عسكرة الدولة، عسكرة الحياة

المؤسسة العسكرية المعاصرة وليدة الدولة العصرية (أو ما جرت العادة بتسميتها بالدولة الحديثة). قبل الدولة العصرية لم تكن هنالك مؤسسة عسكرية بهذه الصورة من الهيكلة الموازية لهياكل السلطة الأخرى في الدولة.

ولم يصبح وضع المؤسسة العسكرية بهذه الطريقة إلا باعتبار أنها حامية السيادة والسلطات في الدولة، أي ليس باعتبارها إحدى السلطات الشرعية بذاتها. لذلك فإن الدولة العصرية تعترف بسلطات ثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولا تقول بوجود “السلطة العسكرية”. دور المؤسسة العسكرية – على استقلالها النسبي – هو حماية السيادة والسلطات، لا منافسة هؤلاء في شأن الحكم. في أي وقت تتدخل فيه المؤسسة العسكرية في شأن الحكم فهي إنما تتدخل في ما لم تُصمّم له. حتى في حالات الطوارئ – مثل حالات الحرب، أو هدم السلطات الشرعية، أوالعدوان الخارجي – فإن تقدم المؤسسة العسكرية لا يكون مطلقا وإنما مضبوطا بالزمن وبالدستور أو طموحات الشعب وبتعاونها مع السلطات الشرعية في الدولة أو المفوّضة من الشعب.

وكوارثين لهيكل الدولة الحديثة/العصرية عن طريق الاستعمار، تعرضت مجتمعات ما بعد الاستعمار لعملية مستمرة، ومضنية من محاولة التكيّف مع هذا الهيكل الذي لم تشارك في بنائه محليا. هذه المحاولة توصف بمحاولة العودة لامتلاك التاريخ المحلي، وقيادة دفّته من جديد. هذه العملية تخللّتها، وما زالت، محاولة مستمرة للمؤسسة العسكرية لتغيير وضعها الموروث من الدولة العصرية لتتبوأ موضعا جديدا، يمكن أن يوصف بالسلطة الرابعة. المؤسسة العسكرية – تحديدا كبار الضباط، او المستفيدين الأساسيين من هرمية المؤسسة العسكرية – يريدون أن يكون لهم مكان شرعي في السلطة، وليسوا حماة للسيادة والسلطات الشرعية فحسب. يريدون ذلك الوضع بدون الاحتكام للشعب، لأن هرمية المؤسسة العسكرية في جوهرها ليست ديمقراطية، بل نقيض الديمقراطية، ولأن الموروث في تواريخ بلداننا أن القوة التي لديها السلاح الغاشم في البلد هي تلقائيا ذات سلطة في البلد، بوضع اليد لا برضا الناس.

هذا الوضع يزيد تعقيدا لأن الدولة العصرية من ميزاتها احتكار القوة الجبرية في حدودها الجيوسياسية، وهذا الاحتكار يوكل للمؤسسة العسكرية في معظمه (مع بعض التشوش بخصوص قوات الشرطة، فهي فنّيا تتبع لوزارة الداخلية ولكنها عمليا قوة عسكرية مخففة إذ المطلوب منها نظريا التعامل مع المدنيين داخل البلاد فحسب). وهذا الأمر من الخواص  المتينة للدولة، بحيث يجوز القول إن تميز الدولة العصرية عن جميع هياكل الحكم في التاريخ قبلها يكمن في ثلاث مسائل: المركزية العالية والبيروقراطية العالية والعسكرة العالية.

ولذلك فحين تكون دولة ما بعد الاستعمار فاقدة للشرعية في نظر مجموعة ما من مجموعات البلاد، وحين تكون لديها أسباب مقنعة لضعف فرص التغيير في تلك الشرعية عبر دولاب الدولة نفسه، فإن حمل السلاح ضد مؤسسة الدولة كلها – وليس المؤسسة العسكرية فحسب – يصبح خيارا مفهوما، ومتكررا، ومبررا عند أهله.

وبذلك فالمؤسسة العسكرية – تحديدا كبار الضباط – بسبب عدم قبولها للوضع المفترض لها في الدولة، تجعل الدولة العصرية في مجتمعاتنا (مجتمعات ما بعد الاستعمار) غير ممكنة، أو غير مستقرة، أو جحيما لا يطاق. بدل أن تكون المؤسسة العسكرية حامية للسيادة وللسلطات (والتي يفترض أنها تأتمر بأمر الشعب) تصبح نقمة وعبئا على الشعب وعلى الدولة، فهي تمتص موارده الاقتصادية ثم توجّه سلاحها وجبروتها ناحية الشعب نفسه.

هذه اللعبة الجهنمية قد لا تنتهي إلا بسيناريوهين: إما مواجهة جادة لبنية المؤسسة العسكرية نفسها، لا مهادنتها أو استرحامها وإنما إعادتها لجادة الصواب في المناخ السياسي العصري (وهنالك تجارب في هذا الصدد، مثل تجربة تنزانيا)، أو القبول بأن تصبح المؤسسة العسكرية سلطة شرعية رابعة، وحينها سيكون لدينا نموذج دولة مختلف نوعيا عن الدولة العصرية، إذ أنه يعني تلقائيا أن حكم الشعب بواسطة الشعب لأجل الشعب (أي الديمقراطية) مسألة جزئية فحسب، وهي حين تصبح جزئية يكاد يكون لا معنى حقيقي لها.

جديرٌ بنا أن نتأمل الآتي: معظم روايات الخيال العلمي، أو الروايات التي تتصور سيناريوهات مستقبل البشرية، تتضمن المؤسسة العسكرية فيها كلاعب أساسي؛ وفي تلك الروايات، كلما كانت القصة تميل للديستوبيا (أي أدب المدينة الفاسدة أو عالم الواقع المرير) كلما كان للعساكر فيها دورٌ سياديٌّ ثابت، وكلما كانت تميل لليوتوبيا (أدب المدينة الفاضلة أو عالم الواقع المثالي) كلما كانت المؤسسة العسكرية محتواة في المجتمع ومنصاعة له ومتمدّنة بتمدّنه.


أضف تعليق