حول صحة التاريخ الحضاري لشعوب السودان

شعوب السودان فعلا لها تاريخ حضاري عتيد، ومؤشرات هذا الأمر ماثلة بيننا حاليا لمن يراها (بجانب التاريخ المدوّن والمرصود)، لكنّا عادة ما نقرأ هذه المؤشرات قراءة عكسية، ولنا في ذلك بعض العذر لأنها ليست “براهين مباشرة” إنما “براهين مشفّرة”، لا تُقرأ إلا عبر شاشة (نظرية) تاريخية.
 
نحن حاليا، في السودان، في أسفل سلّم التحضّر الاجتماعي البشري [والتحضّر غير التمدّن، وبينهما تواصل، وهذا موضوع آخر]، وربما لا يفصل بيننا وبين القاع الحضاري سوى خطوات، ومعظم مجتمعات العالم إما مثلنا أو أمامنا، لكن من هم خلفنا قلة لا تكاد تُذكر. على سبيل المثال، من مظاهر التحضّر الواضحة: الحركة العامة والسلوك العام في حواضر البلد–ورغم أني رأيت الكثير من البلدان الفقيرة مثلنا، وعشت في بعضها لفترات معتبرة وفي مناطق عيش أواسط المجتمع المحلي، لم أرَ مستوى من قلة النظافة العامة وقلة الاهتمام بقواعد المجال العام، مثلما رأيت في الخرطوم المعاصرة، وبهذا أقصد مجمل الأحوال، في الشارع وفي المؤسسات العامة وفي المؤسسات الخاصة، وحتى في الأحياء، وفي التوقّعات والمسلّمات العامة.
 
لكن، للمفارقة، هذه كلها عندي مؤشرات (وليست دلائل قاطعة) على أن شعوب السودان فعلا لها تاريخ حضاري عتيد. فعلاقة الحضارات مع التاريخ مثل الموجات، لها قمة ولها قاعدة، وقواعدها تكون سحيقة بقدر علو قممها. كما ذكرنا من قبل فإن الحالة الحضارية الاجتماعية بطبيعتها ليست حالة مستدامة:
“أي قفزة حضارية….هي قفزة غير مستقرة، وتحتاج للكثير من المجهود للإبقاء عليها، والبناء عليها، مقابل خيار الاسترخاء قليلا حتى ينهدم البنيان كله بدون كثير جهد. وهذه الحقيقة الوجودية تظهر جليّا للبشر في فترات الأزمات، فليست هنالك حضارة كبرى لا يمكنها أن تسقط سقوطا داويا في فترة وجيزة جدا في أوقات الأزمات إذا رفعت كل جهة يدها من المسؤولية (سواء أكانت تلك الأزمات كوارث طبيعية، اجتماعية، تكنولوجية، بيولوجية، إلخ) مقارنة بالزمن الطويل والطاقة الكبيرة والتضحيات الكثيرة التي استغرقت بناء تلك الحضارة.”
 
ما أراه من ضعف حضارتنا اليوم هو مؤشر أننا كنّا على حضارة عالية، نسبيا، بين الحضارات – وكذلك كانت شعوب أخرى اليوم ننظر لها وننعتها بأنها غير متحضرة بعد – لكن ما جرى أننا حاليا، ومنذ فترة، نمرّ بقاعدة الموجة، ونسينا الكثير من ذاكرتنا الحضارية كما تعبنا من الحضارة العالية (والحضارة مُتعِبة، فهي كالبناء الكبير، المعقّد، الفخم النظيف، الذي يحتاج نظافة وصيانة واسعة ودقيقة يوميا كيما يبقى كذلك، مقابل البناء الصغير بسيط البنيان والمحتويات والذي لا يفرق كثيرا أن تنظفه أو تصينه كل أسبوع أو كل شهر).
 
التاريخ الحضاري لشعوب هذه المنطقة صحيح، وتخلّفنا الحضاري اليوم مؤشّر عليه وليس مُنكِرا له. وما هو في تاريخنا المحلّي يمكننا استعادته، عاجلا أم آجلا، وفق مقتضيات السياق ومقتضيات العمل، بل قد تدفعنا له الأوضاع دفعا حيث أننا أمام سؤال: إما نكون أو لا نكون–إما نستعيد تاريخنا الحضاري – ليس نفسه شكليّا بطبيعة الحال وإنما روحه وشوكته – أو نتفتّت ونندثر (وهذا احتمال حقيقي وحصل لشعوب سابقة).
 
The movement of the Tao
by contraries proceeds,
and weakness marks the course
of Tao’s mighty deeds….
(book of the Tao, Tao Te Ching)

أضف تعليق