ملاحظات زائر لكوبا

أعترف أن زيارتي لكوبا، والتي راودتني منذ سنوات، كانت لأغراض أيدولوجية/مذهبية في أصلها. صحيح أني أحببت أيضا الاستمتاع بمشاهدة جوانبها المتميزة وتشرب شوارعها ومبانيها وجمال أرضها وأهلها، كما كنت سعيد حظٍّ بمعية عزيزة وقريبة لي فيها، وأنا الغريب كثيرا عليها، إلا أن مصدر استثماري للطاقة والزمن والموارد من أجل هذه تلك الزيارة هو أني أردت لها أن تكون رحلة تعليمية لا ترفيهية.

أردت أن أرى بعينيّ بلدا بنظام اشتراكي واضح المعالم والإنجازات في ذلك المجال، وذلك لأني، كشخص أنتمي مذهبيا لرحاب الاشتراكية بدون تردد، أردت أن أرى بصيصا منها على أرض الواقع. أردت أن أرى بصيصا يمكنني التآلف معه، فكوبا الاشتراكية، بخلاف الصين والاتحاد السوفييتي السابق، ما زالت قائمة، كما انها ليس لديها تاريخ هيمنة عالمية وصنوف استعمار جديد مثلهما، فعموم ما لدى كوبا على صعيد العلاقات الدولية رصيد مشرّف من المؤازرة الندية لحركات التحرر والحكومات الوطنية في العالم الثالث أو المساعدات الإنسانية العملية لشعوب متضررة بكوارث ومشاكل تنموية حادة أو مقاومة الإمبريالية الأمريكية والصمود أمام غطرستها وعقوباتها لعقود. من ناحية السياسة الخارجية أستطيع أن أقول إن جزيرة كوبا الصغيرة، غير الغنية، لديها أحد أكثر الأرصدة تشريفا في العصر الحديث، وهذا في ظني ما يجعل عموم الشعب الكوبي محبوبا عند عموم شعوب العالم الثالث، سواء أكانت حكومات تلك الشعوب صديقة للحكومة الكوبية أم لا.

أما من ناحية السياسة الاقتصادية الداخلية – وهي الأهم بالنسبة لأهداف زيارتي – فكوبا برغم كل النقد الممكن لها حققت على العموم أشياء واضحة: تعميم التعليم والرعاية الصحية لكافة الشعب الكوبي، بدون أي تمييز وبدون تنازلات عن جودة المحتوى (فجودة نظامي التعليم والصحة في كوبا معروفة وفق مقاييس عالمية)، بالإضافة إلى تعميم حق السكن وحق الحد الأدنى من توفير الغذاء، وكذلك تحقيق مستوى عالٍ من الأمان الاجتماعي وتدني معدلات الجريمة بصورة ملحوظة. أكثر من ذلك فإن كوبا حققت رصيدا ملحوظا من تحقيق العدالة الاجتماعية عموما ودعم حقوق الأقليات، بصورة تجاوزت فيها الكثير من بلدان “العالم الأول”. لم يتم إلغاء الفقر ولكن تم رفع خط الفقر إذ صار الفقراء غير محرومين من التعليم والصحة وأساسيات المأوى والغذاء، كما تم تخفيض سقف الثروة الخاصة فلا تجد في كوبا أثرياء جدا أو أصحاب أملاك واسعة. من السذاجة بمكان أن نظن أن تحقيق كل هذه الأشياء كان شيئا سهلا، أو أن الحفاظ علي هذا الخط طيلة هذه العقود كان شيئا سهلا (خصوصا مع وجود جارة ضخمة جدا وعدوانية جدا وتتصرف كأبضاي الكرة الأرضية).

في زيارتي لها، لا أنكر أني نظرت لكوبا وشعبها بعيون محبة مسبقة، أي ليست محايدة، وهي عندي محبة مستحقة، فأنا أحببت الشعب الكوبي قبل أن ألقاه، والآن بعد زيارتي أحبه أكثر وأتمنى له الخير أكثر. بناء على ما تقدم أعلاه، أضع ملاحظات سريعة ومختصرة عن ما شاهدته من الوضع الكوبي:

– من الواضح أن كوبا منهكة، بعد عقود من الحصار الأمريكي خارجيا وشمولية السلطة داخليا. لقد احتملت كوبا الكثير جراء عداوات سياسية مزمنة ليس لعموم الشعب يدٌ فيها.

– لكن رغم الإنهاك فإن الشعب الكوبي عموما محب للحياة ولا تعوزه تناويع التعبير: مرحون ومستمتعون بكل ما تتيحه بلادهم لهم الآن، متعلمون ويعرفون عن بقية العالم، والحياة الثقافية لديهم منتعشة جدا (الفنون بأنواعها وعموم مباهج الحياة العادية)، كوميديون ساخرون من أنفسهم ومن حكومتهم ورموزها وأيضا من المعارضة الكوبية التي تحتضنها أمريكا (ولديهم من الوعي الكافي ما يجعلهم غير مخدوعين بتلك المعارضة ولديهم لها مسميات ساخرة جدا، برغم أنهم تجاوزوا أيضا دواعي مراءاة السلطة الشمولية التي تحكمهم). أكرر إن الفنون عموما مزدهرة في كوبا لحد بعيد، والشعب أيضا جميل (ولدى أهل هافانا عموما هوس خاص بالرياضة واللياقة البدنية وجمال المظهر، بدون تكلّف، نساء ورجال).

– كوبا تتغير الآن، وهو أمر متوقع. ربما بعد سنوات قليلة ستكون مختلفة كثيرا عمّا هي عليه الآن، لكن هناك مزيج من التوجس والتطلع لهذا التغيير القادم، عند الشعب وعند الحكومة معا (ولكن ليس بالضرورة بنفس المنوال). الحكومة تقول إن أهم ما تريد الحفاظ عليه عبر مرحلة التغيير هذه ما تسميه بمكتسبات الثورة: وهي إنجازات التعليم والصحة والأمان الاجتماعي. أعتقد أن الشعب الكوبي متفق مع حكومته في هذه النقطة.

– هافانا مدينة جميلة بلا شك، ولها رونق خاص. هي أيضا مليئة بالحدائق العامة وأماكن الترفيه، رأيت أيضا مدينتين صغيرتين غيرها في كوبا وهما أيضا جميلتان وعلى مستوى جيد من البنية التحتية (الكهرباء والمياه والتصريف والشوارع والمرافق العامة). من الواضح أنها ليست مدينة فقيرة وتعبانة من مدن العالم الثالث، لكنها أيضا ليست غنية.

– لا يمكن تجاهل أن النظام الكوبي الحاكم نظام شمولي عموما في الميدان السياسي. إذا كانت هنالك بعض التبريرات التاريخية لإحكام القبضة على الأوضاع (خصوصا مع الحصار الأمريكي والمحاولات الكثيرة التي جرت لقلب النظام الحاكم واغتيال رموزه من بداية الثورة الكوبية وحتى وقت قريب) إلا أن هذه التبريرات تضاءلت مع الأيام مقارنة مع ما جرى من استقرار رموز السلطة واستئثارهم العام اليوم بالقرار السياسي وإدارة الموارد باسم الشعب الكوبي، وظهور طبقة متسلطة جديدة تتضمن رموز النظام وأبنائهم وبناتهم وأزواجهم، إلخ. من الواضح أن بريق السلطة الكبيرة وشهواتها قادرة مع الزمن على الأخذ بلبّ أي ثوري.

– ساعدتني كوبا على اطمئنان إيماني بمبادئ الاشتراكية العامة. نعم النظام الاقتصادي الاشتراكي ممكن ويستحق السعي لأجله، وإن كان حتى اليوم لم يتنزل في أبهى حلله الممكنة في أي بلد. ساعدتني كوبا أيضا على نقدها من باب الموافقة على رفض اقتصاد السوق ولكن بدون داعي لرفض وتحجيم ظاهرة السوق نفسها (وهنالك فرق بين اقتصاد السوق، كنظام اقتصادي، والسوق كظاهرة ومكان تمارس فيه بعض أنشطة المجتمع الاقتصادية، وربما أعود لهذه النقطة بتفصيل أكثر في وقت لاحق). يمكنني نقد التجربة الكوبية في الأداء الاقتصادي أكثر، ولكن من باب السعي لتحسينها وليس فضّها كلها.

وعموما… بحبك كوبا.

———
(الصورة المرفقة، الأولى، تم التقاطها داخل مقهى/بار/مطعم مشهور في حي هافانا القديمة. جدران المكان كلها مليئة بكتابات الزائرين السابقين من جميع أنحاء العالم وبجميع لغات العالم. بقية الصور التقطتها أثناء الزيارة من أنحاء هافانا)

أضف تعليق