نيريري وتشومسكي اتفقا على أن معظم المنتمين لشريحة المثقفين، في أي مجتمع حديث، يتمحور عملهم ومسارهم المهني حول خدمة الأوضاع القائمة كمقابل للمكانة الاجتماعية والاقتصادية المناسبة لهم في ذلك المجتمع. لا يُستثنى من ذلك إلا مثقفون ثوريون، أو غير ثوريين بالضرورة لكن لديهم بوصلة أخلاقية نادرة وإخلاص شديد لمجالات بحثهم/إبداعهم وحسب.
من ناحيته، يركّز نيريري على أن المثقف الأصيل لا يكون أصيلا فعلا إلا حين يفهم حاجته للمجتمع وحاجته لأن يوظّف مقدراته للارتقاء بالمجتمع ككل – أي مصالح أهله وطموحاتهم – إذا أراد لنفسه الارتقاء. أما تشومسكي فحين يركّز على مجال الأكاديميا الغربية يخلص إلى أن الأغلبية الساحقة من أهل الاكاديميا (باستثناء قلة قليلة)، بشتى مجالات تخصصهم وبحثهم، خاضعون ومنصاعون ومروّجون للأوضاع القائمة عموما، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، إذ طموحهم يقتصر على تثبيت وتحسين أوضاعهم الخاصة ضمن تلك الأوضاع العامة. مؤخرا، جاء عيسى شفجي، في افريقيا، ليصف معظم المتعلمين والمثقفين العاملين في مجال المنظمات غير الحكومية (وهو مجال واسع كذلك، يشتمل عل أنشطة كثيرة بعضها أكاديمي وبحثي وتدريبي) في القارة بأنهم يشبهون وصف تشومسكي للأكاديميا الغربية؛ بل لعل شفجي يستعمل لغة أقسى مع هؤلاء باعتبار وصفه لهم بأنهم يخدمون أجندة المانحين أكثر من خدمتهم لأجندة الحراك المحلي.
هذه الظاهرة تم التعبير عنها بصور مختلفة عن طريق مفكرين آخرين. الأستاذ محمود محمد طه، في السودان، كان يقول إن صورة المجد عند جلّ المثقفين السودانيين صورة شوهاء، إذ يطلبونه – سرّا وجهرا – بالطرق الناقصة أو الباطلة، وغير جاهزين لاستيفاء شروطه ومخاطره الحقيقية. أملكار كابرال، في غينيا بيساو والرأس الأخضر، تحدث عن ضرورة “الانتحار الطبقي” (أو العبور الضميري، بلغة أكثر ملاءمة اليوم) كيما يصير مثقفو البرجوازية الصغيرة وطنيين حقيقيين.
وهذه الظاهرة تكرر نفسها باستمرار في دوامات وديناميكات المجتمعات الحديثة، في شتى مستوياتها الاقتصادية والتنموية، وعبر إنتاج نفسها مع كل مرحلة سياسية/اجتماعية جديدة نسبيا وجيل جديد نسبيا؛ فإن “التجربة التي لا تورث الحكمة تكرر نفسها.”