ازدهار القطاع الخدمي: واحة أم سراب؟


مجموعة مقدّرة من بلدان افريقيا اليوم تشهد نموا اقتصاديا ملحوظا بسبب انتعاش قطاع الخدمات فيها. أعنى أن هنالك ارتفاعا مشهودا في معدلات نموها السنوية، لدرجة أن بعضها صارت تتحلى بألقاب “معجزات نمو” شبيهة، لحد ما، بتلك الألقاب التي حاولت وصف الازدهار الاقتصادي الكبير الذي مرت به النمور الآسيوية في فترات تحولاتها الكبيرة في العقود الماضية.

القطاع الخدمي الذي نعنيه هنا هو ذلك الذي يحوي خدمات الاتصالات، وتجارة السلع المستوردة والكماليات، والخدمات المصرفية، والأمنية الخاصة، والخدمات الإعلامية والبرمجية (إعلانات وتصميم)، والسوق العقاري، وشغل المنظمات الخيرية، وطبعا خدمات الترفيه والمطاعم والضيافة. هذا القطاع شهد ازدهارا عاما في عدد من الدول الافريقية مؤخرا (بينها السودان)، جعل الكثيرين يقولون إن هنالك حراكا اقتصاديا منعشا، وإن افريقيا بدأت تستفيد من العولمة استفادة حقيقية، إلخ. فهل ذلك صحيح؟ وهل هذا النمو الذي نراه الآن شبيه بالنمو الذي شهدته النمور الآسيوية مسبقا؟

عموما فالواضح موضوعيا أن الذي يحدث الآن – نمو الاقتصاد عن طريق ازدهار القطاع الخدمي – شيء جديد من نواتج استفحال العولمة. في التاريخ الحديث لم يحصل أن ازدهرت بلدٌ ما اقتصاديا إلا عن طريق القطاع الإنتاجي، سواء كان زراعيا أو صناعيا (وذلك أكثر استدامة) أو كان استخراجيا لمواردها الطبيعية كالبترول والمعادن إلخ (ما يسمى اقتصاد الريع، وذلك أقل استدامة). بعد ذلك يبدأ القطاع الخدمي في الازدهار، ليلبي طلبات قوة شرائية متصاعدة، ويبدأ بتكوين نفسه مع تأسيس البنية التحتية والخدمات المصرفية (في حين تتخلل خدمات الصحة والتعليم كل ذلك)، ثم تأتي الخدمات التي ذكرناها عاليه والتي تزدهر في افريقيا اليوم. هذه هي الصورة العامة لموجات التنمية السابقة المعروفة، سواء كانت في اليابان أو البرازيل أو الصين والهند أو النمور الآسيوية. لذلك فما يحدث الآن في هذه الدول الافريقية غير معهود، ولذلك تحيط التساؤلات بمدى قدرة هذا المسار الجديد على تعبيد طريق نحو تنمية شاملة ومستدامة. هل سيستمر هذا المسار أم سيتوقف في لحظة ما لا يعرف بعدها ماذا يفعل؟

بعض الذين لا يمانعون حدوث هذا النمو الاقتصادي عن طريق القطاع الخدمي يقولون إن هنالك أعذار مقبولة لهذا الاتجاه، إذ أن هنالك عزوف من جانب أصحاب الأعمال المحليين عن الانخراط في أعمال إنتاجية – كمشاريع الصناعات الزراعية والتعدينية والتحويلية – لأن البنية التحتية لهذه البلدان الافريقية، وأحوال الاستقرار السياسي فيها، غير مواتية، فلا يمكن مثلا أن نتوقع من مستثمرين أن يبدأوا مشروعا صناعيا في حين لا يستطيعون ضمان استمرار التيار الكهربائي طيلة ساعات العمل أو وجود سلسلة طرق ومواصلات وافية لاستيعاب عمليات النقل الداخلة في سلسلة الإنتاج والتسويق، وبالتالي فإن الاستثمار في القطاع الإنتاجي يشكل بالنسبة لأي مستثمر مخاطرة كبيرة. لذلك أيضا نجد أن الجهات المستعدة لاستثمارات كهذه هي حكومات وشركات الدول الصناعية الأجنبية التي تستأجر أراضي شاسعة في تلك البلاد الافريقية، لسنوات طويلة، أو تحوز على عقود احتكار مناطق تعدينية لنفس الفترات، ثم تأتي بترسانتها وشركاتها الكبيرة لخلق قطاع إنتاجي من الصفر تقريبا. هذه الدول الصناعية المتقدمة، بترسانتها الكبيرة، لديها من الثروة والمعدات ما يساعدها على الاستثمار في قطاع اقتصادي ضعيف جدا في هذه الدول النامية للنهوض به، لكن أصحاب الثروة المعقولة ورؤوس الأموال المتواضعة، من المستثمرين المحليين، لا طاقة لهم بذلك، ولذلك فهم معذورون في إيثارهم الخطر الأقل والاستثمار والتربّح من القطاع الخدمي عموما. هذه على العموم وجهة نظر.

ما نريد أن نقوله هو أن الاستثمار الاقتصادي في القطاع الإنتاجي قد تكون له محفزات ومثبطات في أي دولة، لكن، حسب قواعد العمل في القطاع الخاص عبر التاريخ، ليست هنالك استثمارات اقتصادية في مكان ما تخلو من عنصر المخاطرة الاستثمارية. ربما تقل أو تكثر عناصر المخاطرة حسب البلد وحسب مستوى نضوج اقتصادها حاليا، لكن من المؤكد أن الرأسماليين القدامى في أوروبا، والمواطنين أصحاب الصناعات الصغيرة الذين بدأوا العمل الإنتاجي في دول النمور الآسيوسية قبل ثلاثة وأربعة عقود من اليوم، وكذلك أصحاب الورش الصغيرة في اليابان ما بعد الحرب العالمية الثانية (تلك الورش التي تحولت لاحقا لمصانع سيارات بماركات مشهورة عالميا) لم تكن لديهم كل أسباب الكهرباء والبنية التحتية والخدمات المصرفية الموجودة لديهم اليوم، ولكنهم لم يعزفوا عن الأعمال الإنتاجية رغم ذلك. وفي الواقع فإن الكثير جدا من أصحاب الأعمال خسروا كثيرا عبر تلك الفترات المصيرية، فاستمر بعضهم رغم كل شيء وتعافى لاحقا، كما لم يتعاف الكثيرون وخرجوا من اللعبة أو تم ابتلاعهم في وقت من الأوقات. هذا على العموم هو حال السوق النامية نموا واقعيا: لا ضمانات ولا بدائل عن المخاطرة والجهد. صحيح أن الدولة بأجهزتها التشريعية والأمنية والعدلية يمكنها أن تجعل المناخ الاستثماري أكثر استقرارا، كما يمكنها أن تعمل حثيثا على رفع مستوى البنية التحتية والخدمات العامة بصورة متناغمة مع احتياجات القطاع الإنتاجي (الخاص والعام)، لكن كل ذلك لا يحصل بمعزل عن جرأة وجهد المواطنين أصحاب الأعمال والعاملين أنفسهم. لذلك فعزوف المستثمرين المحليين – صغارا وكبارا – عن القطاع الإنتاجي لصالح الكسب الأسرع والأضمن (ولكن بسقوف) في القطاع الخدمي علامة نقص الجسارة والطموح وسط هؤلاء المستثمرين. لذلك أيضا، وسط هذه الأوضاع، فإن الأثرياء وأصحاب الأعمال السودانيين الذين يقبلون شروط المخاطرة هذه ويدخلون في القطاع الإنتاجي اليوم، هم عموما في الجانب الإيجابي من سيرورة التاريخ ويستحقون التقدير والتشجيع لذلك.

الأمر الأهم، والذي يجعلنا ننظر لظاهرة ازدهار القطاع الخدمي في افريقيا، على حساب القطاع الإنتاجي فيها، كورطة عامة لا كأخبار طيبة، هو أن هذا القطاع في حقبة العولمة يعطي انطباعا لدى البعض بأنه كبير ومتمدد إلى ما لانهاية، وفرصه كبيرة، لكن الواقع الاقتصادي الموضوعي (العلمي) في أي بلد نامي يفيد بأن تضخم القطاع الخدمى على حساب تضاؤل أو تباطؤ نمو القطاع الإنتاجي (الصناعي والزراعي بالذات) يعني على المدى الطويل تدني أو تقلص مهارات العمالة المحلية مع تقلص فرص الاستقرار الوظيفي (إذ مهارة العمالة العالية تتركز أكثر في القطاع الإنتاجي)، ما يؤدي بدوره إلى تقلص وهشاشة القوى الشرائية المحلية في البلد (فالقطاع الخدمي لا يوظف إلا أعدادا محدودة فقط بدخول مجزية)، ما يؤدي بدوره لركود السوق مع اضمحلال الاقتصاد المحلي كله والدوران في حلقة مفرغة.

باختصار: تضخم القطاع الخدمي على حساب تجاهل القطاع الإنتاجي المحلي (أي بالقوى المحلية) مسار تنمية ينذر بعواقب وخيمة، ما لم تحصل تحولات جوهرية فيه في أقرب فرصة. هو تماما مثل أن يبني أحدنا عمارة ينشغل فيها بمظهرها وتصميمها الخارجي، وديكورها الداخلي، وارتفاع عدد طوابقها، وفق موارد محدودة على حساب توطيد الأساس وتهيئة أرضية موقع البناء وجودة الخرسانة وسعة أنظمة التهوية والسباكة والدوائر الكهربية فيها.

رأي واحد حول “ازدهار القطاع الخدمي: واحة أم سراب؟”

  1. انا طبيب بيطري يقدم خدمة في المجال البيطري دون تناسب مع مستويات الإنتاج إذ اغلب المستثمرين لا يدخلون في الإنتاج بل تذهب استثماراتهم في القطاع الخدمي لقلة المخاطر مقارنة بالانتاج

    رد

أضف تعليق