الحوكمة وصنع السياسات: مدخل

نظام الدولة العصرية في الغالب أعقد نظام اجتماعي في التاريخ قاطبة. يتشكل من أجهزة ومؤسسات كثيرة، تتوزّع عليها سلطات، وهذه السلطات تتقاطع وتتداخل. ثم في كل جهاز ومؤسسة هنالك هياكل قائمة بذاتها ثم لديها حلقات اتصال مع مثيلاتها. الأجهزة أجسام والمؤسسات قواعد؛ وأحيانا للأجهزة وجوه ناعمة وللمؤسسات وجوه صلبة. ووفق كل هذا التعقيد تكون الإدارة وتحريك الدواليب بأيدي أشخاص متبايني النوايا والمصالح والقدرات، فيؤثر اختيارهم ومنصبهم في المواضع الحساسة في ذلك النظام على جميع الحكاية. إضافة لذلك فإن وظائف نظام الدولة العصرية أوسع نطاقا من أي مخلوق اجتماعي آخر في التاريخ: تشمل التنظير والتخطيط والتنفيذ، والرصد والتقييم، والمراجعة والبت في المسائل، ومتابعة البت، والمسؤولية عن نتائج كثيرة، مقصودة وغير مقصودة؛ كما تشمل احتكار القوة الجبرية في رقعتها والمسؤولية عنها، إلخ.

لذلك فنظام الدولة في الواقع نُظُم متعددة، متشابكة ومهيكلة بحيث يصح وصفها بالنظام الواحد تجاوزا وتجريدا فحسب، لكنها في الواقع ليست نظاما واحدا.

درابنة المنافذ

مع فهم وضع نظام الدولة العصرية، وتعقيده، كما ذكرنا أعلاه، يصبح من العبث الظن أن هنالك أفراد ما، في هذا الكوكب، قادرون على إدارة الدولة العصرية إدارة مباشرة ومركزية. باختصار لم يولد بعد ذلك البشري الخارق الذي يستطيع فعلا القيام بذلك، سواء كان برضا بقية الناس أو بغير رضاهم. لكن من الممكن أن يكون هنالك رأس تنسيقي كبير، يقنع أو يوهم بقية الرؤوس المتنفّذة في بوابات نظام الدولة – لنسمّيهم “درابنة المنافذ”، والدِّربان هو البوّاب أو الحاجب – أنه يوجّههم توجيها لصيقا وأن ذلك ممكن الاستدامة. ولذلك فإن أي نظام دكتاتوري فعليا في هذا العصر إنما هو نظام “أوليغاركي” (oligarchy) في واقع الأمر، أي نظام حكم جماعة أقلية محدودة مسيطرة على بوّابات نظام الدولة (درابنة المنافذ) وتتنفّذ فيها لصالح أجندتها. ومن أجل ذلك يقال إن التخلص من أي دكتاتورية أو شمولية لا يكون بالتخلص من رأس الطاقم الحاكم فحسب – رأس الأوليغاركية – إنما بتحرير بوابات نظام الدولة من عموم الجماعة المسيطرة عليها.

[وفي ذلك أيضا ردّ على بعض الثيوقراطيين – دعاة الدولة الدينية، من المسلمين أو من أديان أخرى – الذين يتحدثون عن أحكام الخروج على الحاكم وما إلى ذلك؛ فمشكلة هذا النقاش – وهو نقاش طويل في تاريخ الخلافات الإسلامية – أنه غير قائم في الظروف الحالية أساسا، لأن الدولة العصرية كائن مختلف تماما عن نظام الخلافة وبقية نُظُم الحكم القديمة، البسيطة جدا في هياكلها ووظائفها مقارنة بالدولة العصرية؛ حتى أننا حين نقول عن تلك الخلافات “دول” وعن النظام المعاصر دولة كذلك، إنما نمارس تجاوزا لغويا كبيرا، فيظن البعض أننا نقارن دولة تاريخية بدولة حديثة، وفي الواقع نحن أمام مخلوقين اجتماعيين مختلفين جدا. من يسمّى بالحاكم في نظام الدولة العصرية إنما هو منصب تنسيقي لسلطات وأجهزة ومناصب متعددة، وهو حين يكون حاكما شموليا يكون منسّقا لطغمة أوليغاركية تتحكم في تفاصيل مصائر الناس بحيث لا يمكن لهؤلاء الناس أن يحلّوا مشاكلهم اليومية بمعزل عن العمل السياسي ومحاسبة سلطات الدولة، ما يضعهم في مواجهة تلك الطغمة. فإن كان هنالك اليوم من يقول بأن الخروج على الحاكم حرام ديناً فهو فعليا يقول إن محاولة الناس لحل مشاكل حياتهم اليومية حرام. قد لايقنع هذا الحجاج المختصر الثيوقراطيين بإشكالية طرحهم وضرورة مراجعة مواقفهم من قضايا الحكم اليوم، ولكن في هذا الحجاج توضيح للآخرين الذين يناقشونهم باعتبار أن المسألة فقهية وتحتمل التعارض والترجيح وغير ذلك من أدوات أصول الفقه. المسألة أعمق من ذلك.]

مع فهم ظاهرة “درابنة المنافذ”، ودورهم في الدولة العصرية، يمكن مراجعة مسائل أخرى حول إطار الدولة والمتنفذين فيها. على سبيل المثال، فالحقائب الوزارية والمناصب الكبرى ليست هي دوما مفاتيح توطيد السلطة وتركيز السياسات. قد تكون وقد لا تكون، حسب السياق الخاص وتفاصيل إدارة الدولة. ذلك يعود لأن هذه الحقائب قادرة على أن تُغرِق أصحابها أحيانا في مهام إدارية ومتطلبات دبلوماسية وإعلامية، مرهقة للطاقة ومبذّرة للزمن في الأشغال الروتينية والمراسيم الخاوية–خصوصا في الظروف الحوكمية العسيرة (مثل التي عندنا في البلدان النامية وغير المستقرة سياسيا). ذلك في حين يمتلئ هيكل الدولة بمنافذ ومداخل متعددة تؤتى منها عملية وضع أجندة الحوكمة، وصنع السياسات، وتفعيلها، ومراقبة أدوار الفاعلين والتأثير في مواضعهم؛ أي منافذ ومداخل حقيقية لبناء السلطة داخل الدولة. إذا وضعنا الناس المناسبين في هذه المنافذ والمداخل، يصبحون درابنة منافذ (gatekeepers) لتحريك تروس نظام الدولة الكبير والمعقّد، وفق رؤى وأجندة متوافق عليها بين المجموعة المتنفّذه هذه. هذه الرؤية المحيطة لهيكل الدولة وتروس الحوكمة تغيب عن من يظن أن المناصب الحكومية الكبيرة – في السلطات الثلاث – هي دوما صاحبة القرار والأثر الأكبر. أحيانا، في مؤسسات الدولة، قد يكون المستشارون الفنيّون والإداريون في أي إدارة أو مجلس، مثلا، أو وكلاء الوزارات ومدراء الأقسام الكبيرة في المصالح الحكومية، أو السفراء الكبار في بعض الدول ذات العلاقات المحورية مع الدولة، أو مسؤولي الملفات والمؤسسات المالية أو الشركات والمصالح والمفوضيات التابعة للدولة، أو المستشارين المباشرين لرأس الحكومة أو الدولة (من خارج مجلس الوزراء والمجلس التشريعي)، وقيادات اللوبيهات والقواعد الشعبية الواسعة، إلخ…. قد يكون هؤلاء أصحاب تأثير في تدبير أمور الدولة وتحريك دواليبها ومراكز قواها أكثر من معظم الوزراء ورؤساء المجالس وكبار مسؤولي التشريع والقضاء. بل إن استبدال الوزراء بغيرهم لأمرٌ أيسر، في أحوال كثيرة، من استبدال هؤلاء المذكورين أعلاه. رأس الفأس أميز منطقة فيه، وهو محل التقاء الفأس بالخشب أو المادة المراد ضربها وتشكيلها؛ لكن الفأس نفسه ينبغي إمساكه من طرف قطعة الخشب البسيطة، المُركّب الرأس في طرفها الآخر، كيما يمكن استعماله بفعالية.

إيجازا: التغيير النوعي في مذهبية الحكم وفي سيرورة هيكل الدولة، يقتضي، ضمن ما يقتضي، مراجعة مواضع المنافذ المهمة، والدرابنة الممسكين بها، وإجراء ما يلزم من تغيير في تلك الصورة.

ملفات الحوكمة

أدناه، نستعرض على سبيل المثال منظورا من مناظير التعامل مع ملفات الحوكمة، في إطار الدولة وفي إطار نُظُم شبيهة (أصغر أو أكبر). والتعريف المختصر الذي نتبنّاه للحوكمة هو مجملا فضاء صناعة المؤسسات ثم توجيه ومراقبة أدائها وفق مؤشرات وغايات مرسومة.

ملفات الحوكمة، في كل سياق، يمكن اختزالها إلى ثلاث ملفات عامة:

أ- ملفات “عجلة القيادة” (steering wheel):
وهي أجندة وقضايا الحوكمة التي تحتاج تدشينا ومتابعة لصيقة، أو شبه لصيقة، بحيث تكون الوجهة مفهومة وتكون الحركة يمينا ويسارا (وخلفا وأماما) مقدّرة وفق خريطة طريق، وتقع عموما تحت المسؤولية الواضحة لقيادة معروفة. الترميز إلى عجلة القيادة هنا يشير إلى أن الممسكين بالعجلة عليهم أن يكونوا يقظين بصورة مستمرة لتوجيه مسار العربة وسرعتها (والتي هي أيضا نظام أو نظُم كثيرة معقدة لكن يمكن توجيهها عموما بواسطة عجلة القيادة).

ب- ملفات “علبة التروس” (gearbox):
وهذه تختلف عن ملفات عجلة القيادة في أنها تحتاج لمدخلات معيّنة (inputs) ثم يمكن تركها ومراقبتها وهي تتفاعل كيما تأتي لاحقا – عبر فترة زمنية مقدرة – بمخرجات (outputs) متوقّعة نسبيا. الفرق هنا أن المتابعة اللصيقة غير مطلوبة وغير ممكنة في الغالب، لأن العوامل الموضوعة للحوكمة تحتاج لان تتفاعل مع مكوّنات الواقع عبر فترات زمنية لا يمكن القفز عليها، ثم حين تبدأ بعض المخرجات بالظهور يمكن تقييم ما إذا كانت السياسات التي تم صنعها لتلك الملفات حصيفة أو خاطئة، أو تحتاج لتعديلات، إلخ. الكثير من السياسات الاقتصادية والصناعية والاجتماعية تدخل ضمن هذه الملفات، لأن قيادات الحوكمة لا تستطيع التنبّؤ تماما بالنتائج مسبقا وإنما على الشعوب والمؤسسات أن تهضم تلك السياسات وتتفاعل معها عبر عوامل معقدة وغير جازمة، وعبر فترات زمنية لا بد أن تمر قبل أن تظهر نتائج مأمولة. التشبيه بعلبة التروس هنا تشبيه نسبي، هو أن القيادة الحوكمية لا تحتاج لنزع غطاء الجربوكس (gearbox) – واتخيّلوا معاي جربوكس كبير خالص وتروس كتيرة خالص، موش زي بتاع العربية مثلا – في كل مرة لتراقب كيف يؤدي كل ترس لحركة معينة في الترس الذي يليه ثم الذي يليه ثم الذي يليه، بتفاوت أحجامها ومواقعها، إلخ؛ إنما هنالك تصوّرات عامة مبنية على تجارب سابقة وتخمينات مدعومة ببعض الدلائل وبعض الاحتراسات وبعض التوافق بين العقول الخبيرة، لانتظار مخرجات متوقعة ومأمولة نسبيا. وإذا سأل سائل: ماذا إذا كانت هنالك مشكلة كبيرة داخل علبة التروس نفسها؟ (وهو سؤال مشروع ومهم)، نقول باختصار إننا سنحتاج لعملية صيانة، وهي تحتاج فحصا ربما لم يكن ممكنا قبل تحريك علبة التروس أولا وإدراك الخلل فيها، وفي تلك الحالة يتم نقل الملف إما إلى ملفات “عجلة القيادة” أو إلى ملفات الإسعاف (أدناه).

ج- ملفات الإسعاف:
وهذه واضحة من اسمها، إذ هي ملفات حالات لا تستحمل التأجيل أو التعامل المعتاد. هي حالات استثنائية جدا، تحصل بسبب ظروف طارئة. وفي تلك الحالات قد تحتاج الجهات المعنية بضخ جل الانتباه والموارد والطاقة لمعالجة تلك الملفات، لكن ليس كمشاريع طويلة المدى، فبمجرد خروج الملف من حالة الإسعاف الضرورية يمكن بعد ذلك تحويله إلى ملفات عجلة القيادة أو ملفات علبة التروس.

الحوكمة الرشيدة – سواء بواسطة أفراد معيّنين أو جماعة معيّنة، أو تحالف واسع – تكمن باختصار شديد في استبانة أي القضايا تدخل ضمن أي ملف من الملفات أعلاه، واختيار درابنة المنافذ المناسبين لكل ملف ومؤسسة، وتصميم إطار يجعل هؤلاء يشتغلون سوية من أجل مخرجات إيجابية ونتائج شاملة ملموسة.

صنع السياسات وصنعة الدولة

عملية صنع السياسات (بناؤها وصياغتها وتنفيذها وتقييمها) تقوم في جسد الدولة مقام الدم في جسد الكائن الحي.

وفي مقال سابق عن الحوكمة التنموية والاقتصاد التعاوني، قلنا إن صنع السياسات وفق الدلائل المعرفية (evidence-based policymaking) يتضمّن تفاصيل السياسة وامتدادها الفنّي (technical) التي إما أحسنت تطبيق الرؤية التنموية وإما جعلتها مجرد تنظير لا تجسيد له على أرض الواقع. قلنا كذلك إن صنع “السياسات العامة” يختلف بصورة كبيرة عن ممارسة “السياسة” (politics) رغم التداخل بينهما. وكذلك قلنا إن السياسات  هي ما تفعله وتسير نحوه الحكومات والمؤسسات حقا لا ما تدعي أو تنوي فعله والسير نحوه فحسب.  

يكفي القول الموجز في هذا الصدد إن الرؤى السياسية الكبيرة الإيجابية يمكن أن تكون نتائجها سيئة أو كارثية إذا أخفقت في صنع سياسات حصيفة، كما يكفي القول إن بعض القيادات السياسية الضعيفة قد تكون أحيانا محظوظة في وجود نظُم صنع سياسات في صفّهم، وكذلك وجود صنّاع سياسات يتحلّون ببعض مقوّمات التأني ورؤية الصورة الكبيرة واعتماد الدلائل، أو الكثير من الحظ، فينتج عن ذلك سياسات متماسكة ونتائجها ملموسة بحيث يظن البعض أن “القبة تحتها فكي”. وبطبيعة الحال فهنالك حالات مؤلمة تكون فيها القيادة السياسية متواضعة القدرات (أو رديئة) وعملية صنع السياسات تحت مظلتها كذلك متواضعة القدرات (أو رديئة)، فلا تكون النتائج إلا سلسلة طويلة من الفشل النظري والتطبيقي أو الكوارث.

لذلك، رغم التداخل بين ممارسة السياسة (بمعناها الشائع) وعملية صنع السياسات (بمعناها الفني الخبير) في نظام الدولة العصرية، ينبغي دوما إدارك أن نظاما كبيرا ومعقّدا مثل الدولة العصرية يحتاج لجدية شديدة في التعامل مع عملية صنع السياسات، وإيلائها من البحث والاستقصاء والدعم، المادي والمعنوي، ما تستحقه، وينبغي أن لا يتورّط ذلك النظام في الخلط الشنيع بين السياسة وصنع السياسات العامة وكذلك بين السياسة (politics) وصنعة الدولة (statecraft)، كما أشرنا في مقالات سابقة، فلكل ذلك عواقب وخيمة، شهدنا الكثير منها في مجتمعاتنا المعاصرة، خصوصا المجتمعات النامية. 

هذه ملاحظات موجزة للغاية، للمشاركة حاليا ككبسولات، نأمل أن تستطيع التوسّع فيها لاحقا (في هيئة مساهمات كثيرة ومن جهات متعددة) ضمن محاولات بناء وتفعيل حوكمة تنمية قوية وفعّالة… والحديث ذو شجون.

رأي واحد حول “الحوكمة وصنع السياسات: مدخل”

  1. مقال في قمة الروعة وقد تناول الكاتب مسألة الحوكمة من منظور سياسي في غاية الروعة والبساطة؛ وقد ربطها في منظورها الإداري فوجدت عدم وجود فرق بين المنظورين، شكراً للمعلومات القيمة التي استرسلت فيها بالسهل الممتنع والواضح.

    رد

أضف تعليق