التنمية والديمقراطية والفقر والجوع: مراجعات واقعية

في كتاب “ممكنات السودان” (2021، جوبا) تحدثنا بصورة عابرة عن النقاش الدائر وسط دراسات “الدمقرطة والتنمية” (democratization and development) – وذلك في إطار المحاججة بأن نجاح الديمقراطية في السودان يتطلب مواقف تنموية واضحة ومباشرة وذات أثر ملموس على مستوى الدولة (ولذلك قلنا إننا ندفع بنموذج الدولة التنموية)، وفي ذلك الحديث قلنا إننا نعتبر الوجهة التنموية شرطا لنجاح الديمقراطية وفق ما تفيدنا به الدراسات في البلدان الأخرى التي يمكن أن نستفيد من تجاربها. كررنا ذلك الحديث مؤخرا، في ندوة عامة في 16 أبريل الماضي، وأثارت هذه النقطة جدلا واهتماما (ما دعانا للتفكير في إعداد هذه المقالة).

توضح بعض دراسات الدمقرطة والتنمية كيف أن هنالك بلدان حققت تنمية اقتصادية وخدمية بدون ديمقراطية، ومواطنوها الآن يفضّلون غالبا العيش فيها على العيش في بلدان مفقرة ثم هي ديمقراطية (ومن أهم تلك النماذج: الصين، وهي نموذج مهم جدا لحيثيات سنتحدث عنها بعد قليل، ومنها أن تعداد سكان الصين هو أعلى تعداد في العالم اليوم، كما أنها لوحدها موطن لخمس سكان العالم). وبعض الدراسات خلصت إلى أن هنالك مستويات من التنمية هي نفسها شرط لجعل النظام الديمقراطي ممكنا في البلد (أي بدون تلك المستويات ربما تكون أنظمة الحكم الشمولية ذات الوجهة التنموية الجادة – أي الدول التنموية غير الديمقراطية – أكثر فعالية وتلبية لحاجات الشعوب من الأنظمة الديمقراطية غير التنموية). بل إن بعض تلك الدراسات قامت بمراجعة الإحصائيات التي تفيد العلاقة الإيجابية بين الديمقراطية وبين النمو الاقتصادي وقلبتها على رأسها: فمثلا جاءت دراسة قام بها خبراء عبر معهد بروكنقز (Brookings Institution) الأمريكي-العالمي، في 2016، خلصت إلى أن الزعم بأن الديمقراطية تزيد معدل النمو الاقتصادي لم يعد زعما مسنودا بالواقع والإحصاءات لكن ربما هنالك رابط آخر، وهو أن ضعف الأداء الاقتصادي من العوامل الأساسية التي تقود لصعود ديمقراطيات، لأن الضعف الاقتصادي يساهم بقوة في دفع الجماهير للسخط وطلب التغيير السياسي (خاصة وأن هنالك نماذج لدول غير ديمقراطية لكن فيها نموا اقتصاديا جيدا، الأمر الذي وفّر لها زمنا طويلا من الحكم غير الديمقراطي بدون وصول الجماهير لمرحلة السخط والثورة) [1]. ودراسات أخرى ترى بأن اصطحاب المبادئ الديمقراطية مهم منذ البداية، بل قد ينقذ الناس من أخطاء تنموية فادحة.

هذا الجدل، وسط هذه الدراسات، يعني أن الأولويات غير محسومة بعد لكنه يشير إلى أنه بدون مستوى معقول من الكفاية الاقتصادية، والخدمات الأساسية في الدولة العصرية، لا يستطيع مجمل الشعب أن يقدّر الحريات السياسية حق قدرها ولا حتى أن يمارسها بوعي–مشاريع التنمية، التي تسعى لإعادة توزيع الثروة على الناس وتلبية احتياجاتهم الأساسية الإنتاجية والاستهلاكية، ضرورة للديمقراطية.

وإذا نظرنا للأمر من وجهة النظر هذه فيمكننا أن نتذكر أن الحريات التي يبحث عنها الناس في مجمل حيواتهم ليست هي الحريات السياسية فحسب، وإنما كذلك التحرر من المرض ومن الجهل ومن الجوع – حاجات الأجساد والمعدات – وهذه “الحريات الاقتصادية” (والصحية والاجتماعية)، مجتمعة، ذات قيمة كبيرة جدا، لدرجة أن بلدا مثل كوبا، بمستوى دخله الاقتصادي المتدني نسبيا ونظام حكمه الذي لا يستوفي شروط الديمقراطية، ظل يحرز مستويات عالية في مؤشرات التنمية البشرية لسنوات، وذلك لأن مستوى الرعاية الصحية في كوبا أفضل من الولايات المتحدة (وهذا وفق إحصائيات المنظمات الدولية المعنية، مثل منظمة الصحة العالمية، فكوبا هي أول دولة تنهي انتقال فيروس نقص المناعة المكتسبة من الأم لطفلها، وهي الدولة التي فيها نسبة وفيات الأطفال الرضّع أقل من الولايات المتحدة، وهي الدولة التي بلغ مستوى التغطية الصحية فيها شمولا وجودة لا يتوفران إلا في الدول الاسكندنافية الغنية وذات الرعاية الاجتماعية العالية، وبالإضافة لذلك لدى مستويات تعليم عالية، فنظامها التعليمي من أفضل نظم التعليم في أمريكا اللاتينية كما أن مستوى القدرة على القراءة والكتابة وسط السكان عندها أعلى من مستويات الولايات المتحدة كذلك، وأما مستوى الأمان الاجتماعي فهي كذلك تتفوق على دول غنية عديدة واضحا، إلخ). ذكرنا قبل ذلك، في كتابات سابقة، كيف أن الاتحاد السوفيتي استطاع القفز بمستويات المعيشة والتعليم لسكانه في فترة أقصر بكثير مما احتاجته دول غرب أوروبا وشمال امريكا لفعل نفس الشيء، لدرجة أنها خلال 40 سنة ما بعد الثورة البلشفية أي نهاية خمسينات القرن العشرين (وكانت روسيا قبل تلك الثورة تعتبر ذات اقتصاد زراعي) استطاعت إرسال البشر للفضاء الخارجي – عبر عمل مهندسين وعلماء تلقوا تعليمهم جملةً في روسيا ما بعد الثورة البلشفية – قبل الولايات المتحدة التي كانت متقدمة عليها تكنولوجيا واقتصاديا بصورة واضحة في زمن الثورة البلشفية 1917 (ولا ننسى تقدم بريطانيا وفرنسا عليها كذلك حينها) [2].

الموضوع إذن يحتاج لمراجعة وإعادة نظر، وهذا ما نراه في دراسات الدمقرطة والتنمية. (وفي ذلك أذكر أن مشرفي مرحلة الدكتوراة كان بحثه للدكتوراة في هذا المضمار، ومن أجل ذلك حرّكني في اتجاه فحص هذه المسألة كما ناقشني فيها مرارا).

الصين: مشكلة أمام فرضية “الديمقراطية قبل التنمية”

في الطبعة الثانية من كتاب “الجوع في العالم: 12 أسطورة”، 1998، لمجموعة من الباحثين تحت مظلة معهد “الغذاء أولا” (Food First Institute)، جاءت مراجعة تاريخية، إحصائية، سببت مراجعة كبيرة للمسائل وبعض المسلمات في دراسات التنمية. (وأذكر أن ذلك الكتاب ساعد في دفعي نحو التعمق في دراسات التنمية، حين قرأته في 2008). تفيد الإحصائيات العالمية أن معدل الإنتاج الزراعي العالمي مقابل الفرد، في الفترة بين 1970 و1990، زاد بنسبة 11%، أي أن نسبة الإنتاج الزراعي العالمي زادت عموما؛ يضاف لذلك أن عدد الذين يعيشون تحت خط الجوع في العالم نقص في نفس الفترة بمقدار 160 مليون شخص. وفق هاتين المعلومتين، افترضت الكثير من المنظمات الدولية، ودوائر دراسات التنمية، أن العالم يسير بصورة جيدة في التغلب على الجوع، وأن الفضل في ذلك يعود لما سُمّي بالثورة الخضراء (وهي تطورات ملحوظة جرت في تلك الفترة في التقانات الزراعية والبيوتكنولوجيا وفي ظهور أنواع محسّنة من السماد والبذور، إلخ) بالإضافة إلى حسن الإدارة العالمية – أي بواسطة المنظمات العالمية – لمعالجة مشكلة الجوع.

لكن عند مراجعة تلك الإحصائيات بصورة أدق تظهر حقيقة مختلفة. يقول مؤلفو الكتاب إننا إذا سحبنا الصين وسكانها من خارطة العالم، يتضح أن عدد الذين يعيشون تحت خط الجوع قد زاد في الواقع، بين 1970 و1990، ولم ينقص، وإجمالا زادت نسبة من هم تحت خط الجوع في العالم (ما عدا الصين) بمقدار يزيد عن 11%. ذلك يعني أن شعوب مناطق العالم التي كانت تعاني من نقص في الغذاء – مثل جنوب آسيا، وتشمل الهند، ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان – صارت تعاني أكثر، وذلك رغم أن كمية الإنتاج الزراعي-الغذائي عالميا ازدادت فعليا (فالمشكلة إذن لم تكن في الإنتاجية الغذائية، وإنما في سياسات وأعمال إدارة الموارد وتوزيع الغذاء). أكثر من ذلك، فإن الدولة التي حققت قفزة هائلة وملموسة في محاربة الجوع كانت هي الصين، إذ نقص فيها عدد من يعيشون تحت خط الجوع في تلك الفترة بحوالي 200 مليون شخص. باختصار فإن التقدم في هزيمة الجوع الذي كان يظهر في الإحصائية العالمية الكبيرة اتضح أنه منحصر في الصين إجمالا. وهنا قال مؤلفو الكتاب إن هذه المعلومات تدفعنا للتساؤل: ما هي الثورة التي حققت انتصارا على الجوع فعلا في العقدين المذكورين: الثورة الخضراء أم الثورة الصينية؟[3]

لنتذكر هنا أن الصين لم تكن دولة ديمقراطية، لكنها كانت دولة تنموية بامتياز، وفي تلك الفترة بالذات، إذ كان مشروعها الوطني هو تحويل الصين إلى قوة صناعية وإخراج معظم الشعب الصيني من خط الفقر وخط الجوع، وقد نجحوا في هذا المشروع بصورة عالية حسب هذا الوصف. ومن الجدير بالذكر كذلك، في نفس الإطار، أن الصين أخرجت قرابة 800 مليون شخص من تحت خط الفقر (وهذه ليست دعاية صينية، بل إن تقارير عالمية من جهات مثل البنك الدولي تقر بهذا الواقع [4]). وفي السنوات الأخيرة، في إطار دراستنا لمشكلة هجرة العقول، وجدنا أن مئات الآلاف من المواطنين في أوروبا وأمريكا الشمالية من أصول صينية صاروا يعودون للحياة والعمل في الصين (هجرة عكسية)، باعتبار أن أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية هنالك صارت أفضل بالنسبة لهم من الدول الغربية–مرة أخرى، نلاحظ هنا أن الدول الغربية تُعتبر أراضي ديمقراطية، حيث الحريات السياسية عالية، بينما الصين ليست كذلك (لكن يقول بعض خبراء الاقتصاد السياسي إن هنالك ديمقراطية ملموسة في الصين على مستوى المحليات وشؤونها – وكذلك في كوبا – رغم غيابها على مستوى الحكم المركزي وشؤونه). 

المجاعات والديمقراطية: صحيح، لكن العكس غير صحيح

في كتابات سابقة، كثيرا ما استشهدنا بما دفع به أمارتيا سن في كتابه “التنمية كحرية”، من خلاصات دراسات سابقة، وهو يقول بترابط الحرية السياسية بالحرية الاقتصادية، إذ يقول إنه رغم أن بعض البلدان التي تتبنى النظم الديمقراطية يمكن أن تكون فقيرة اقتصاديا مثل بلدان أخرى غير ديمقراطية إلا أنه لم يحصل توثيق في العصر الحديث لحالات مجاعة (famine) في دولة ديمقراطية، بينما حصلت مجاعات عدة في دول غير ديمقراطية. بل في بعض الحالات يحصل نقصان أسوأ في الإنتاج الغذائي والقوة الشرائية في بلدان نامية بأنظمة ديمقراطية تعددية – أي نقصان أكثر من بلدان نامية غير ديمقراطية – ويفسر أمارتيا ذلك بأن البلدان ذات النظم الديمقراطية تتعرض حكوماتها لضغوطات عالية بواسطة المعارضة والإعلام للتحرك بخصوص علاج الأزمة قبل حصول المجاعة رسميا بينما النظم التي تغيب فيها الديمقراطية لا تتعرض لذلك الضغط. يضرب مثلا لذلك أنه في الثمانينات من القرن الماضي حصل نقصان في الإنتاج الغذائي في بوتسوانا وزيمبابوي أكثر مما حصل في السوادن وإثيوبيا في نفس الفترة، لكن بوتسوانا وزيمبابوي نجحا في تفادي المجاعة بينما لم ينجح السودان وإثيوبيا، ويشير سِن إلى أن الحراك السياسي الديمقراطي [نسبيّا؟] في بوتسوانا وزيمبابوي وقتها شكّل ضغطا واضحا على الحكومتين إلا أن فعلتا شيئا بخصوص الأمر[5] . 

لكن القصة لا تقف هنا، ففي دراسات أمارتيا سن وزملائه أنفسهم المزيد. من جانب آخر، وفي كتابات سابقة لأمارتيا وآخرين (مؤلفات محررة مشتركة)، جاء ذكر نماذج لبلدان نجحت في تجنب مجاعات عبر التدخل الحكومي الواسع في أنظمة حكم  لا توصف بالديمقراطية والحريات السياسية المكتملة بعد، مثل تنزانيا في فترة حكم نيريري (والتي كانت دولة حزب واحد، بمشروع وطني تنموي، ثم تحوّلت إلى تعددية حزبية وانتخابات ديمقراطية لاحقا وبتأييد نيريري)[6].

وهذا يعيدنا لحديثنا أعلاه، فبينما يمكن أن نقول إن الديمقراطية تبدو أنها تشكل ضمانا ضد المجاعات، إلا أنها ليست الضمان الوحيد، فالدولة التنموية الجادة ضمان آخر وقوي (حتى لو لم تكن ديمقراطية). بل إننا لو لم ننظر للقضية بمستوى المجاعات فحسب (فالمجاعات حالات قصوى، لكن الشعوب في البلدان الفقيرة وضعيفة الإدارة التنموية ليسوا بخير حال ما دامت ليست هنالك مجاعات، فأوضاع الجوع الواسعة والمزمنة ليست أفضل سيناريو من المجاعات التي تصيب أضعف فئات الشعوب الجائعة)، فحتى الدول التي ليست بها مجاعات، مثل الهند، عانت مستويات عالية من الجوع (أي تعداد الناس تحت خط الجوع)، وما زالت تعاني، رغم أن الأزمة لم تصل لمرحلة المجاعة بعد الاستقلال إلا أن الأوضاع لم تكن جيدة أبدا.

عودة للسودان

وفقا لذلك، وحين نقول إن التنمية شرط  للديمقراطية في السودان، فإننا أيضا عندما ننظر لحالة السودان تحديدا نقول إن الديمقراطية ضرورة سياسية للسودان، لأن السودان، كحالة، ليس بالإمكان إدارة دفة دولته بنجاح عن طريق مركزية عالية، وعليه فهو يحتاج اللامركزية ويحتاج نماذج أفضل قدرة في حوكمة بلاد شعوب ذات تنوع عالي (ثقافيا وتاريخيا وبيئيا)، ووفق هذه الشروط فإن الديمقراطية مهمة جدا للسودان، لكن باستيفاء شروطها، ومنها التنمية واللامركزية (كما جاء في كتاب ممكنات السودان). ولذلك قلنا إن نموذج الدولة التنموية الديمقراطية أقرب ما يكون لطموحات وحاجة السودان…. وللحديث شجون. 

(نُشِر في صحيفة التغيير الالكترونية، 24 أبريل 2022)

——–

[1] Guillermo Vuletin, Julia Ruiz Pozuelo, and Amy Slipowitz. “Democracy does not cause growth.” Tuesday, September 6, 2016. Brooking Institution.  

[2] قصي همرور. 2020. حوكمة التنمية: قضايا وأطروحات. الخرطوم: هيئة الخرطوم للصحافة والنشر. صفحة 70

[3] Frances Moore Lappé, Joseph Collins and Peter Rosset. 1998. World Hunger: 12 Myths (2nd ed). Grove Press/Earthscan. Page 61.

[4] World Bank. “Lifting 800 Million People Out of Poverty – New Report Looks at Lessons from China’s Experience”, 1 April 2022, World Bank Press Release No. 2022/072/EAP. 

[5] Amartya Sen. 1999. Development as Freedom. Toronto: Random House. Pages 178-179.

[6] Jean Drèze, and Amartya Sen (eds.) 1991. The Political Economy of Hunger: Volume 2: Famine Prevention. Oxford: Oxford University Press, 1991. Oxford Scholarship Online, 2008. 

أضف تعليق