.org.za/people/stephen-bantu-biko

قصي همرور
(نشر سابقا، في مدونة سرادق، في 7 ديسمبر 2013)