(هو تعليق كتبته على خبر حدث مؤخرا: ستيفن هوكنق – عالم الفيزياء والكونيات الشهير – دشّن مناشدة عالمية لدعم بحوث التفتيش عن حضارات ذكية في الكون (خارج كوكب الأرض). المبلغ المطلوب للمبادرة 100 مليون دولار. وبعد ذلك التدشين بفترة بسيطة قام بليونير روسي بالتبرع لوحده بالمبلغ كاملا).
أعتقد، وأزعم، أني من أكثر الناس شغفا يوميا بإمكانيات وجود حيوي ذكي (وحضاري) آخر في الكون خارج مجال معرفة البشر المعاصرين، وبإمكانيات تلاقي البشر مع مظاهر ذلك الوجود يوم ما. لكن…
من الناحية المجردة، اقتصاديا واخلاقيا، هناك حتما مشكلة واضحة في طموحات بعض البشر أن يتجاوزوا ما وراء احتياجاتهم ورغباتهم المادية والمعرفية والجمالية المتاحة ونحو الطموحات الجامحة في نفس الوقت الذي يعاني فيه بشر مثلهم من ما هو دون مستوى العيش المعقول بكثير جدا، بل يواجهون تهديد وجودهم نفسه كل يوم.
علم الاقتصاد يتعظ بالاولويات، ويبرر خياراته عبرها. الحجة الكبيرة القائمة اليوم في دوائر الاقتصاد العالمي هي أن موارد الثروة البشرية وقوانين انتشارها في المجتمع لا تكفي حتى اليوم ليعيش جميع البشر في مستوى العيش الكريم. لذا فمن حيث الأولويات يكون هذا الاقتصاد أمام مشكلة تناقض واضح حين يتم الصرف الباذخ بهذا الشكل في سبيل طموحات كهذه في حين يموت اناس من المرض والجوع والاقتتال البدائي (والطموحات هذه ليست سيئة في ذاتها، إنما قضية الأولويات لا يمكن تجاهلها هنا). لكن من الصحيح أيضا أن البشرية اليوم على العموم تصرف أموالا أكثر من هذه فيما هو أسوأ، مثل الصرف على الأسلحة وتطويرها وزيادة التسلح، الخ. ذلك على العموم لا يبرر للصرف على هذا المشروع بالذات وإنما يضعه في موقعه المناسب في قائمة تناقضاتنا كبشر، فهو وإن كان أحد تناقضاتنا إلا أنه ليس أكبرها أو أبشعها.
لهذا علينا أن نكون واضحين:
1- إذا كان تحقيق الطموح المعرفي والجمالي لبعض البشر، على حساب أولويات حياة أو موت بعضنا الآخر، مبرر في نظر البعض، فعلى الأقل نكون صريحين مع أنفسنا بخصوص دعاوي السعي لتوحد الجنس البشري ضمن إطار حضاري واحد، وبوشائج ذكية وأخلاقية وعاطفية، الخ. إذا كنا لا نعتقد حقا أن الاستثمار في العدالة الاجتماعية بين فصيلة البشر في كوكب الأرض مسألة أولوية، فعلى الأقل لا نخدع أنفسنا ونزعم أننا روّاد مشروع “إنساني” عالمي وكوكبي، الخ.
2- صحيح أن التاريخ على كل حال فيه الكثير من هذه التجاوزات التي أتت بنتائح لاحقة استفاد منها عدد أكبر من البشر (مثل مغامرات الوصول للفضاء الخارجي وما تبع ذلك لاحقا من الاستفادة البشرية العامة من تطور وسائل الاتصالات اللاسلكية)، لكن ذلك التاريخ في حد ذاته ليس مبررا منطقيا للاستمرار فيه، لأننا يُفترض أن نكون ممن يحسّنون أداءهم مع التجارب لا ممن يكررونها ببغائية.
3- هل العلم والاقتصاد منمازان عن مجالي الأخلاق والتعاطف البشري تماما؟ وبذلك يمكن أن نقول إنهما لا يخضعان لتقييم الأخلاق والتعاطف البشري؟ إذا قلنا بذلك فلا يمكننا إذن أن نعترض على تجارب النازيين البشرية في اليهود وأفارقة ناميبيا، ولا يمكننا الاعتراض على التجارب الدامية والقاسية والتي بسبيلها تطور الطب الحديث على حساب آلام وجثث العبيد السود في الأمريكيتين، بل وربما لا يمكننا الاعتراض على هيروشيما وناجازاكي وشيرنوبل، ولا على استغلال المعادن والثروات والعمالة في تطوير التكنولوجيا الحديثة عن طريق الاستعمار. تخيلوا معي عالما كهذا، يسوده الاقتصاد وطموحات العلم بدون وازع أخلاقي، وبدون مستوى من التماهي البشري تحت راية مصير واحد، وأخبروني إن كنتم تستطيعون العيش في ذلك العالم بشيء من راحة البال أو التعاطي الجمالي للحياة. فإن كان العلم والاقتصاد لا دخل لهما بمراعاة سعادة البشر (عموما)، طيب على الأقل نكون واضحين ونتحمل نتائج الخلاصة دي.
قصي همرور