الواقع الموضوعي هو أن الأغلبية العظمى من بلدان العالم المعاصر وحكوماته لا تشجع الهجرة المكثقة لأراضيها. أيضا في معظمها تتصاعد ثقافة استنكار ونفور من المهاجرين كلما زادت أعدادهم أو وتيرة قدومهم. أيضا في معظم هذه البلدان لا تمانع الحكومات المحافظة والحركات الشعبوية إلقاء اللوم على المهاجرين في حالات التوترات السياسية والاقتصادية، وفي حالات كثيرة تحصل ترتيبات حكومية تحاول رفع كلفة الإقامة والمعيشة على أولئك المهاجرين وجعل استمرار بقائهم أمرا صعبا ومرهقا لهم عموما. أيضا من المعروف واقعا أن جميع البلدان المستقرة نسبيا لديها تحكم كبير في أعداد وأنماط من يدخل إلى حدودها.
أيضا، الوقائع الموضوعية المعروفة هي أنه لا توجد أي دولة معاصرة استطاعت أن تثبت، بالمعايير الموضوعية، أن المهاجرين إليها كانوا سببا في إحداث توترات اقتصادية أو سياسية حقيقية. على العكس، هنالك دلائل كثيرة، من عدة بلدان، أن أغلب المهاجرين ينخرطون في الاقتصاد بصورة جادة ويساهمون بعمالتهم واستهلاكهم بصورة إيجابية – وأحيانا إيجابية جدا – إذ يرفعون مستويات الإنتاج والاستهلاك والتنوّع الثقافي في البلدان التي يأتونها. صحيح أن هنالك حالات مخالفة لهذه الوتيرة العامة، لكن ليس كأغلبية ظاهرة. في طول وعرض خريطة الكوكب نجد أن صورة الجماعة المهاجرة التي تصبح عالة على الشعب المضيف، تتوسّله وتستغل كرمه وتجلب ارتفاعا في معدلات الجريمة والكسل فيه، صورة غير صحيحة باختصار. صورة مصنوعة صناعةً وتنتشر كالنار في الهشيم عبر معظم وسائل التواصل المجتمعي فاقدة المصداقية: النميمة والإشاعة والمبالغة الحكواتية وتنفيس الإحباطات.
أيضا، من الواضح موضوعيا أنه لا توجد جماعة تهاجر لبلاد أخرى بأعداد ضخمة فقط لأن الأحوال الاقتصادية والسياسية هنالك أفضل. صحيح أن هنالك أفراد وأسر يهاجرون من أجل فرص عيش أفضل، لكن لا يبلغ هؤلاء أعدادا كبيرة إلا في حالات الأزمات الحقيقية التي تجعل خيار الهجرة مقابلا لخيار البقاء في ظروف خطيرة حقا ومرعبة (وليست فقط أسوأ بعض الشيء).
من الواضح أيضا، حسب البراهين الموضوعية، أن الهجرات من العالم الثالث للعالم الأول معظمها ليست في مصلحة مجتمعات العالم الثالث، إذ نسبة كبيرة من هذه الهجرات هي ما يسمى بهجرة العقول، أي هجرة الأشخاص ذوي المؤهلات المهنية والحظوات الاقتصادية والمهارات الإبداعية المتميزة نسبيا في مجتمعاتهم الأصلية، بحيث أنهم بمثابة ثروة وطنية لمجالات العمران والابتكار (اقتصاديا وتكنولوجيا وثقافيا) لو بقوا في بلدانهم وأتيح لهم أن يساهموا في تنميتها.
خلاصة الأمر أن حالات الهجرة المكثفة في العصر الحديث مربوطة عادة بكوارث وليس مجرد سعي وراء مطامع، وأن ظاهرة الهجرة عموما مضرة بالمجتمعات المأزومة نسبيا (المهاجَر منها) في حين يزيد نفعها على ضررها بالنسبة للمجتمعات المستقرة نسبيا (المهاجَر إليها).
عموم الشمال الاقتصادي ليس استثناءً في أي من ذلك. بيد أن أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية يلعبون لعبة فيها المزيد من العبث: يتشدقون بأنهم يستقبلون الكثير من المهاجرين كتعبير عن إنسانيتهم العالية، وفي نفس الوقت يتحكمون بصورة عالية في أعداد وأنماط من يدخل بلادهم ومن يتم استيعابهم ليساهموا في زيادة رفاهها، وفي نفس الوقت أيضا تصرخ جماعاتهم الشعبوية وأحزابهم اليمينية ضد ”غزو المهاجرين“ الذين يسهل اتهامهم بأنهم السبب وراء أي تدهور اقتصادي أو اجتماعي (فهم متهمون بلا صوت ولا تمثيل شرعي، لذلك فمهاجمتهم سهلة ودفاعهم عن أنفسهم صعب). حجم الإعلام المضاد لقضية اللاجئين السوريين تحديدا هذه الأيام لا مجال للمقارنة بينه وبين النسبة الحقيقية لأولئك المهاجرين لأوروبا وأمريكا الشمالية. هذا علاوة على أن سوريا حالة استثنائية جدا في الأساس، وبدأت مؤخرا فقط، وأسبابها معروفة. من الواضح أن اليمينيين والشعبويين الغربيين عموما استفادوا من أزمة المهاجرين السوريين أكثر بكثير مما نفعت به بلادهم عموم مهاجري سوريا.
لأجل كل ذلك أقول: لولا صوت إعلامهم الأعلى، ولولا إصرارهم على زعم تفوّقهم في مجال حقوق الإنسان وتقديم يد العون للمحتاجين، ولولا إصرارهم على التدخل السياسي غير المحترم في صراعات الآخرين، لما كان هناك فرق نوعي اليوم بين ما تفعله البلدان الغربية وما تفعله معظم بقية بلدان العالم تجاه المهاجرين. لذلك فإني حين أنتقد سياسة الهجرة الغربية لا أخصّ الغرب باللوم في قلقه المرَضي من المهاجرين، فهذه مشكلة عالمية عند عموم البشر المعاصرين، إنما أخصّه باللوم في نفاقه الاستثنائي.