مشاكل وفوائد الاختلاف بين المثقفين السودانيين

مثل محمد جلال هاشم، أرى أن الإشكال الذي يجعل المثقفين السودانيين عموما لا يشكلون كتلة متناسقة ذات تأثير ملموس في تحولات المجتمع السوداني حتى اليوم (خصوصا التحولات الإيجابية) ليس تباين أرائهم فيما بينهم. في الواقع فإن أي فئة منتجة ومخصبة للمعرفة في أي مجتمع ستكون عقيمة إذا كانت متوافقة فكريا عموما أو تكثر من مجاملة بعضها. مثلا، في عصر الحراك الفكري الإسلامي كانت هنالك مدارس متنوعة وبينها نقد متبادل شديد (بل أحيانا كانوا يشتطون فيتهمون بعضهم بعضا بالغباء أو السذاجة أو الغرض، أي لم يخلوا من حالات سلبية في التبادل الفكري، وجلّ من لا يخطئ). لكن أنتج الاختلاف عموما دفعا وثراءً عاما في البث الفكري وسعي كل جانب لتثبيت طرحه وتوسيعه واستكشاف أبعاده أكثر. نفس الشيء حصل في الفضاء الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

إذن الاختلاف ليس هو المشكلة (وهذه ليست مجرد إكليشيهة نقولها لاستعراض سعة الأفق). الاختلاف، حين يدار بصورة متمدنة، يكون عاملا خلّاقا.

الإشكال عندنا وسط المثقفين السودانيين يكمن في مسألتين عموما: فقدان الجدية في تعاملنا مع إنتاج بعضنا، وغياب التكافل من أجل القضايا الكبرى التي تنفعنا كلنا. (الأخيرة يسمّيها البعض “غيرة”، لكني أعتقد أنها أكثر تعقيدا من ذلك. الغيرة تكون موجودة أحيانا، لكنها جزء فقط من المشكلة العامة). عموما في مجال الأفكار يستنكف الكثير من الناس أن يعتدّ بمساهمات جيرانه المعرفية، فهؤلاء قريبون من الدار (وزامر الحي لا يطرب)، لذلك فالمثقف السوداني عموما يرى أن إنفاق الزمن في تعلّم الأفكار الآتية من خارج السودان أكثر فائدة وأفضل لسمعته كمثقف، وعندما يلتفت لمساهمات جيرانه السودانيين فهو ينظر لها بعين النقد قبل عين الاستيعاب، إذ هي مظنة قصور أكثر من مظنة صمامة. الخلاصة تكون أن المثقفين السودانيين لا يقرأون لبعضهم بعضا إلا لمما وبدون “حيل”، وأحيانا يكتفون بخلاصات يأخذونها من ونسات مع من قرأ (أو مع سمع من الذي قرأ). بذلك يتولد جو محلي عام محبط ومثبّط للإنتاج الفكري وسط السودانيين… (ولعل ذلك أحد أسرار لجوء نسبة كبيرة من المثقفين السودانيين للتعبير عن أنفسهم في مجالات الكتابة الإبداعية أكثر، كالقصة والشعر، وبث أفكارهم فيها، بحيث لا يتعاطاها الناس كطروحات مباشرة. أيضا يدخل عامل تفادي المجهود الذهني والطاقة حيث الطروحات المباشرة ستحتاج عادة لتأني أكثر في توضيح المسائل وضبط أدوات الشرح ودعمها بالمراجع المعرفية والتصدي للأسئلة الكثيرة بخصوصها).

من الناحية الأخرى فنحن نعلم أن الأنداد لا تنفك تكون بينهم روح منافسة مستمرة، فمن الأسهل لهم أن ينزلوا دروعهم الفكرية أرضا ويحتضنوا مساهمة من لا يرونه كندّ لهم، لأنه إن كان أكبر منهم فهو مؤهل للاحترام أكثر، وإن كان أصغر منهم فهو مؤهل للتشجيع بدون الشعور بمنافسة. الإشكال أن غالبية المثقفين السودانيين يرون أنفسهم أندادا لغالبية المثقفين السودانيين، بغض النظر عن المجايلة أو نوعية الإسهام المعرفي. هذه الظاهرة عبّر عنها البروفيسور عبدالله الطيب في مذكراته عن أيام دراسته في كلية غردون، إذ قال إن الطلبة كانوا يضايقون الطالب الذي ينفق وقتا أكثر من عمومهم في الدراسة، ويسيؤون الظن فيه لأنه يحاول أن يكون أفضل منهم في الرصيد الأكاديمي. كانوا أكثر حميمية وأريحية مع الذين لا يسعون للتميّز بينهم، فولّدت تلك ثقافة أن الساعي للتميّز مكروه ولا يلقى تشجيعا أواحتراما من عموم بقية الطلبة. هذه الظاهرة استمرت وسط السودانيين حتى اليوم (وعندها تجليات في بلدان أفريقية وآسيوية أخرى) والنتيجة هي أننا مستعدون لقبول أي طرح جديد من خارج السودان أكثر من مماثل له (أو أفضل منه) من سوداني أو سودانية مثلنا.

(بعض الدراسات في الأدب والثقافة السودانية تحدثت أيضا عن نوع من الاحتفاء الزائد بالغريب وسط السودانيين.. ذكرني صديقي عبدالله الفكي مؤخرا بظاهرة “الغريب الحكيم” في التراث والأدب السوداني. أيضا نسميها أحيانا “عقدة الأجانب” – كما نعتها الأستاذ محمود محمد طه، حيث قال عنها “فإننا، نحن السودانيين، لطول ما رزئنا به من الإذلال، فقدنا الثقة في أنفسنا، وظننا أن الخير لا يأتي من عند أنفسنا، ولا من مواطنينا، وإنما هو الخير يجيء دائما من وراء حدود بلادنا” – لدى السودانيين تاريخ في توسّم الحكمة والقيادة من الغريب الذي يأتيهم من أرض أخرى. ذلك ينعكس أيضا في توسّمهم السداد الفكري أكثر لدى المثقفين غير السودانيين. في الحالتين هي عقدة داخلية عند السودانيين أنفسهم وليست معنية بالأجنبي أو الغريب ذات نفسه).

وصحيح أن هنالك إشكالات كثيرة أخرى، لكن ما يشغلني عموما ليس كل الإشكالات، إنما الإشكالات التي تحول دون أن يكون المثقفون السودانيون عموما يشكلون كتلة متناسقة ذات تأثير ملموس في تحولات المجتمع السوداني. مثلا، المجتمعات الحديثة والنامية الأخرى ما زالت فيها مشاكل وسط المثقفين. مشاكل في التواصل وفي الفهم وفي المنافسات الضارة، وأحيانا مشاكل في الأخلاق والتربية أيضا. لكن وجود تلك المشاكل لم يقف حائلا من أن يكون مثقفو تلك المجتمعات أهل كتلة مؤثرة في تحولات مجتمعاتهم نحو فضاءات أكثر براحا من سابقاتها. لذا، ما هي تلك الإشكالات الإضافية، على النقطتين المذكورتين أعلاه، المتعلقة بهذه العتبة؟

أعتقد أن إحدى مهام المثقفين السودانيين الجادين اليوم (من جميع الأجيال) رفع مستوى الأداء الفكري العام في المجتمع السوداني. ذلك يعني، فيما يعني، أن المثقف الصحيح (من الصحة) سيرى أن من واجبه أن يتضامن مع الآخرين (وليس التضامن بتاع المجاملات السطحية بين الكتّاب مثلا). أيضا سيرى من واجبه تشجيع أنداده وغيرهم في المجتمع السوداني على طرح إنتاجهم بصورة واسعة، وتأطيره وتطويره وتشميسه، بصورة مستمرة، وأن لا يتقبّل نقد إنتاجه من باب سعة الصدر فقط بل من باب أن ذلك جزء من رفع الأداء الفكري العام، فالنقد يساعده على تمحيص طرحه كما يساعد الآخرين على شحذ أدواتهم النقدية وتمرينها بصورة جيدة، كما يمهّد لاحتمالات انبثاق طروحات بديلة (إعادة إنتاج المعرفة). (وبطبيعة الحال لا مفر هنا من تحمّل بعد الضربات الشتراء من هنا وهناك، كأعراض جانبية للدواء الفعّال). أيضا من الجيّد محاولات تركيب المساهمات المتنوعة من آخرين في أطُر ونظُم تفكيرية توفّق بين زوايا متعددة.

والحديث ذو شجون


image source: https://www.elderresearch.com/blog

أضف تعليق