جون قرنق يخاطب أسرى الحرب

بمدينة ييي، في العام 1997، وأثناء الحرب الأهلية التي سبقت اتفاقية السلام الشاملة، التقى الدكتور جون قرنق بأسرى الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان (SPLM/A).. بلغة الكلام السودانية العامة، وببساطة جزلة ووضوح فائق، طمأن الدكتور الأسرى على سلامتهم (وهم بضع مائة)، وشرع في تبيين مفهوم السودان الجديد وفلسفة الحركة الشعبية لهم، وعيا منه بأن هؤلاء السودانيين إخوته، وما كانوا ليقاتلوه إلا بإجبار أو لسوء الفهم.. في ثلث ساعة قدم الدكتور ما هي بجدارة إحدى أعظم الخُطب في تاريخ السودان، وهي لم تتم في وضع فخم أو بلغة فخمة، بل قيلت في سياق واقعي جدا، صعب في مظهره ويعكس مأساة السودان، حيث السودانيون يحتربون مع السودانيين، ويقتل ويأسر بعضهم بعضا، والسبب في ذلك ليس سوى سلسلة من سوء الفهم وقصور الوعي والإنصاف في دولة تملك جميع مؤهلات المستقبل المشرق ولكن تكتوي بكل المحبطات.. في هذا السياق قدّم الدكتور قرنق لنا خطبة عظيمة، تستحق التوثيق التاريخي والذياع والتوريث للاجيال القادمة، لأنها تبعث الأمل مجددا وتحييه، بيانا بالعمل، في سودان جديد طالما انتظرناه ومازلنا.

شاهدنا الخطبة أدناه في فيديو بموقع “يوتيوب” (YouTube.com) بالانترنت [1]، وقمنا برصدها للكلمة المكتوبة، وحاولنا جعلها سلسة القراءة للجميع، باللهجة السودانية العامة التي تحدث بها الدكتور قرنق (مع بعض التعديلات هنا وهناك، فقط لغرض تنسيق الكلام المكتوب وتسهيله لجميع القراء مع التركيز على العنصر الدائم في الخطبة أكثر من تفاصيل السياق الذي تجاوزته الظروف المعاصرة).. شاهدنا أيضا تجاوب الأسرى مع كلام القائد الفذ، وهم يطمئنون لأنهم أمام إنسان سوداني مثلهم، يسعى معهم، لأجلهم وبهم، إلى مصلحة السودان العليا.. فإلى نص الخطبة.

نص الخطبة

أنا جيت مع الوفد، الأخ الفريق أول فتحي، وهم زايرين من التجمع الوطني، وده تأكيد أن السلامة بتاعتكم مؤمّنة، وأمنكم محفوظ، ووجود الوفد ده جزء من كلامنا.. فكل واحد فيكم ما يشعر إنه في أي خطورة، الخطورة كانت يوم داك (يوم المعركة).. ثم الحا يحصل شنو، مصيركم حيكون شنو بعد ما حياتكم أنقذت، ده في يد ربنا، وأهو جاب إيدكم بره من الموت.

(…) الفتنة الجات جابتها حكومة الجبهة، وإلا فنحن واثقين إنه ما عندنا مشكلة، وزي ما انتم بتشوفوا نحن في التجمع الوطني وما عندنا مشكلة.. ففي كلام كتير حيتقال، لكن أنا عاوز أؤكد ليكم أن السلامة بتاعتكم محفوظة، وأنتم في أمان.. ده كلام مهم، عشان انا ما عايز زول يسرق نفسه ويتعب وتلقاه مصيبة في السكة، فلأي سبب من الأسباب ما تفوت، فزي ما قلنا مصيركم في يد ربنا، وهو الجاب أيدكم من الموت يوم داك.

نمرة اتنين، عاوز اقول انه نحن في الحركة الشعبية، من 1983، بنناضل من أجل وحدة السودان.. الواحد في حياته لازم إذا قاتل يقاتل من أجل أمر مهم.. الجبهة في الخرطوم بتقول إنهم بيقاتلوا الحركة الشعبية لأسباب ثلاثة رئيسية.. بيقولوا إنهم بيدافعوا عن الدين – عن الإسلام – وبيقولوا بيدافعوا عن العروبة، وعن وحدة السودان.. ده الكلام القاعدين يقولوه ليكم وبيقولوه للعالم.. لكن أنا عاوز أقول وأؤكد ليكم إن الحاجات الثلاثة ديل مافي عليها خطورة.

شيلوا وحدة السودان.. وحدة السودان مافي عليها أي خطورة.. نحن من 1983 بنقاتل من أجل وحدة السودان؛ الاشتباكات الأولية القادتها الحركة الشعبية من 83 ما كانت مع جيش السودان، بل كانت مع فئة في الحركة الشعبية، او أنيانيا تو (Anyanya 2)، كانوا بينادوا بالانفصال، وقاتلناهم في 83، ودي حقيقة.. الأخوان والحكومات هناك في الخرطوم عملوا أنفسهم المحافظين عن وحدة السودان، والعكس هو الصحيح، لأن الناس البينادوا بانفصال جنوب السودان قاعدين يتعاونوا مع الخرطوم، مثلا الفئة القلناها ديك مشوا واتفقوا مع حكومات في الخرطوم، وحاليا البنادوا بانفصال جنوب السودان وعندهم حركة اسمها حركة استقلال جنوب السودان (Southern Sudan Independence Movement)، حاليا في الخرطوم.. فالعكس هو الصحيح، نحن بنؤمن ونقاتل ونناضل من أجل تحقيق وحدة السودان.. وحدة السودان الصحيح، الفوقه كل الناس، كل الجنسيات والقوميات والثقافات، وده هو الواقع في السودان.. السودان مكون من قبائل كتيرة، من ثقافات وأديان كتيرة؛ فإذا واحد بيقول لازم السودان يكون مسلم وعربي كله، نحن بنقول لا، المسلمين جزء لا يتجزأ من مجتمعات السودان، لكن موش كل الناس مسلمين، ده واضح.. وناس برضو بيقولوا السودان لازم يكون عربي، ونحن برضو بنقول لا، القوميات العربية جزء لا يتجزأ من قوميات السودان، لكن موش كل الناس عرب، وده برضو واضح.. فنحن بنقول يا جماعة كدي الطائفية والانحياز للجنس ده، كدي نسيبه، ونبني دولة بتاعتنا كلنا.. إذا قلنا السودان لازم يكون دولة عربية، الناس ما بتشوف الكلام ده غريب، لكن إذا أنا قلت حسه، بالنسبة للفور في غرب السودان، إذا قاموا بحركة وقالوا السودان لازم يكون دولة فوراوية، الحاكمين في الخرطوم بيقولوا الزول ده مجنون شيلوه المستشفى [2].. فالتفرقة باسم الجنس دي كدي النسيبها ونبني دولة بتاعتنا، سودان من كل القوميات.. ده مطلب منطقي، فالكلام بتاع وحدة السودان هو كلامنا عن وحدة السودان الحقيقية، البتشمل كل زول، بس عشان مافي زول يفتكر انه مهمش.. تمشوا الخرطوم، انت من الشرق وانت من الغرب وانت من الجنوب وانت من الشمال وانت من الوسط، تكون مواطن سوداني جاي الخرطوم وخلاص! المشكلة في ده شنو؟ نقاتل في بعضنا عشان الكلام ده؟ ده ما منطقي! ربنا ذاته ما بيوافق عليه.. يوم داك لمن ربنا خلقنا كلنا، موش خلق عرب وخلق نوير وخلق شلك وخلق فور وخلق هدندوة؟ خلق الناس ديل كلهم.. ومين من حقه يقول ربنا كان غلطان؟

نحن الحركة بتاعتنا مبنية على حقايق، ما بنكذب لي أي زول، فنحن بنؤمن بوحدة السودان، وحدة السودان الفوقه كل الناس ما بجيبوا شكلة تاني.. ونحن بنحقق الوحدة دي ونبني الدولة بتاعتنا على أسس صحيحة.


ده بالنسبة للوحدة، أما بالنسبة للدين، نحن ما عندنا مشكلة مع دين، انت عاوز تكون مسلم أهلا وسهلا، ده حقك، عاوز تكون مسيحي ده حقك.. ربنا واحد، ربنا ما مسلم ولا مسيحي.. ربنا ما طائفي، ما مسيحي وما مسلم، وأنا أؤمن بربنا.. فالدين ما يفرق الناس.. المجتمع السوداني فيه أديان، وصحيح المسلمين أغلبية في السودان، لكن ده ما بيديهم الحق عشان يسيطروا على الآخرين.. البلد بتتفرتك.. إذن ندي الحرية لجميع الأديان.. أنتم الموجودين هنا حاليا كأسرى حرب، عندكم الحرية التامة عشان تصلوا لربنا بالطريقة الانت عاوزها.. أغلبيتكم هنا مسلمين وعندكم الحق تصلوا هنا.. نحن في الحركة الشعبية بنقول الدين علاقة بين الإنسان وربه، بين الخالق والمخلوق.. ناس بيقولوا ده إسلام، وناس تانين بيقولوا ده مسيحية، وهي نفسها العلاقة دي، بين الزول وربه.. أما الدولة، خلقناها نحن، موش ربنا الخلق الدولة.. دي الفلسفة بتاعتي وبتاعة الحركة (يضحك).. الخلق الدولة موش ربنا، الخلق الدولة إنسان.. زي ما الإنسان خلق العربية، الدولة برضها خلقها إنسان، فإذا في زول بيفتكر إنه العربية ممكن تؤمن، لأني خلقتها، نفس الشيء مع الدولة.. فالدين ده علاقة بين الشخص وربه، والدولة ما ممكن يكون عندها دين.. أنا ما شفت يوم واحد دولة مشت يوم الجمعة المسجد تصلي، إنتم شفتوا دولة زي دي؟ ولا يوم الأحد، بالنسبة للمسيحيين، مافي دولة بتمشي الكنيسة يوم الأحد.. مافي دولة بتمشي الحج لمكة، ده إنسان البمشي.. وإذا متنا بعدين ومشينا لربنا، مافي دولة حا تمشي جهنم أو دولة حا تمشي الجنة، بس انت الإنسان البتقيف أمام ربنا وبتُحاسب على أعمالك، موش أعمال دولتك.. يا جماعة دي حقايق، فما ممكن نفرق الناس باسم الدين.. كدي نسيب الدين للشخص، الدولة لينا نحن الجميع.. ده ياهو الطريق الممكن نوحد بيه السودان، ونبني دولة قوية في افريقيا، في القارة دي.. ده موقفنا بالنسبة للدين.. موقف واضح.

ثالثا، بيقولوا العروبة في خطورة.. الثقافة العربية ثقافة سودانية، جزء من الثقافات بتاعة السودان، ده ما فيه شك، لكنها واحدة من الثقافات.. النوير عندهم ثقافة، والفور عندهم ثقافة، والنوبة عندهم ثقافة، والدناقلة والبجة والدينكا عندهم ثقافاتهم، وكل الثقافات دي هي البتكوّن السودان.. ومافي واحدة من الثقافات دي مهددة، مافي خطورة على أي واحدة منها، سواء كانت ثقافة عربية أو افريقية أو غيرها في السودان.. فالتعدد الثقافي ده حاجة حلوة، حاجة كويسة، ما بطالة.. خلينا نبني بيها السودان الجديد النحن بنتكلم عنه ده.

ده موقفنا من القضايا الثلاثة دي.. وحدة السودان ما مهددة، الإسلام في السودان ما مهدد، والثقافة العربية في السودان ما مهددة.. إذن ما هو سبب الشكلة؟ الأخوان المسلمين نصبوا أنفسهم مدافعين عن القضايا الثلاثة دي، وأنا بقول ليهم ده كلام فارغ! أنا ده، جون قرنق، أؤمن بوحدة السودان.. أنا ما ضد الإسلام ولا ضد الثقافة العربية، فلأجل شنو الجبهة تشاكلني؟ أنا بس عاوز عدالة لكل الجنسيات في السودان.. نحن تعبانين، والاقتصاد واقع تماما، والناس تعبانين في الخرطوم وكل جهات السودان، بسبب التفرقة دي.. أي بيت؛ عندكم هنا السوادنيين بيتزوجوا نسوان كتير.. كان عندك ثلاثة زوجات في البيت، وكل امرأة عندها أطفالها، فإنت إذا بدأت تفرق بين نساءك وأطفالهن، البيت بتاعك ما بيكون آمن، وبكون دايما في حالة احتراب [3].. كدي خلونا ننضف بيتنا عشان نمشي في طريق صحيح، طريق منطقي.. انت شايفني هنا بتكلم بدون خوف، لاني بتكلم الحقيقة، وأي دولة، أي بيت، ما أسسوه على حقايق بيموت ويتفرتك.

فيا جماعة نحن طبقنا الفلسفة بتاعتنا، وده ياهو السبب الانتم حسي موجودين بيه [4].. ديل قاعدين يحاربونا عشان فهمهم مغرض، ناس الجبهة، وهم أخوانا وسودانيين، ده ياهو السبب الرسلوكم بيه انتم.. فعلا عندنا في الحركة الشعبية ناس راسهم قوي وزعلانين، لكن ديل أفراد.. نحن بنشوفكم القاعدين هنا ده، أنا بشوفكم كلكم أخواني.

انتم كنتم في الجيش، وفي الجيش في نظام وانضباط، ومعاكم العقيد الطيب هنا، ونظام الجيش لازم يستمر حتى لو أسروك، لازم يكون في الاحترام بتاع الجيش.. انتم كوحدة كنتم مع بعض في مناطق كتيرة، والأخوان ديل من وفد التجمع الوطني جوكم عشان يتونسوا معاكم، وناسنا نحن زاتنا في الحركة حا يتونسوا معاكم، والناس هنا كلها بتتكلم الحقايق دي زي ما أنا بتكلم عنها حسي.. انت هنا الآن حر في أن تقول أي حاجة داير تقولها، البيفيد البلد.. الظروف بتاعتكم أنا عارفها ما تمام، وعارف انكم ما عندكم ملابس وما عندكم بطاطين، وفي سَقـَط (برد).. انتم تعبانين والأكل ما كفاية، ونحن حنطالب الجهات الدولية عشان تساعدنا عشان نساعدكم.. أنا ما عندي حاجة في يدي، ولو كان عندي حسه الحاجات دي كنت أديتكم [5]، لكن نحن بنفتش على المساعدات عشان الوضع بتاعكم يكون أفضل من ده.

أما حا يحصل شنو لي قدام أو حا تعملوا شنو، أول حاجة روّق وشيل الخوف منك، وتشيل مكانك كمواطن سوداني.. بعد ده انت حا تشاور عقلك، بعد الاستقرار النفسي، وتشيل الموقع بتاعك كإنسان سوداني محترم، وتتخذ قرارك، وأنا متأكد إن السودان بتاعنا ده.. عنده مستقبل كبير.. شكرا.

رصد: قصي همرور
(نُشر في جريدة أجراس الحرية، أكتوبر 2008)

هوامش

[1] وصلة الفيديو هنا:
:الجزء الأول
http://www.youtube.com/watch?v=O1g_MSuTXYk
الجزء الثاني:
http://www.youtube.com/watch?v=MPtoSogR_zQ
[2] من المثير للانتباه أن هذا المثل جاء قبل أزمة دارفور الراهنة وقيام الحركات المسلحة فيها، فهل كان هذا مجرد مثل عابر أم قراءة مستقبلية، نوعا ما، من رجل عرف مظالم الهامش وتطلعاته؟
[3] من الواضح الغرض من ضرب هذا المثل في مثل ذلك السياق، ولا نرى داعيا لاعتبار هذا التصريح يمثل موقفا من قضية تعدد الزوجات وحقوق المرأة السودانية، فمواقف الحركة الشعبية من هذه القضية موثقة في مصادر أخرى بصورة أوضح
[4] لعل الدكتور قرنق يشير لأن احتفاظ الحركة الشعبية بأسرى الحرب، ومعاملتهم الكريمة لهم، ومخاطبته هو شخصيا لهم في ذلك المقام، دليل من دلائل صدق فلسفة الحركة الشعبية في وحدة السودان وحماية تنوعه.
[5] يشير الدكتور قرنق هنا للظروف المادية الضيقة التي أدارت بها الحركة الشعبية شؤونها في تلك الفترة.

أضف تعليق