كيف نفكر ككائنات أرضية؟

(هذه المدوّنة بلغة الكلام السودانية، وهي كُتِبَت كتعليق بمناسبة قضية أخذت اهتمام الرأي العام السوداني مؤخرا، حيث “تحولت أسود هزيلة تتضور جوعاً داخل أقفاص في حديقة القرشي بالعاصمة السودانية الخرطوم إلى قضية رأي عام، وذلك بعد انتشار مقاطع مصورة توثق وضعها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.” هذه المشاركة أتت كتأملات حول السياق العام، المحلي والكوكبي، الذي تظهر فيه مثل هذه الحالات).

بحب حدايق الحيوان جدا. من صغيّر ولغاية الآن. كل مرة أزور بلد جديد بسأل من حاجتين أساسيات فيها: المتاحف وحدايق الحيوان (والباقي حسب المكان). في مجتمعاتنا الحديثة نادرا ما نلقى فرصة نشوف ونتأمل في قرايبنا أبناء الأرض (earthlings) ونكون معاهم في نفس المحيط المكاني (رغم الظروف الغريبة) ونستفيد من الوقت ده في النظر لأنفسنا وسيرتنا من خلال مراقبتهم وبعض التفاعل معاهم. والحاجة دي ليها عائد وجداني وفكري، لو تعلمون، عجيب.

لكن، موقفي الحالي، ومنذ بضع سنوات، هي أنه لو ممكن نتخلص من حدايق الحيوان جُملةً، ونستبدلها بالمحميات الطبيعية (حيث عشان نزورها نكون نحن الضيوف موش الحيوانات التانية، ونكون نحن الفي أقفاص حماية لينا موش هم الفي أقفاص مؤبدة عشان خاطرنا)، فده حيكون أفضل بكثير. وافتكر في المستقبل حيكون في اتجاه زي ده — (إذا ما جاء النيزك أو كوارث طبيعية وعملوا شكّة من أول وجديد للعبة كلها، وفي الحالة دي حيحصل الشيء ده بدون تخطيط مننا). في الحالات المستقبلية المأمولة دي موش حينتهي سفك الدماء بين الحيوانات أو حينتهي الموت والمرض بسبب الجوع والقتال وغيره، بالضرورة، لكن حيقل الدور المباشر للبشر في الدائرة الطبيعية دي، وتستعيد توازنها اللي كان البشر سبب في تخريبه لدرجات كبيرة (كثير من الناس ما عارفين نحن خربنا الدوائر الطبيعية لأي درجات وفي أي اتجاهات).

وموش الكلام ده عشان مجرد الرفق بالحيوان، إنما عشان خاطرنا نحنا زاتنا، كأرضيين بشر (أو كفضائيين في أجساد أرضية بشرية، ما مهم)، لأنه حالة استخدام واسترقاق الأحياء الآخرين دائما فيها تقليل من مساحة حريّتنا نحنا وتعاطينا من الحياة كأحرار من الخوف والطمع (وليست الحرية إلا الحرية من الخوف والطمع، وما عدا ذلك مظاهر أو أصداء حرية لا غير). والكلام ده موش على المستوى الروحي فحسب (والمستوى الروحي وحده قد يكفي بعضنا) بل حتى على المستوى الاجتماعي المادي أيضا. مثلا، باولو فيريري – رائد محو الأمية، المسيحي الاشتراكي (بنكهة ماركس)، وأحد أهم رموز لاهوت التحرير – قال إنه من خلاصات العمل الميداني الطويل بتاعته أنه رأى كيف أن ممارسة القهر على الآخرين تورث قهرا داخليا وخوفا دائما وضيق خيارات مادية ومعنوية للذين يمارسون القهر أنفسهم.

علاوة على أن حالات القهر دوما حالات غير مستدامة، عشان بتخلق أوضاع غياب توازن اجتماعي وبيئي لا يمكن الالتفات عنها لتعمل تلقائيا، لأنها غالبا حتنفرط لو تغاضينا عنها قليلا. زي البهلوان البيلعب لعبة رص لعدة أشياء فوق بعض، ما طبيعي تكون فوق بعض، موش ممكن يفقد تركيزه على الحاجات ويتوقّع انها تفضل متوازنة.

وظاهرة الرفق بالأحياء عموما موجودة في الطبيعة. في مشاهدات كثيرة حول بعض الحيوانات المفترسة وكيف هي ممكن تكون أحيانا متراحمة مع الكأئنات الحية الأخرى في حالات بتتهيّأ فيها ظروف مختلفة ليها لإشباع حاجاتها الأساسية. لكن الرحمة والعدالة عموما، في مستويات فهمنا نحن كبشر، غير موروثة من الطبيعة الأرضية. دي قيم عليا استلهمها البشر مما وراء الطبيعة الأرضية، أو عبر تراكمات وتعقيدات اجتماعية وفلسفية تجاوزت بكثير ديناميكيات الطبيعة العايشين فيها معظم قرايبنا الأرضيين التانين.

الطبيعة مخلصة للتوازن أكثر من العدالة، عشان كده ما بتهمّها حياة غزلان أو خرفان بياكلهم أسد، لكن بيهمّها انه عدد الأسود والغزلان ما يتفاوت لدرجة كبيرة بحيث أنه جميع الأسود تجد دوما ما يشبع جوعها أو أن جميع الغزلان تعيش وتتكاثر بأمان كامل من الحيوانات المفترسة؛ أي حالة من الحالتين حتخلق حالة فقدان توازن حتقوم تأثر في استدامة النظام البيئي كله، والنظام البيئي يميل للاستمرار لأطول فترات ممكنة (رغم أنه هو نفسه بتحصل ليه نقلات نوعية بين الحين والآخر، لكن بحسابنا نحن البشر فدي مسألة ملايين بل بلايين السنين).

لكن نحن البشر تجاوزنا مرحلة الخضوع المباشر للنظام البيئي بكثير، بل أصبحنا أكثر الأرضيين تأثيرا في كافة تفاعلات الكوكب، لدرجة ممكن نغيّر الحقبة الجيولوجية بتاعته نفسها (زمان اتكلمنا عن ظاهرة “الأنثروبوسين”، أو الحقبة الجيولوجية الخشاها كوكب الأرض مؤخرا بفعل تأثير البشر). وحاليا تأثيرنا العام في مجمله ضار، بمعنى غير مستدام. من ذلك مثلا أن استهلاكنا للحوم الحيوانات تضاعف بصورة خرافية من الحقب التاريخية (مع تراجع حاجتنا للإمداد الغذائي من اللحوم)، وده موش نسبة لزيادة أعدادنا، إنما متوسط استهلاك الفرد الواحد مننا للحوم في العصر الحالي تجاوز استهلاك ناس زمان أضعاف أضعاف، في حين هم كانوا محتاجين للحوم أكثر مننا لغياب معظم الخيارات الأخرى المتوفرة لينا الآن. عشان نشبع لهفنا غيرالمبرر لأكل لحوم الحيوانات قمنا زدنا أعداد الحيوانات الداجنة في الكوكب بأضعاف مبالغة (وهي نفسها حيوانات نحن أعدنا إنتاجها من أسلافها الحقيقين في الطبيعة، بحيث أنه الحيوانات الداجنة أصبحت معتمدة علينا تماما وما ممكن أنواعها دي تعيش في البرية براها تاني– لو رجعت للبرية حتنقرض بسرعة أو تتطوّر بسرعة بعد موجات موت كبيرة)، والحاجة دي أثّرت على النظام البيئي كله (مثل كمية ونوعية المياه النظيفة في العالم، ومثل كمية ونوعية الأراضي الصالحة للاستزراع والاستقرار في العالم، ومثل الزيادة الفائقة لغاز الميثان في الغلاف الجوي وهو أحد اكبر أسباب ظاهرة التغيّر المناخي). ده كله طبعا بخلاف المصايب التانية القاعدين نعمل فيها، من زيادة التصحّر وإخلال المكوّنات الجيولوجية الكبيرة وبث السموم في مناخنا الأرضي واستنفاد حدود ما يستطيع الكوكب إنتاجه لإشباع حاجاتنا.

وغياب الاستدامة ده في النهاية بيرجع لينا نحن وممكن يتخلّص مننا (لأننا وإن كنّا تجاوزنا مرحلة الخضوع المباشر للنظام البيئي فلم نتجاوز بعد الخضوع غير المباشر له). فأصبحنا بسبب خياراتنا الواعية موش نهدد حيوات الأرضيين الأخرين فحسب وإنما حيواتنا نحن أيضا. والاكثر مفارقة في الموضوع ده كله انه خياراتنا الواعية دي متناقضة جدا مع مزاعمنا الأخلاقية عن أنفسنا، اللي بتقول أننا متقدمين في مسائل الرحمة والعدالة على بقية الأرضيين “غير الأذكياء” مثلنا…. ونِعْم الذكاء الذي يأتي بنتائج كهذه.

سوء معاملة الأسود في الحبس، وسوء تغذيتها، والتعاطف الذي ظهر عند البعض تجاهها، والجدل الذي جرى حول ذنب الخرفان الذين سيقتلون لتغذيتها، ده كله نقاش خارج السياق الكبير، في نظري. نحن صنعنا أوضاع رديئة عموما للأرضيين كافة، وقصة أسود الحديقة وخرفان “الضحية” تجلّي بسيط لمشكلة عاوزة حلول أكثر جذرية.

والحديث ذو شجون

أضف تعليق